منذ نعومة أظفاره والعراق آلة لحن منسي عمرها عشرات آلاف السنين، يحملها في قلبه وطنا حينا وآخر دفئا يقيه برد الاغتراب ووجع السنين. نصير شمه ابن الفرات الاوسط اقسم الا يطأ ارض الرافدين وقدم الاحتلال فيها.
في بغداد حط عازف العود العراقي نصير شمه رحاله بعد ترحال طال قرابة عقدين من الزمن بعد ان شكك صدام بوطنيته وأودعه الحبس وأوصله حبل المشنقة، بعدما أصدر بحقه حكم الإعدام، شمة الذي يذكر لـ«السفير» وقفة المثقفين العرب معه حين تم اعتقاله في سفارة العراق في الاردن وترحيله الى العراق، متذكرا معاناته وهو يدافع عن بغداد بآلته العراقية في المحافل الدولية وفي المهرجانات، يذكر لنا انه انشأ بيتا للعود العربي بدعم من الجامعة العربية، كما حرص على كسر حصار العراق ومعالجة ما خلفته الآلة البربرية الأميركية على حد قوله «حين قضت على الأخضر واليابس وصادرت ثقافة العراق وطمست ارث حضاراته وقتلت أبناءه وشوّهت الملايين من الاطفال، بعدما اصيبوا بتشوهات خلقية كثيرة جراء اليورانيوم وما استخدم من اسلحة في غزو اميركا العراق».
في فندق الرشيد بوسط العاصمة بغداد نزل نصير شمة مع فرقته الموسيقية العربية، بدعوة من الجامعة العربية، ليكون ضيف دولة لتقديم فعالية لعودة بغداد على آلة العود. معه هذا الحوار:
* لماذا اتخذت قرار القدوم الى بغداد وتحديدا مع انعقاد القمة؟
- بعد خروج الأمريكان من العراق وكما وعدت وأقسمت على انني لن ادخل العراق حتى أمحو هذه المرحلة الزمنية من ذاكرتي ولا يكون لها وجود، وجدت ان عليّ الالتزام بوعدي وأن هذه الفرصة هي الانسب في ان اكون في بغداد وقت انعقاد القمة العربية فيها، وتحديدا في هذا الظرف الذي تمر به بغداد.
* هل تنوون الإقامة المستمرة في بغداد؟
- لا بد من ذلك، فأنا أعيش في العراق والعراق يعيش فيّ، وأعتقد ان العراق في حاجة الى ابنائه الآن خصوصا أنه لم يعد هنالك من مبرر في أن نبقى بعيدين، يجب أن نكون قريبين، وهنا، كي نساعد وأعتقد انني سأغادر ثم اعود حتى اتمكن من الإقامة بشكل نهائي.
* كيف وجدتم بغداد؟
- لم أتجول في بغداد كثيرا، بل انني لم اتمكن من مشاهدتها كما يجب، بسبب الإجراءات الأمنية التي رافقت انعقاد القمة وتأمين حماية القادة العرب، وأجزم بأنني لا أتمكن من وصف اللحظة او الشعور الذي انتابني عندما استنشقت اول نفس من هواء بغداد على سلم الطائرة، فدموعي هي التي كانت تعبر عني، ولا استطيع ان أصف القبح الذي رأيته. فالصورة التي أراها لبغداد هي تلك التي رسمتها منذ الصغر، فأنا أعود لذاكرتي «وأمنتج» كل هذه اللحظات، لأجتزئ منها الدمار والموت والخراب الأميركي، وأرى بغداد مثلما انا عهدتها.
ربيع لن ينتهي
* كيف تمت دعوتكم الى بغداد؟
- دُعيت من قبل الجامعة العربية، وقمت بانتقاء مجموعة مختلفة من تلاميذ بيت العود العربي، وهم عازفون متمكنون لتقديم قطعة موسيقية تسهم في إثراء بغداد وإزالة الغبار وصوت ضجيج المفخخات والرصاص عنها، وقمنا بتقديم معزوفات من ألحاني، خصصت بها دار السلام، مشددا على عودتها الأبية عاصمة عربية بعدما مرّ بها من صعاب وعانت ما عانت، بغداد اليوم تحتاج الى وقفة حقيقة، ولا تكتفي بزعامة القمة او العرب، فهي تفتش عن وجود انساني وحضاري يعيد لها ما سُلب، لتنزع عنها ثوب الحزن. الاحتلال الاميركي للعراق والحروب دمرت البشر قبل الحجر، وتركت ملايين الأيتام والأرامل، وشوّهت وجه شهرزاد وأساءت الى زرياب اول عازف عود في العالم، فلست أنا من عدت بل عادت معي تلك التي صنعها الأجداد هنا ولم يصنعوا آلة قمع بل صنعوا لحنا وأغنية وسلاماً، ما يفسده السياسيون نحاول اصلاحه، وإن لم نتظافر جميعا فلا داعي لهذه القمم ان لم تخرج بنتيجة لشعوبنا التي ذاقت من السلاطين اسوأ الويلات وأبشع الانتهاكات.
* هل تخشون على العراق من شيء، لا سيما اننا نشهد سعيا جادا لعودة طبيعية للدور العراقي في المنطقة بعد التهميش؟
- البعض عزف في فترات مختلفة على وتر الطائفية والمذهبية والعرقية والمناطقية وكلها أجندات، وأنا أعزف ومن معي وأدعو الجميع الى ان نعزف على وتر السلام والحب، وتر الانتماء الحقيقي الى اوطاننا، التي لولانا لم تكن اوطانا. والخوف الذي تتحدث عنه كان يلازم كل الشعوب العربية وهو ما دفعها الى المناداة بالحرية والثورة ضد الطغاة، واليوم نشهد ربيعا لن ينتهي في دول سقطت بها العروش، ولكن سيستمر بإرادة حقيقية حتى تتبدل المنظومة الموالية للغرب او تلك التي تطبع مع اسرائيل، وأميركا لا خيار لها الا الدفع بنا نحو التفتت والتشتت، وعلينا الاقتناع بمقدرتنا على البناء والتكامل، وأريد ان أنبه البعض ممن تمكن من خلع طاغوته الى ان يضع التجربة العراقية نصب عينيه، ويعمل على الا يتكرر سيناريو عراق جديد في سوريا او اليمن او ليبيا او حتى مصر وفلسطين، من يحاول تقسيمنا، وإن كان طرفاً داخليا، فهو صورة لمشروع صهيوني أميركي في المنطقة. والحديث عن تقسيم العراق وإن طرح فهو اقرب الى المستحيل، ففي العراق من العروبيين ما يجعله بلدا سيدا قادرا على الوقوف بوجه مثل هذه التداعيات.
(*) عزف نصير إذاً في بغداد الرشيد بعد قطيعة استمرت اكثر من تسعة عشر عاماً، ولف صدره وعوده بعلم العراق، وكان الى خلفه ثلةٌ من شباب عربي جلهم من جيل الثورة وربيع التغيير. وكان الحضور، من رؤساء ووزراء عرب وعراقيين ونخب ومثقفين، قد فرح بوصلة «بغداد السلام تعود ونعود».
السفير
4 ابريل 2012