بقيت ابتسامة " أمين صالح " الكاتب والقاص والسيناريو عالقة بأسئلتي التي قال عنها صعبة ومحرضة ، دخلها رجلا مبتسما وخرج منها طائرا يصعب التكهن بما يمكن أن تكون قد أحدثت فيه سوى من بوح خلاب أفضى به من خلالها .. ذلك هو أمين صالح الذي كتب " إذا أردت أن تنتمي إلى عالم الكبار ، ينبغي أن تدفن الطفل الذي كنته في داخلك ..وفيما بعد سوف تدفع ثمن هذا الانتماء إن رغبت فيه . سنوات تعبرها ركضا ، أو تعبرك ركضا ، وكلما عدوت ، ازددت ذلك الطفل غيابا أو غوصا في أعماقك حتى تظن أنه قد اختفى ومات ، ولم يعد له وجود .
وليلا ، في غرفة ضيقة وباردة ، تحن إلى وطن كان ، عالم كان ، طفولة كانت ، ووحيدا تبكي . ثم تظن أن وطنك في الصداقة . وجوه تأتي ، وجوه تذهب ، وجوه تبقى ، لكنك لاتزال تشعر بنهم تجاه شيء مفقود ، شيء لاتعرفه "
في هذه الأسئلة كان النهم إلى رجل بحجم " أمين صالح " كبير .. لا يتوقف .. بقي هو المتمرس على القفز فوق الحواجز في الوقت الذي كانت الأسئلة تدور حوله .. فأزداد غوصا فيها حتى أفضى بشيء مما يمكن أن يقال عنه ، في صفحة " على المكشوف " يضحك أمين صالح بنهكة الوجع ، ويمارس الصمت في وقت الصدمة ويقول كل خذلان هو موت طفيف.. ثم يشير إلى الحب الذي لم يكن عنيفا في عمره هنا " أمين صالح" يكشف بوحه ويغيب في سطوة الأجوبة بعد تناقض الحكاية .
لذة النص
1. الشعر هو ممارسة حياتية قبل أن يكون نصا باذخ العذوبة والجنون .. هل يعيش أمين صالح هذه الحياة الشعرية ؟ أم أنه يهرب من سطوة الواقع إلى جنون الشعر والكتابة حيث الأحلام والطفولة والقفز؟
حياتنا اليومية تخلو من الشعر. في الواقع هي طاردة لهذا الشعر.
إنها تقتات من الرتابة، التكرار، الابتذال، العادية. قد تشهد شيئاً من المجازفة، شيئاً من الإثارة، وربما الكثير من الصراعات، غير أن كل هذا يقع خارج نطاق الشعرية.
يمكن إيجاد الشعر، أو اكتشافه، في الأماكن أو الأشياء البعيدة عنا، في ما وراء متناول اليد، في الخارق والمعجز، في الأشكال الفنية والأدبية، في الحلم والمخيلة والذاكرة. لكننا لا نعيش الشعر. لو كنا نتنفس الشعر كما الهواء، لو كانت تجاربنا اليومية ممتزجة بالشعر، لأصبحت حياتنا أرقى وأنبل، لأمست أكثر إشراقاً، أكثر إنسانية.
شخصياً لا أميل إلى الكتابة عن تجربة عشتها. قد يحلو لعدد من الكتاب أن يستحضروا تجربة عاشوها، تجربة السجن مثلاً، متذكرين كل التفاصيل الدقيقة، كل ما أحاط بالفعل من علاقات وصراعات وتداعيات، ويقومون بتكرار التجربة حرفياً، بإعادة تمثيل ما حدث، لكن على الورق.
النص هنا يصبح صدى، ترديداً لحدث سابق.. قد يكون له قيمة توثيقية، تعليمية. لكن القيمة الإبداعية مشكوك فيها، إلا إذا تم توظيف تلك التجربة ضمن نسيج فني تكون هي محركة أو قوة دافعة ومحفزة لرؤية تنطلق منها. أما التوظيف الحرفي والتوثيقي فيبقى خارج حدود الإبداع، ليدخل ضمن نطاق التقرير.
أميل إلى كتابة تجربة لم أعشها، لم تعشها شخصياتي. تجربة متخيلة لكن ليست منفصلة عن الواقع بل متجذرة فيه. آنذاك أكون أكثر حرية. غير مقيّد بالتفاصيل (تفاصيل ما حدث) والمعطيات والمبررات ومنطق الواقع. أكون أكثر اقتراباً من الشعر، من عوالم الحلم والتخيل. إن لذّة النص، بالنسبة لي، تكمن في حرية السفر عبر عوالم مجهولة، وغير مكتشفة.
النقد الموجع
2. ليس ثمة قراءة واحدة للنص .. النص الجيد يصمد ويحتل مكانة بارزة حتى لو قلل النقد الحالي من قيمته .. هكذا يوما قلت .. هل يوجعك النقد القاسي؟ وماذا عن " أمين صالح " هل وضعت أصبعك يوما في صدره وقلت له " لقد أخطأت ؟ ومتى حدث ذلك؟
لا اعتراض لدي على قسوة النقد، رغم أنه موجع حقاً. من وظائف الناقد أن يحلل النص ويكشف إيجابياته وسلبياته. القسوة تكون مقبولة ومبرّرة إن شفّت عن حب واحترام ورغبة صادقة في الكشف عن نقاط الضعف بدافع التجاوز والتطوير. لكنها تكون مرفوضة إذا صدرت عن كراهية أو ضغينة، وعن رغبة شريرة في تدمير عملك وإذلالك.
قلت في أكثر من موضع، أن النقد فعل حب، أو هكذا ينبغي أن يكون. ما جدوى أن يتحمّل الناقد عناء الكتابة عن عمل يكرهه أو لا ينسجم معه ؟ إنها مضيعة وقت لكل الأطراف. لم لا يتجاهله ويوفر على نفسه حالات التوتر والغيظ والمزاج السيئ.. يوفر الطاقة على الأقل. أليس من الأجدى والأكثر أهمية أن يوجّه هذه الطاقة في نقد عمل يحبه حتى لو أبدى رأيه بقسوة وصرامة.. فالحب لا يعني التساهل والمجاملة والتملق والمهادنة.
عن أخطائي؟ آه، لا تحصى.. ويسهل اكتشافها. لقد كتبت أعمالاً للتلفزيون ندمت لأنني كتبتها بعد أن شاهدتها منفّذة على الشاشة. لكن الأخطاء ضرورية جداً، منها نتعلم. نحن نكبر على الأخطاء. إنها تصقلنا وتشذّب نصوصنا.
في ما يتعلق بكتاباتي، أجزم أني أكثر قسوة على نفسي، أكثر صرامة وشراسة، من أي ناقد. هذا لا يعني أني لا أحتاج الناقد. لكن النقاد أنفسهم، أو غالبيتهم، لم يعودوا يكترثون بالنصوص ولا حتى بالنقد.
تطوير الموضوعات
3. حينما تكتب نصا سينمائيا .. من أين تلتقط جمل نصوصك من رائحة البحرين؟ أم من تجربتك ؟ أم من مخيلة الطفل " أمين " الذي كان يحب أن يهرب من الواقع ليعيش السينما الجميلة؟
من كل ما ذكرت وأكثر.. عادة أستقي مادتي السينمائية من الواقع، من التجربة الشخصية، ومن المخيلة.. إنها المصادر الأساسية التي أستل منها موضوعاتي.
لقد اعتدت أن أجمع قصاصات من الجرائد التي تغطي حوادث واقعية معينة، أراها تشكّل حالات درامية، تراجيدية أو كوميدية، قابلة لأن تتحول سينمائياً أو تلفزيونياً أو مسرحياً.. وذلك بعد إخضاعها لمعالجات معينة، وتطويعها للعناصر الفنية التي تعمل ضمن هذا الشكل أو ذاك. المخيلة، بالطبع، تلعب دوراً مهماً في تعزيز المادة وتعميقها. كما أن للتجربة الحياتية والثقافية حضور فعال في أعطاء المادة كينونة متماسكة ومؤثرة. الحلم أيضاً من المصادر الأساسية. لكن ينبغي التأكيد على أن العملية لا تحدث بآلية اعتباطية، إنما بطريقة معقدة ومركّبة يصعب شرحها.
أحس الظرفاء
4. تكتب كوميديا غير عادية .. تجعل من شخوصك رائحة من الضحك ولكنه الموجع في ذات الوقت .. هل هي محاولة منك لإلباس الواقع شيء من التخفيف من قسوة ومرارة الحياة ؟ أم هو الواقع الذي يلبسنا البساطة لنغرق في سذاجة مايؤلمنا في الوجود؟
يقولون أن الكوميديا آلية دفاعية ضد الألم، وأنا أتفق مع هذا المفهوم. من دون هذه الآلية نصبح في مرمى الكآبة واليأس والتشاؤمية التي يفرزها الواقع عبر كل ما يحدث من حولنا وفي محيطنا. الواقع يزداد سوءاً وتوحشاً، ولا حصانة لنا ولا دفاع إلا بالدعابة، بالضحك.
ربما أتمتع بحس الدعابة، وأقدر أن أتفاعل مع الموقف الفاكهي واستجيب للنكتة، لكنني يقيناً لست شخصاً مضحكا، يجيد إلقاء النكت. أحسد الظرفاء، القادرين على إضحاكنا ليس فقط بأحاديثهم المرحة، وحكاياتهم ونوادرهم، بل حتى بمجرد إيماءة أو إشارة.
في حياتنا اليومية، هناك الكثير من القسوة والعنف والحزن. ونحن بحاجة ماسة إلى أولئك الذين يضحكوننا أو يجعلوننا نبتسم. وجودهم بيننا ضروري. إنهم يجعلون الحياة أكثر احتمالاً وأكثر قابلية للعيش.
حماقاتي
5. متى آخر مره مارست فيها الضحك .. وهل يمكن لأمين صالح أن يضحك على نفسه ؟ متى يحدث ذلك؟
أضحك كثيراً. أشياء عديدة تضحكني. ليس لدي مشكلة مع الضحك. وعلى نفسي أيضاً أضحك كثيراً. في حياتي اليومية أتصرف بشكل أخرق، وارتكب حماقات شتى تثير فيّ الضحك على نفسي، وعلى سلوكي وتصرفاتي ومواقفي. بالطبع أنا لا أتعمد ارتكاب الحماقة لكي أضحك نفسي، وهو على أية حال ضحك بنكهة الوجع.
التخفي بالأدوار
6. يقول هوميروس في الأوديسة ( عندما أعود ، فسوف أكون مرتديا ثياب رجل آخر ، حاملا أسم رجل آخر ، مجيء سيكون مفاجئا وغير متوقع ) هل هناك فراغ شاسع تتوق إليه لتعود منه مرتديا ثياب رجل آخر ؟ وماذا سيختلف ذلك الرجل عن " أمين صالح "؟
الفرد لا يمتلك هوية واحدة، محددة وثابتة، بل هو مشطور إلى مجموعة من الهويات، فهو في البيت ينتحل هوية تختلف عن تلك التي ينتحلها في الشارع أو موقع العمل أو مع أصدقائه أو بين غرباء. الواقع، أو المجتمع، يفرض عليه أن يرتدي الأقنعة، أن يمثل أدواراً. في اليوم الواحد يتعين عليه أن يعيش متخفياً وراء عدد من الهويات، الأقنعة، الأدوار.. التي من دونها لن يستطيع أن ينسجم مع واقعه أو يتوافق أو يتعايش معه.
لكن ليس المجتمع وحده الذي يفرض تعدد الهويات، بل الشخص نفسه عندما يتوق إلى أن يكون شخصاً آخر مختلفاً، أكثر قوة أو جمالاً أو غنى أو شهرةً.
في مراحل معينة من العمر، في فترة المراهقة والشباب، تمنيت أن أكون الرجل السوبرمان، أو الرجل الخفي، أو الخارق أو ما شابه.. أن أكون الكائن المختلف جذرياً.
الواقع من جهة، والسينما وأشكال الميديا الأخرى من جهة، كانت تغذي هذه الرغبات أو التخيلات.
التوحد بالحزن
7. إلى أين تلجأ حينما تحزن ؟ وعن أي شئ تصمت ؟ وما هي الحالات التي تدفعك للبوح والانتشاء؟
لا ألجأ إلى أي مكان غير ذاتي، إذ لا أحد يحتمل نفسي، في حالة الحزن، غير نفسي. من ناحية أخرى، لا أحب أن أثقل على أصدقائي بحمولة من الحزن أرميها أمامهم لكي يتقاسموها معي أو يخفّفوا عني وطأتها. قد أبثّهم بعضاً من همومي وهواجسي وقلقي، لئلا يشعروا بأني أخفي عنهم أحاسيسي أو يعتقدوا بأني لا أثق بهم. أما الحزن، فحالة خاصة أفضّل أن أستفرد بها ليستنفد أحدنا الآخر حتى تتلاشى من تلقاء نفسها.
أصمت عندما يسئ إليّ أحد، أو يجرح مشاعري. ليس تسامحاً أو ترفعاً أو احتقاراً له، بل لأن الإساءة تكون مفاجئة عادةً إلى حد أنها تصيبني بصدمة تسبب لي الذهول وتفقدني القدرة على رد الإساءة. أذكر أن دوستويفسكي كان يعاني من هذا الشيء، وكان يحسد أولئك الذين يمتلكون القدرة على رد الإهانة أو الإساءة على الفور، من غير تباطؤ أو تردد.
أتساءل، هل ثمة من يهتم بأن يعرف أي الحالات تدفع أمين صالح إلى البوح والانتشاء؟ على أية حال، أنا لا أفشي سراً، ولا أبوح بأمر مادام هو في نطاق الشخصي والخاص. عندما أشعر بالانتشاء، أرغب في أن يشاطرني النشوة، ويشاركني الفرح، كل من أحب وأصادق وأرافق.
أقبل بالقليل
8. أيروق لك أن تراهن كثيرا في الحياة ؟ ماهو الأمر الذي راهنت عليه ثم خسرته؟
مرّة، في مقتبل العمر، أي في بداية السبعينيات، عمر البراءة والحماسة، راهن جيلي على إمكانية تغيير المجتمع، عبر الثورة، في غضون فترة بسيطة. بالطبع كان رهاناً خاسراً. بعدها لم أفكر في المراهنة.
أؤمن أن علينا قبول ما تهبه الحياة لنا.. حتى الأشياء القليلة أو الصغيرة.. لا بأس في أن تطلب المزيد، لكن أقبل القليل: لحظات فرح، لقاءات عذبة، رائحة زهرة، ثمار شهية، مصادفات حلوة، مداعبات طفولية.. وغيرها. دع قطرات الندى تبلل وجهك لتعرف كم هي الحياة ثمينة وكريمة.
قاسم حداد
9. يقول قاسم حداد عنك بأنك أكثر حرية منه.. من أين لك كل هذا؟
قاسم صديق سخي جداً معي. إنه يغدق عليّ المديح كلما تحدث عني. ذات مرّة أصدر قاسم كتاباً وخصّني بإهداء جاء فيه: "إلى أمين صالح الذي رأى". عندئذ انبرى شاعر وكاتبة قصة لإحراجي أو لدحض فكرة الرؤية. نظرا إليّ شزراً ثم قالا، بعد أن تحولت النظرة إلى ضرب من الإزدراء والارتياب والتهكم.. "أخبرنا يا أمين، ماذا رأيت؟!!". طأطأت في ارتباك، وبصوت راعش غمغمت: "لا أعرف. أنا لم أزعم شيئاً.. هو الذي قال.. وجّها سؤالكما إليه".
نطاق اللاوعي
10. لديك إصدار اسمه " الكتابة بالضوء " يحمل سرد عن شخصيات سينمائية .. عنوان الكتاب مغري ومثير .. فما رأيك هل يمكن لكل كاتب أن يكتب بالضوء ؟ ماهي السراديب المظلمة التي تشتهي أن تستدعي لها الضوء ؟ هل يزورك الضوء في المساء كل يوم؟
مجازياً، يمكن القول أن كل كتابة تضيء عالماً جديداً، مبتكراً، غير مألوف، هي كتابة بالضوء. كتابة مغايرة، خلافية، وذات جمالية آسرة.
مجازياً أيضاً، تلك السراديب الموجودة في الداخل، في العمق، في نطاق اللاوعي.. تلك الرغبات المكبوحة والمكبوتة والمقموعة بفعل كم لا يحصى من التابوهات، المحرمات، المحظورات، الكوابح، القيود.. تلك التي تحتاج إلى إضاءة تكشفها وتخضعها للتحليل، من أجل أن تتحرر.
مدينة تتغير من أجلك
11. كتبت كثيرا عن البحرين وهموم الناس في البحرين .. فهل هناك مدن تشتهي أن تغازلها بنص سينمائي لتعيش فيها من خلال ذلك النص ؟ أي المدن تلك؟
أحببت برلين كثيراً. هذه المدينة التي تغيّر إيقاعها لتنسجم مع إيقاعك الخاص، كأنها تراعي حساسيتك وترأف بك. إنها المدينة التي أحب أن أضيع في محطاتها. وسيكون امتيازاً لي أن أتجول في طرقاتها بعين سينمائية، راصداً سحرها الخاص.
الجلوس في زاوية
12. لم تعد الكتابة المسرحية تغريك كثيرا .. وماذا عن مسرح الحياة .. أي المقاعد تحب أن تختارها لترقب فيها مسرحا أصبح الناس يتسابقون ليمارسوا تمثيلياتهم على خشبته ؟ وماهي أكثر المسرحيات الحياتية التي توجعك؟
أميل إلى الجلوس في زاوية، وأراقب ما يحدث بعين راصدة لكن محايدة. بين وقت وآخر، أقتنص شيئاً: حدثاً، موقفاً، أصواتاً، أحاسيس ومشاعر.. أشياء تعينني، أو تشكّل نقطة انطلاق، عندما أشرع في كتابة نص أو سيناريو.
أكثر ما يوجعني ويخيفني، في الحاضر، تكاثر الفتاوى المجانية، المهينة للقيم الإنسانية، المضادة للقيم الدينية، والتى تلقى قبولاً وتأييداً من قطاعات شعبية واسعة.. إضافة إلى بروز المظاهر الطائفية والتحريض على الفتنة الطائفية التي تهدد روح التعايش والسلم الاجتماعي والوحدة الوطنية.
ذاكرة الاحتمالات
13. ماذا تأخذ معك حينما تكتب رواية ؟ وكم من " أمين " يتآمر عليك لتختلط بشخوص عالمك؟
لا آخذ شيئاً غير ذهن مرن، منفتح على كل الاحتمالات والحلول. غير ذاكرة مفتوحة على التجارب الحياتية التي مررت بها في فترات ماضية، وعلى عوالم سبق أن قمت بارتيادها واكتشافها من خلال الكتب أو الشاشة. غير مخيلة لا يحدّها تخم ولا يسوّرها أفق. غير لغة مشحوذة أصقل بها السرد والوصف. غير وقت للتأمل ووقت للكتابة ووقت للنحت.
ثمة دوماً مسافة بيني وبين شخوصي، لكنها مسافة قابلة للاختراق، بحيث تأخذ كل شخصية جزءاً من ذاتي.. أحياناً تكون الشخصيات محض انعكاسات.
قسوة الحب
14. غنى خالد الشيخ قديما ( أبكي على البمبرة وأبكي على التينة وأدعي على من ذبح قلبي بسكينة . البمبرة تشتكي من فرقته اسنين . حتى دمعها الخضر يبكي بليا عين ) من الذي ذبح قلبك - يوما - بالسكين ؟ وكيف تداوي جروح وعذابات الحب؟
لم أختبر قط علاقة عاطفية عنيفة. كل العلاقات تبدأ وتنتهي في هدوء، بلا ضغائن ولا أحقاد، وفي تفاهم مريح.. بحيث نحافظ على العلاقة لكن ضمن حدود الصداقة.
بالطبع، نهاية كل علاقة حب تكون قاسية ومؤلمة، إما لكلا الطرفين، أو لأحدهما.. لكنها عادة تكون نهاية طبيعية، لأن العلاقة – عندما تصل إلى طريق مسدود، لا أمل لها في الاستمرار - تتآكل وتتصدع داخلياً حتى يحين انهيارها، ولا يمكن لأحد إنقاذها من المصير المحتوم. الانفصال هنا يكون رحمةً وانعتاقاً.
أعتقد أن علينا أن نكون أكثر براءةً ومرونةً في علاقاتنا مع الآخرين.
اختبار الموت
15. ماهو الموت الطفيف الذي تظن بأنه قد يأخذك إلى حافة الانكسار أو الخذلان؟
كل انكسار أو خذلان هو، بطريقة أو بأخرى، ضرب من الموت، لكنه لا يُهلك.
واقعياً، لم أختبر مثل هذا الموت الطفيف.. إنها حالة مجازية.
الطبيعة والنص
16. ما الصوت الذي يقفز في داخلك حين تستنطق المطر والرصيف وحجارة الطريق والأشياء التي لاصوت لها ؟ هل تحب أن تمشي تحت المطر أم أنك تخشى أن يشي بك للكتابة؟
لكل عنصر في الطبيعة حضوره المميّز، وفرادته، ودلالته، وصوته الخاص، وجوّه الخاص، وتحولاته، ومعناه الخفي المتغيّر الذي يختلف جذرياً عن معناه المألوف والمتعارف عليه.
كل عنصر من عناصر الطبيعة، ما إن يدخل في النص، حتى يكتسب معنى آخر، بعداً آخر، كينونة أخرى، فالشجرة مثلاً لا تعود هي الشجرة التي نراها ونعرفها في الواقع، بل ربما تحرز حضوراً مختلفاً، وتوحي بشيء غير متوقع. البحر، عند شاعر مثل سان جون بيرس، يركض عبر الغرف.
أحب المطر كثيراً. أشعر بالطمأنينة في حضوره، بالراحة، بالانتعاش. أحب أن أتمشى تحت المطر إن كان رذاذاً، أما إذا هطل غزيراً فإني أبتعد عنه واحتمي بمظلة أو ما شابه. أكتفي بمراقبته من بعيد وهو يهطل.
الاختباء بالشخصيات
17. هل صادف أن التقيت بأمين صالح في نص منهمر أو حلم طويل ؟ وكيف وجدته بعد طول غياب؟
أعتقد أن الكاتب حاضر في نصوصه على نحو خفيّ أو متوارٍ أو مموّه. إنه لا يعلن عن نفسه (إلا إذا كان النص سيرةً ذاتيةً) بل يتواجد متخفياً خلف عدد من الشخصيات.
لم أكتب بعد سيرتي الذاتية. في روايتي "رهائن الغيب" تحدثت عن نفسي، بالأحرى عن مرحلة عمرية معينة، عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري. ولم يكن التركيز على الشخصية فقط بل، بدرجة أكبر، على المكان.. حي الفاضل الذي عشت فيه سنوات طفولتي ومراهقتي. من جهة أخرى، الرواية لا تتمتع بالموثوقية بسبب تداخل المخيلة والذاكرة، في صياغة الأحداث والشخصيات، إلى حد التشابك. بالتالي هي ليست رواية واقعية أو توثيقية.
رائحة الطفولة
18. حين تشتاق إلى رائحة وشاح أمك مالذي يحدث لك ؟ تبكي ؟ أم تغيب في حزن طويل ؟ أم تبتسم؟
أمي – أطال الله عمرها - لا تزال موجودة بيننا، تمنحنا – كعادتها دوماً - الحنان والدفء بسخاء مطلق. في حضنها أشم رائحتي منذ أن كنت طفلاً.
19. ماهو السر الذي لم تقله يوما لأحد؟
لن يعود سرّاً إن أفشيته.
عناوين فرعية على جانب الحوار ممكن الاستفادة من بعضها بحسب المساحة :
• النقد فعل حب .. وأخطائي لاتحصى ولكننا نكبر بها وعليها
• أحسد الظرفاء القادرين على إضحاكنا بمجرد إيماءة أو إشارة
• نحن نعيش متخفين وراء الأقنعة والأدوار لننسجم مع الواقع ونعيشه
• برلين المدينة التي تراعي حساسيتك وترأف بك
• علاقة الحب حينما تنتهي لاأمل في استمرارها تتآكل وتتصدع داخليا ولايمكن إنقاذها
• كل انكسار أو خذلان هو ضرب من الموت الطفيف ولكنه لايهلك
الرياض- 12- 6-2013