لا شيء يجعلني في تجلٍ أكثر من معايشة نص للشاعر عماد أبو صالح، إنها رغبة العطش إذ تُروى. منذ البدء، يأخذك الشاعر نحو أغلفة رسمها وصممها بنفسه، حيث يطغى عليها الأبيض في الأغلب، رسوم بخطوط بسيطة، تعكس عالم الكتاب الداخلي، رغم أن عناوينها تشكّل بعدا مستقلا.. في لوحة ديوانه 'عجوز تؤلمه الضحكات'، يذرف العجوز قطرة دم من عينه، حين تؤلمه الضحكة.
وفي لوحة 'كلب ينبح ليقتل الوقت' السماء هي الأرض، بخشونتها وعنفها وقسوتها. النجوم على شكل أوراق، أعشاب مقطوعة الأعناق حول هلال، والهلال منجل بأسنان حادة، يمكنك حمله والحصاد أو 'الحش'! أما كتابه 'مهندس العالم' فحين نظن أن الشاعر يهندس العالم بمثلث ومنقلة ومسطرة، يكون عند عماد أبو صالح فراشة رقيقة، خفيفة، يكون حلما! والـ 'قبور واسعة'، خط ينحني قليلا، فيغدو بذلك عالما بلا حدود، أما 'أنا خائف' فهي بياض مرعب ورحب! الحكاية لا تتوقف عند الشاعر إلا بلوحة ساحرة رسمها، لديوان 'جمال كافر' والذي قال إنه خلاله 'صرخ صرخته الأكبر': رحيقُ المرأةِ نقطُ ثوبها النسائي المعلق في الشرفة، والرجل يغمض عينيه في الأسفل ويفتح فمه قليلا، ويوازي مكان النقاط فيلعقها، دون أن يفوّت قطرة!
إننا نشير نحو الشاعر المصري عماد أبو صالح، المولود في المنصورة عام 1967، نشير إليه أملا في أن نجده، نتوهم شكله وحركاته وكلماته بين القصائد التي نقرؤها، ونخمّن ما الذي يفعله الآن، وأي أحلام تمّر فوق جبينه! ذلك أن الشاعر لا يفتأ يركن إلى الانعزال، بل ويتغزل به!
هو الذي يغار من كفافيس، ويبتعد عن الضوء مثله، ليضيء أكثر، وربما ليعيش كحلم! يغمض عينيه سائرا في ذات الطريق، إذ نراه لا 'يبيع' جواهره/ كتبه، إنه يختار لروحه طريق خلودها بمحاربة المجد، ويعدنا بأن يسوي روحه في نفس النار التي سوّى فيها كفافيس روحه!!
نقرأ له، من كتابه السادس 'مهندس العالم'، يرصد الكتاب مفارقات، لكتّاب، مقرونة بالحياة على تأرجحها، هاهو اليوناني قسطنطين كفافيس:
' كان يؤثر على زائريه بطرق ذكية، أو على الأصح خبيثة. يستقبلهم في إضاءة خافتة (شمعة واحدة) ويكلمهم كلمات قليلة بصوت خفيض.
إنه حلم، كأنه ليس موجودًا'.. هكذا كانوا يصرخون، في عجب، بعد أن ينتهوا من زيارته.'
قاوم، طول عمره، نشر شعره في كتاب. يرى أن الصانع الماهر يحب أن 'يبيع' البضاعة 'الفالصو' ليستهلكها الناس، ويخفي الجواهر النادرة التي سهر، ببراعة، على صناعتها. كان يقوم بتوزيع أشعاره في نشرات مطوية بلغت عشرا في 1933، عام رحيله بجسده. كلما طبع قصيدة، يقوم بإضافتها إلى النشرة، ويكتب العنوان الجديد، بخط يده، في الفهرس. بهذه الطريقة أمكنه عدم تثبيت شعره في طبعة نهائية.
لماذا؟
حتى لا يمكن للناس أن يؤرشفوه. لئلا يقرأوه، ثم يهضموه، ثم النتيجة الطبيعية (أنا آسف) يتبرزوه.
إنه لشيء مريع أن يتخيل الواحد هذه الروح السامية هائمة على وجهها، مع الصراصير، في مواسير المجاري.
أغار من قسطنطين كفافيس.
أغزي نفسي بأنني لا أزال صغيرا، وأنه لا بد، في السنين القادمة، سأسوي روحي في نفس النار التي سوّى فيها روحه.'
أتذكر أول مرة قرأت له قبل عامين جملة سريعة عبر مسنجر صديق، وضعها كعادته بين أقواس، تقول: '... أو أن أسير بشارعين، في نفس اللحظة!' على غوغل، تظهر قصيدة 'الغريب' كاملة، فأقرأ وأعلقها فوق سريري، تماشيا مع حالة كنتُ أمرّ بها:
'أريد أن أمزق ستارة الجيران/ أن أضرب بطون النسوة الحوامل/ بقبضتي/ والرجال ذوي الكروش/ أن أكسِّر مصابيح أعمدة الإنارة/ أن أرش المازوت على رجل معه امرأته/ وطفله القذر ممسك بيديهما/ وأرطم رأسي الولد والبنت/ اللذين يتبادلان الحب بالمقهى/ أريد أن أفرغ إطارات السيارات/ وأن أضع كلبًا صغيرا/ في وعاء فاصوليا /،مطبوخ جيدا،/ لعائلة سعيدة/ أن أضم المدينة بين ذراعيّ/ أو/ ،على الأقل،/ أسير بشارعين/ في نفس اللحظة.'
لم أتوقف عن تأمل هذه القصيدة أبدا، إلى الآن.. أي رغبة في الانتقام تلك، في التكسير، في الاعتداء على الحياة البسيطة، ألأنها تنقصه!؟ 'أن أضم المدينة بين ذراعيّ، أو على الأقل، أسير بشارعين، في نفس اللحظة!' ها هو يثأر لهم منه، ويقتصّ!
' نحن،/ أبناء الفلاحين،/ يزرعوننا/ ثم يجهزون مناجلهم'. بهذه الكلمات يبدأ أول ديوان خطه عماد أبو صالح، عام 1995، 'أمور منتهية أصلا'.. أقرؤه وأتساءل عن الذي بدأ وكيف انتهى، هل يحتفي الشاعر بالنهايات منذ البداية؟ منذ أن بدأنا ننمو، كنا للمناجل، والقص، والحصاد!
وهل يرصد عماد أبو صالح، الحياة ببساطتها، وتفاصيلها العادية فيرفعها إلى حالة خاصة تعشش في التناقضات، وتصرخ برقة وقسوة في وجه الحياة؟
عناوين تشكّل قصائد بحدّ ذاتها، بوابات عالية تجبرك، بلا زخرفة، على التأمل فيها، قصيدة : اكتسبنا خبرة.. على أي حال: 'بكل أسف/ عملنا قوادين/ ، نحن الأولاد القرويين الصغار،/ الذين حملنا بطّاتنا/ ليضاجعها ذكور بطّات الجيران'.
إنه ينقلنا إلى صورة طفولة ريفية، يحملها أبدا، وينظر فيها بكامل وعيه 'عملنا قوادين'، 'اكتسبنا خبرة... على أي حال'! الطفل الذي يعيش في داخله، يتحرّك بالذكرى طوال الوقت، ولأن الطفل الذي يرسمه غالبا يحتاج لأن ينتزع الحنان، فثمة خطة لا بدّ منها، تقفز في ديوانه 'كلب ينبح ليقتل الوقت: 'رقية (خطة لأجل الصغار)': إلا أننا كانت لنا وسائلنا الخاصة/ لانتزاع حنانهم/ فقط، نجلس في الشمس/ إلى أن نصاب بالحمّى/ فيضطرون/ وهم يرقوننا../ أن يمرروا/ برفق،،/ أيديهم المعروقة/ على أجسادنا الصغيرة/ ويرموا لكلابنا/ التي يركلونها بوحشية/ خبز الرُقية'.
في كل دواوين عماد أبو صالح يطلّ طفل هادئ، متعلّق بأمه، يحملق في العالم بعينين دقيقتين، ويرسم الهواء، الطفل الذي ما زال خائفا من الفقد، وإذ يغني للفقد، فإن كل ما يفعله هو أن يفاجئ القادم أيا كان- قائلا: قلت لك، عرفت أنك ستفعل هذا أيها الوغد! أقسم أني كتبت هذا، انظر!
كانوا يجهزونني للنبوة.. ضيّعتها لأنتقم منهم':' تقول قصيدة
حينما كان أبي يضربها/ وتهجر البيت/ كنت أتشبث بذيل ثوبها/ وأجري في الغيطان/ خلف خطواتها المتعجلة/ وحطب القطن يخدّش خدّي/ لم تكن تحملني أبدًا/ لم تكن تبطئ خطواتها لأجلي أبدًا/ طرحتها السوداء/ التي يطيرها الهواء/ فوقي، / غمامة/ تمطر الدمع'.
الطفل الذي يكونه الشاعر هنا، متعلق بالحياة/ الأم، ولا ينال منها إلا دمعا، يمطر حزنا!
كأنه يحارب السلطة الأبوية، مائلا إلى أنوثة الحياة وخصوبتها، كأنه ضد الأب/ الحاكم/ الدكتاتور، ولعل قصيدة 'قلوبهم خشنة، (لم يحُكّها الحب)' من أحب القصائد التي ظننت أبدا أنها تحمل حسّ الأمل عاليا:
' دائمًا يتواطأ الهواء معهم/ وينفخ جلابيبهم/ ليظهروا أمام أعيننا الصغيرة/ أضخم من حقيقتهم/ لم يكونوا يحضنوننا/ مثلما كنا نتوهم/ كانوا يثبتون لنا/ أنهم قادرون على تحطيم ضلوعنا/ لو عصينا أوامرهم.'
لا يبدو الأب ضخما، الهواء من يجعله كذلك، هذه ليست حقيقته، لننزع عنه جلبابه ولننظر، تلك القدرة التي يظنون أنهم يملكونها، إن عصينا أوامرهم، بتخويفنا، محض هواء!
فهل هناك نظرة أعمق!
يلحّ الشاعر في الدفاع عن الأمومة، ضد قسوة الأبوة في نص فاتن أسماه: 'أبي هو الآخر، فنان كبير' في كتابه 'مهندس العالم':
' أكره قوس قزح.
أخاف منه. أخبئ عيني في المرات النادرة التي يلون فيها وجه السماء. أحمر. أزرق. أخضر. أصفر. برتقالي. بنفسجي.
كنت الطفل الوحيد في العالم الذي يكره قوس قزح.
أبي كان يمسك دائما خيزرانة. لم أره أبدا من دون خيزرانة. كأنها إصبع طويل نابت في يده.
وسيلة التفاهم مع الكلاب، والبهائم، و.... أمي.
تفك ملابسها لتستحم. تقف، بجسمها السمين، في الطشت، وتريني آثار الضربات. أحمر. أزرق. أخضر. أصفر. برتقالي. بنفسجي.
أقواس قزح صغيرة تملأ ظهرها وكتفيها
أبي هو الآخر، فنان كبير. يرسم، بعصاه، رسوما ملونة على لحم أمي.
أكره قوس قزح.
أكره الأحمر. الأزرق. الأخضر. الأصفر. البرتقالي. البنفسجي
أحب السواد!'
لقد بقي عماد أبو صالح من أول ديوان له، وحتى السابع، ينزف أمه، والحياة. يعرّي الألم والتعب وقشور الجدران التي غزتها البرودة، بقينا نرى آهة عميقة تجري في دمه، وتنتقل في شعره، بعفوية تكاد تكون في موضوع الأم/ الأب بالتحديد قاتلة! أقرأ من قصيدة 'عيد ميلاد أمي':
هل قال أبي لأمي/ ولو لمرة واحدة/ 'كل سنة وأنت طيبة؟'./ إطلاقا./ ولا هي نفسها/ كانت تعرف يوم مولدها./ كأنها لم تكن/ ، في أي يوم،/ طفلة./ كأنها مخلوقة هكذا:/ حافية/ بملابس سوداء/ وبين وقت وآخر/ تهرش شعرها الأبيض/ بيديها الملطختين بالطين/ كأنها تصبغه/ الشيء الذي ظل يذكره/ هو يوم موتها./ كأن الموت/ هو الدليل الوحيد/ على أنها كانت حية/ في يوم ما/ في الحياة./ .... / إنه حتى لم يفكر/ أن يهديها حزمة عشب/ من التي يحملها/ ،كل صباح،/ لبقرته./مع أنه كان يقيم حفلة/ كل ربيع،/ للطيور/ يحرث الأرض/ يغطيها بالماء/ ويبذر البذور/ ،من حجر جلبابه،/ مثل شيف محترف/ يرش المكسرات/ على تورته كبيرة.'
لتفاصيل الحياة القروية، على قسوتها، بُعد مختلف نراه، فالقروي كما وصفه لنا في القصيدة السابقة رجل جاف، يكتم مشاعره بينما يفضحها للأرض والبهائم، وهو بذلك يتناسب مع حياة القرية، فالقرية ليست ذات هواء عليل، جميلة ومليئة بالخضرة، والصفاء، هي أيضا مكان عادي، قاسٍ، هواؤه مليء بالدقيق، ورائحة الإوز والعرق، والجلد المتقيّح، والفؤوس على الأكتاف. تظهر جليا في قصيدة 'كل هذه السنين': 'يعودون كل مساء/ حاملين الفؤوس على الأكتاف/ وبأورام صغيرة في الأيدي/ زرعوا القمح للتمويه/ بعد فشلهم في العثور على الكنز/ الزوجات ينظرن لهم في صمت/ ولا يُعيّرنهم/ هن أيضًا أضعن أعمارهن/ في سرقة النهر/ بجرارهنّ.'
ومن ديوانه الأخير 'جمال كافر' نرى كاميرا تمرّ ببطء على الأماكن، نرى بعينيه مشهدا، يقلب فيه الأمور، فيجبرنا على الابتسام بخفة الفقراء في عيش لحظة ترف ساهية:
'علبة سلمون.. كوبي/ ولحافي شِوال قديم./ دوبارة رباط جزمتي/ وحبيبتي كلبة الجيران./ الناموس فراشات دارنا/ نجفة السقف عنكبوتة/ حفلة السواريه صوت صرصار/ شجرة الصفصاف شمسية/ شاطئ الترعة البلاج/ وسحابة آيس كريم./ عمي بنْته البلهارسيا/ أمي ملكة شعب الدجاج/ أبي/ آه من أبي/ ربّاني/ بكل خبرته/ في تربية البهائم.'
لا يمكن الحديث عن شعر عماد في الأنثى بحياد، على الإطلاق، استحالة! هي التي تبدو كشعلة نور، كفراشة، كقمر، كأمل، وسط شقاء وألم وقسوة: 'أنظر للبنت الجميلة، وأقول : من يأمن الزيت عند الطهو!.'
خائف أم متحرّق هو!
في قصيدة 'ستدوس الموسيقى' من ديوانه الأول:
'تغمض البنت عينيها في الشرفة/ وتمد ذراعيها/ الولد يشب على قدميه/ ويمد ذراعيه/ في الشرفة المقابلة/ تبقى مسافة/ تقطع خيوطها الوهمية/ العصافيرُ العابرة'. يلعب أبو صالح، على المسافة والفعل، خلال عدد غير بسيط من القصائد التي تنثر المرأة فيها رحيقها:
'على المقهى/ في وقتين مختلفين تماما/ يجلس عاشقان مختصمان/ يقبّلان بعضهما/ عبر كوب شاي وحيد'. لا يغني الشاعر لتماس جسدي، بقدر ما يسحره الخيط الرفيع من القرب والرغبة والانصهار، لقاء في كوب شاي وحيد.. أو، كما نرى هنا:
'مشبك في الشرفة/ يمنع ثوب امرأة وحيدة/ من أي يطير/ لجلباب رجل وحيد'، الوحدة التي يقتلها بامرأة، بكوبها، بثوبها، بإغماض عين على أصابع قد تتلامس!
لا يكف عماد أبو صالح عن طرق أبوابنا كلّها، لا يكفّ عن جعلنا نسهو للحظات لنركض خلف المعنى لاهثين، فرحين بالبدايات، والأسئلة، والحيرة الأنثوية الشهية، ففي ديوانه الثالث 'عجوز تؤلمه الضحكات' يقول في قصيدة 'كل يوم تسرق خيطًا.. لتصنع له كوفية 'أصبحت مرتبكة جدًا/ منذ أن نظر في عينيها/ وهي مسرعة في الصباح/ نصف نائمة/ إلى المصنع./ ساهمة باستمرار/ هي لم تضع لأحد/ الملح في القهوة/ لكنها/ كانت تنسى دائما أن تغير الخيط./ رئيسة الوردية/، بعد أن هز قلبها منظر الدمع/ اكتفت بخصم يومين/ وهددتها بالفصل نهائيا/ في المرة القادمة./ أحيانا تخاف،/ وهي تتذكره/ أن يقفز قلبها فجأة/ وتلتهمه الماكينة/ لدرجة أنها صارت تلبس ثوبين/ فوق بعضهما / آه/ لو كانت تستطيع/ أن تخبئ من أمها/ ثمن وردة/ لعرفتْ/ وهي تقطف أوراقها،/ حقيقة مشاعره./ يحبها/ لا يحبها/ يحبها/ لا يحبها/ يحبها/...'
حياة كاملة في هذه القصيدة، عيش، وتعمّق في نفس الأنثى، إذ يدهشنا كل هذا، لمّا يجيء غير متكلف، وبصوت أنثوي كامل.
لا شك أن الشاعر قرأ فرح البياض في العيون، شعر به، فمن ديوان 'أمور منتهية أصلا': 'الفراشات البيضاء/ سيصنعن ثوب زفافك/ ينسحبن/ فراشة/ فراشة/ ويتركنك عارية لي.'
كثيرا ما أتخيل المرأة التي في داخل الثوب، لم يصف لنا عماد أبو صالح امرأته إلا في ديوانه الأخير 'جمال كافر' عام 2005، بدت امرأة شرسة أنبه أن الشراسة تختلف عن القسوة- وناعمة في الوقت ذاته، متناغمة مع رقته وشراسته أيضا، لا يقول لنا إنه يحب عينيها العسلية، لا يتغزل بساقين، أو فم، أو خصر، من قصيدة 'عيناكِ':
'كلام مضحك جداً، هذا الذي يقوله الشعراء في العيون. لو كانتا طبقي عسل
سيعيش الذباب فيهما./ لو نافذتان من الليل، سترشحان دموع الأطفال، المرعوبين من الأشباح
في الظلام/ لو بحيرتان زرقاوان، ستعوم فيهما جثث الغرقى، ويفقأهما الصيادون بصنانيرهم./
لو شجيرتان خضراوان، سيتعشى بهما خروف صغير/ هكذا يمكن لأي شاعر مبتدئ، اليوم، مسخرة هذه الرومانسية الزاعقة/ أنتِ عيناك قاذفتا قنابل، ورموشهما متاريس/ حاربي لأجلنا/ اصطادي بهما اللصوص والقتلة/ وأقيمي العدل في العالم/ ما عاد يجب أن نخجل، نحن الرجال، من أن نختبئ خلف امرأة'. هي شراسة الحياة المغموسة بالحياة، متاريس، وقنابل،... للحياة، للعدل! وهو هنا، يعيد حاجته لأم أيضا، وكطفل سيختبئ خلف امرأة!
إنه يأتينا من أقصى المشاعر الإنسانية عذوبة، من تفاصيلها كلية، لا إقصاء لشيء في أنثاه، إنها كما هي، هكذا كاملة، وبهية، نتمعن قصيدة 'صباح الخير'
'صباح الخير/ على ذبول عينيكِ/ صباح الخير/ على عريشة شعرك./ على نقطة العسل/ السائلة فوق المخدة/ من فمك.'
من يأبه لنقطة لعاب فوق المخدة صباحا؟!
صباح الخير/ على الملابس المتسخة/ في سلة غسيلك./ على بقايا طعام العشاء/ في صحون مطبخك./ على الفنجان/ الذي يحبس أنفاس القهوة/ لتبقى ساخنة/ في انتظار قبلتك./على التراب العالق بنعل جزمتك.'
لا حب أفلاطوني، لا مثالية، الأشياء كما هي، المعاني فقط تختلف.
الحرب التي تجرجر العالم كله وتحركه، تغرق شاعرنا بنعمتها، وها هو يشكرها، إنها تستحق تلك السافلة!
'شكراً للحرب': 'حين تخاصمينني/ تخرج الحرب من الشاشة/ وتصلح بيننا./ تملأ صحوننا/ الفارغة/ بطعام العشاء:/ كوارع ساخنة بجِزمها/ سُجق أصابع طازجة/ شفاه عشاق مقصوصة/ بالقبلات/ للتحلية/ تزحف قذيفة سليمة/ تعرف شوقك للأمومة/ وتنام/ ، كطفل وديع،/ في سريرنا/ النار تمد ألسنتها/ تأكل ملابسك/ وترميك عارية في حضني.
شكراً للحرب/ للعبوات الناسفة لخلافاتنا/ لكونشرتو الانفجارات/ لورد الدم/ لفازات الجماجم/ لبارفان لحم البشر المشويّ/ أكثر/ أكثر/ التصقي بحضني أكثر/ أنا عشت عمري/ كله/ في انتظار هذا الحضن'.
لا نستطيع التسحّب من قصائد أبو صالح، إننا ننغمس بها فنكتسب كل مرة، شيئا غائبا. أقرر أن أدوّن قصائده على فترات لنتنعم بها، عبر مجموعة في موقع التواصل الاجتماعي 'الفيس بوك'، أعنونها بـ' عماد أبو صالح مهندس العالم'، ربما لأنه مهندس رائع، يعرف كيف يجعل فراشة تقفز، وكيف يسهو الدمع مختلطا بالبسمة، مجموعة أطلقها في محاولة استدعاء الشاعر عساه يقرأ فيرى كم نحن بحاجة لديوان قادم..
ما هي آخر قصيدة في آخر ديوان له؟ ينتابني هذا السؤال في آخر هذه السطور، أقرأ العنوان: 'آدم وحواء'... إنها نهاية صاعقة؛ إنها البداية!
' ستكونين معي وسط العشاق في حديقة./ يدك في يدي، ورأسك على كتفي./ ننعس قليلا ونصحو، فلا نجد أحدا حولنا/ أين العصافير والورد، والعربات، اللصوص والجوعى؟/ أين الكلاب والقطط، البيوت والشوارع، القتلة؟/ أين راحت الحياة؟/ لا شيء سوى الفراغ، وصدى صوتنا/ نتعب من المشي. فجأة تنبت شجرة نستريح تحتها./ تتفجر عين ماء، أسقيك منها/ شيئا فشيئا نفهم أن الناس صعدوا، ليحاسبهم الله في السماء/ أنا وأنتِ، يا حبيبتي، وحيدان هنا على الأرض/ لا بد أن الملائكة ستبتسم لنا من الأعالي وتقول:/ 'والنبي يا رب/ امنح البشرية/ فرصة ثانية'.
فرصة ثانية!
أمل أخير ... للعشاق فرصة ثانية، للعصافير، والشوارع، والبيوت، للقتلة، والكلاب والقطط، للجوعى، واللصوص، للحياة فرصة ثانية..!
هل كان الشاعر عماد أبو صالح، يعزف/ يبكي لأجل حياة ثانية!!
القدس العربي
2011-10-30