تعد تجربة منذر مصري من أبرز وأهم التجارب في المشهد الشعري السوري في الجيل الذي تلا جيل المؤسسين أمثال محمد الماغوط وأدونيس, شاعر مشاكس يكتب بخفة متناهية لتأتي نصوصه من السهل ح. الممتنع , حين تقرأ له تشعر بأنه يسبقك لقول ما تريد التعبير عنه.. يلومه البعض على شعره وذهب آخرون لنزع الشاعرية عنه. لكن الكثير من الشعراء الشباب يعتبرونه أبا روحيا لهم. التقيته على صفحات موقع الفيس بوك وكان معه هذا الحوار..
* «منذر مصري وشركاؤه» كأنك بهذا العنوان تؤكد مايراه البعض بأنك شاعر مسكون بالحنين إلى الأصدقاء ؟
- ربما.. ولكن إذا فكرت بمصطفى أو نجيب أو مأمون أو زياد.. عدد محدد من الأصدقاء. ولكن عنوان الكتاب (منذر مصري وشركاؤه ) أي ليس وأصدقاؤه ! بعض هؤلاء الشركاء لا أعرفه على الإطلاق ! إنهم شركائي في الشعر.. لاغير.
الحنين.. ربما لدي مشكلة في موضوع الحنين.. غالبا ما أحن لناس فيكفيني أن أراهم لساعة أو أقل.. وينتهي حنيني. ولكن نعم أحن إلى أمي وجدتي التي ربتني.. وأحيانا أشعر بحنين لجدي الذي لم أعرفه!؟
* يقول انسي الحاج « أي شعر يستطيع أن يملأ فراغ كائن نحبه».. إلى أي مدى استطاع الشعر أن يعزيّك بأصدقائك الذين رحلوا ؟
- أصدقائي الذين رحلوا.. تقصد ماتوا !؟؟ نعم لدي صديقة ماتت.. كتبت لها «أشياء معدة للفقدان».
أمّا إن كنت تقصد رحلوا إلى الخليج مثلاً أو أوروبا.. وهم كثر فلا عزاء لدي على غيابهم.. لكنهم يعودون من حين لآخر وأراهم.
المشهد الشعري
* بعد أكثر من ربع قرن من تعاطي الشعر كحياة , كيف تنظر للمشهد الشعري العربي خاصة في ظل استسهال الكثيرين كتابة قصيدة النثر؟
- أحب استسهال الأشياء .. أحبه لأني أفتقده وأتمناه لنفسي! مع أن البعض أو الكثيرين قالوا إني أستسهل الشعر، وخاصة في بداياتي.. لكني أصدرت أول مجموعة شعرية لي (آمال شاقة) : /أشد ما أكرهه في اليأس.. سهولته/.. كما كان في إحدى قصائدها : تعرض الأشجار لمساعدته جذوعها وفروعها / فيقابلها بالجفاء وعدم الرد/..
أما كيف أنظر للمشهد الشعري العربي.. فأنا بالكاد أستطيع أن أحيطه بزاوية نظر مهما كانت مفتوحة.
جوابي المحدد هنا إلى أني يوماً لم أجد نفسي أقف وأنظر إلى مشهد بهذا الاتساع. هذا أمر لا جدوى منه. ما أعرفه هو أن الشعر مازال يستطيع جذب الكثير من البشر.. مازال الشعر قادرا على إغواء الكثيرين.. مازال باستطاعته اسقاط تفاحات شهوة المعنى واللذة لدى القادمين الجدد للعالم.. ماذا تريد أكثر.
* وصفت شعراء سوريا بأنهم خارجون من عباءة الماغوط ترى أي من شعراء جيلك ستخرج اجيال قادمة من معطفه؟ وهل التقيت بالشاعر الذي تشعر أنه خرج من عباءتك؟
- حسنا إذا أردت التبسيط.. أنا قلت هذا ولكن لست أول ولا الوحيد ولا آخر من قاله.. قلت الماغوط لعنة القصيدة السورية.. بكل ما للعنة من ايجابيات وسلبيات، من جيلي.. نعم يوجد شعراء يستحقون لقب لعنة.. رياض الصالح الحسين وسليم بركات ونوري الجراح ومرام مصري.
ثم اني لا أرتدي عباءة.. وإذا قلت معطفك ،نعم يوجد.. لماذا لا.. صرت كبيرا كفاية للأسف.. البارحة كنت أكتب قصيدة عنوانها.. «سرني أنك بت تسرق من قصائدي»؟
ضد {الكوابح}
* «إن لديه كوابحه التي تحد من القفز على شروط العملية الفنية» هذا ما قاله سعدي يوسف عنك في عام 1982، هل تعتقد أن شاعر قصيدة النثر ملزم باتباع شروط معينة حتى ينال الاعتراف؟ وما رأيك بموقف سعدي يوسف من أدونيس وقصيدته «رمل دبي»؟
- لا أدري ماذا كان يقصد سعدي بكلمة كوابح.. كتبت الشعر من دون أي نوع من الكوابح، ضد الكوابح بأنواعها.. ولكني جهدت لأكتب شعراً جيداً.. لم أنقَد لوصفات جاهزة في الكتابة.. ولم تأخذني تعابير أو كلمات دارجة.. كنت حريصاً أن أكون أنا.. وأكون صادقاً.. ليس فقط مع أحاسيسي وأفكاري.. بل مع شعري قبل أي شيء.. ألا ألفق قصائد، ألا أكتب قصائد ملفقة.. هذا ما كان همي.
حرصت أيضا أن أكون خارج الاعتراف والتكريس.. شعري.. ما أذهب إليه في الشعر.. يضعني دائما موضع شبهة. هكذا بدأت وهكذا استمررت وهكذا أريد أن أنتهي.. وكثيرا ما خيبت ظن من اعترف بي وآمن بشاعريتي.. فعلت هذا بغير قليل من الأسف.. ولكنني لم أستطع أن أبقى داخل الإطار الذي وضعني بداخله الآخرون.. دائما لم أستطع إلا أن أكون نفسي.. لا قدرة لي على جعل نفسي أفضل مهما حاولت.
أما الشاعر الذي يكون همه أن يعترف به.. فليس أنا.. أبداً.
قصيدة سعدي « النخاس السوري» تقصد!؟ ليست قصيدة جيدة هذا ما أريد قوله لك.. وأظن سعدي كان في حالة (خارج السيطرة) وكثيرا ما يكون كذلك، عندما كتبها وعندما أرسلها للنشر أيضا.. وهي لا تحسب له ولا عليه.. أحب سعدي كشخص وكشاعر.. بالنسبة لي يشكل حالة شعرية ليس لأدونيس أن يحلم بها. وعلى كل يسوؤني أن يسود المناخ الشعري مزاج كهذا، وكذلك ما وصفه سعدي بالقصيدة يسوؤني أيضا.. المهم أن أبتعد عن كل هذا ما أمكنني..
تجارب مشتركة
* كتب بعض الشعراء نصوصا مشتركا مع شعراء اخرين، هل ترى أن مثل هذه التجارب قادرة على ابهار القارئ وإخراجه من دائرة التفكير بمن كتب هذه الجملة؟ أم ستكون مجرد موضة وتنتهي.
ربما كان الابهار غاية سلفادور دالي ولكن ربما أكثر ما لا أحب فيه هو هذه الغاية!؟
- يوجد لدي مشكلة بالإبهار ولكن ما يهمني هو النص بحد ذاته، مستواه، ماذا يقدم بعد أن يبهرني؟ عندما كتبت نصوصاً مشتركة مع 80 شاعرا سوريا في «منذر مصري وشركاه» لم يكن الابهار في خاطري على الإطلاق.. هناك رابط بين الابهار والافتعال الذي حاولت طوال تجربتي الشعرية والتشكيلية تجنبه ما استطعت..
لن أفكر بما تعنيه بكلمة موضة في الشعر، الموضة ليست شيئاً عابراً فحسب، إنها صورة للعصر، أسلوب لتطور الذوق.. ثم انها ما ان تذهب حتى تعود.. ولكن رغم ذلك لا أظن الأعمال المشتركة، على ندرتها، دائماً ستختفي يوماً.. سيكون هناك دائما من يخطر على باله أن يأخد عملاً ما لسواه ويعمل عليه... في الرسم والموسيقى والرواية والسينما.. لماذا الشعر لا؟
* كثير من شعراء القصيدة الحديثة مشغولون باثبات شرعية قصيدة النثر، هل مثل هذا الجدل ينم عن قلة ثقة في ما يكتبون؟
- إذا كان ما تقوله صحيحاً، وهو ما أوافقك عليه ولكن بنسبة معينة، فإن ذلك يعود لاستمرار حملة الانكار المباشرة وغير المباشرة التي ما زالت تواجه قصيدة النثر. منذ أيام قرأت مقالاً لأحد الأسماء التي أحترمها يقترح تسمية قصيدة النثر: (نثيرة) وقد بذل فيه جهداً صادقاً ليجد حلا لما يرى أنه تناقض بين كلمة قصيدة وكلمة نثر، على أنه يرى لا مانع من وجود شعر نثري ولكن ليس قصيدة نثر.. وأنا أرى الأمر عكس ذلك تماماً، أي أني لا أستطيع أن أنظر إلى ما كتبه توفيق الصائغ وأنسي الحاج وعصام محفوظ وعباس بيضون، وخاصة المطولات، إلا بكونها قصائد ذات بنية، أو ذات هيكل، يخولها لتكون قصائد أكثر حتى من المعلقات السبع!
ثم ما هذه شرعية قصيدة النثر، كنت أظن أن كل فن خروج عن الشرعية، الشرعية شيء له علاقة بالقوانين، أو بحقوق الملكية، وغير ذلك.. أما قصيدة النثر فقد بدأت كتمرد على شرعيات الشعر العربي وحاملي أختام هذه الشرعيات كافة.
أما في ما يخص الثقة.. فأنا أرى من زاوية ما أنه جيد بالنسبة لشعراء قصيدة النثر ألاّ يكونوا شديدي الثقة بأنفسهم، أو بنتاجهم، ذلك الواثق المتباهي الصناج.. ليس شاعر قصيدة نثر بأفضل أحواله. بالنسبة لي أحتاج الكثير من الشجاعة لأصدق نفسي..
* تحطيم الأصنام مع رحيل درويش غاب الشاعر الجماهيري في المشهد الشعري العربي، لماذا لم يظهر الشاعر الجماهيري بين شعراء قصيدة النثر؟
- لا يوجد ماكينة لصناعة شاعر قصيدة نثر جماهيري، الماكينة التي انتجت القباني ودرويش وأدونيس بطريقة ما، غير متوافرة لدى أي من شعراء قصيدة النثر.. ولكن أقول لك.. أقم أمسية لأنسي الحاج في دمشق وشاهد جماهيريته، أقمها في القاهرة أيضاً وأنا أضمن لك جمهوراً كبيراً. بالنسبة لأنسي التمثال جاهز بالتأكيد.. ولكن ليس بالنسبة لشوقي أبي شقرا، وهو برأيي شاعر قصيدة نثر بامتياز، وكان له أكبر تأثير في أنسي نفسه وفي كثير ممن جاء من سلالة قصيدة النثر. إلا أن شوقي محطم تماثيل، بالقدر الذي هو محطم قصائد، لا يوجد إمكانية نصب تمثال لشوقي لأنه لا يهدأ، لا يقف ثابتا للحظة، كلما أملت أنه سيستكين، تقلّب وانشطر وتكسر. في (صلاة اشتياق على سرير الوحدة) خلت أنه، أخيرا هدأ روعه، وسيكتب قصيدة من دون أن يحطمها في النهاية.. ولكن بعده عاد إلى طيشه وغرابته، البعض يعتبره سرياليا ريفيا، بدائيا. بالنسبة لي هو من أعطى أروع مثال شعري في العالم ربما لمفهوم الحرية في الشعر، الشعر حر من كل شيء حتى من معناه، حتى من نفسه.
مما سبق يمكن الوصول إلى استنتاج ما، هو أن قصيدة النثر بذاتها لا تصلح لتكون جماهيرية. مقومات قصيدة النثر، الاسباب التي دعت لكتابتها، وما يبتغي منها شعراؤها، شيء آخر أبعد ما يكون عن الجماهيرية، أو حتى الجماهيرية النخبوية؟. لذلك لطالما رفضت لقب أو صفة الشاعر الكبير أو غيرها.. وذلك لشعوري الصادق أنني لا استحقها بقدر ما لا أريدها.
عبر حياتي التقيت مع شعراء كبار عديدين، ووجدت أني قد توصلت لحكمة مفادها: بقدر ما يكبر الشاعر يفسد.!؟
القبس
11 مايو 2010