الحوار مع عبدالله حبيب، المخرج والناقد والمثقف، لا غنى عنه أبداً، فعندما تضيع البوصلة ينبغي علينا أن لا نبحث عنها كثيراً، فهذا العماني الدمث الخلق ماثل بين أيدينا، نسترشد برأيه ونحدد مواقعنا وجهاتنا، ومنه نبني أفكارنا للمستقبل، وبه نستعين في إرساء كثير من الأسس والمفاهيم التي ينبغي أن تنشأ عليها الأجيال الناهضة. من هذا المنطلق برزت لدينا فكرة إجراء حوار مع قامة مديدة مثل قامة هذا المفكر الهادىء في طبعه والممتليء وعياً وفكراً ونضجاً. ها هو عبدالله حبيب بكل وضوح الرؤية التي يمتلكها، وبكل وداعته وعمقه ورحابة أفقه نجلس أمامه ونحاوره.
كيف ترى مسيرة السينما الخليجية لغاية الآن؟.
القضية سياسية وتاريخية فيما يخص المصطلح، وهذا ينطبق على السينما أيضاً؛ بل ربما كانت السينما أكثر من غيرها من الفنون هي من يختص بذلك (بصورة خاصة، تحضرني هنا أفلام المخرج السينمائي اليوناني الاستثنائي ثيو أنغيلوبولوس لا سيما في تحفته الأسطورية الهائلة "تحديقة عوليس"). وأظن انه لا ينبغي مني أن أبدأ في الحديث عن ذلك من دون أن أعرج على هذا (في الحقيقة، لا أستطيع غير هذا). لقد قلت ما سأقوله لك الآن في مناسبة إعلاميّة علنية مرة واحدة من قبل، وأظن انه لا بأس في إعادة قوله؛ إذ لا أكتمك أن مصطلح "خليجي" يسبب لي - بصورة عامة - إرباكاً غير محسوم لغاية الآن، وقد يكون هذا عائد إلى نشأتي السياسية وتربيتي الإيديولوجية (وأظن انه لا بأس في أن يكون المرء نفسه وليس الآخرون). وهذا أمر مفارِق وفاقع للغاية، حيث ان المفروض أن يكون الأمر –فيما يخصني، في الأقل- هو العكس، لكن البشر يعكسون حتى ما هو عكس. غير ان كارل ماركس كان قد نبهنا منذ زمن طويل نسبياً (في "المخطوطات") إلى حربائيّة التاريخ (مرة باعتباره مأساة، ومرة بوصفه ملهاة) وذلك في إعادة تجلياته المضنية ضمن تمرئيات كثيرة منها مأساة المقاومة وملهاة المؤسسة في جدلية الواقع المتحرك دوماً، وكذلك مأسآة وملهاة أن يكون مجرد التفكير في الحديث عن هذا ليس إلا ضرباً من ضروب الحماقة المفرطة. وهذا أمر ليس من السهولة تبسيطه، كما انه ليس من الصعوبة جعله أكثر صعوبة. وبهذا فإن ماركس –وبجرأة كبيرة وحماقة شجاعة معهودة من لدنه- هو أول ناقد لمقولة أخرى منه يذهب فيها إلى ان التاريخ بطبيعته إنما يتقدم دوماً نحو الأمام (وهذا أمر صار في موسوع الجميع تقريباً أن يشككوا فيه اليوم، بمن في ذلك "الشيوعيون"، و"الإشتراكيون"، و"الليبراليون"، و"الجهاديون" و"السلفيون" و"الإخوان" الذين يقودوننا بشجاعة الراعي نحو الماضي). والحقيقة انني – في هذا السياق- لا أزال لا أستطيع أن أفهم ان العبور بين برلين الشرقية وبرلين الغربية في العهد السوفيتي البائد وفي عز الحرب الباردة المدججة بالصواريخ العابرة للقارات والجاهزة للإنطلاق المجنون في أية لحظة لإحراق البلدان بمجرد إشعال الفتيل كان أسهل بكثير من العبور الحالي من خلال نقطة حدودية بين مدينتين صغيرتين شقيقتين متجذرتين في التاريخ، والأصل، والحسب، والنسب، والقرابة في دولتين "خليجيتين"، بينما أستطيع السفر إلى المكسيك، مثلاً، بطريقة أسهل، وأسلس، وأكثر متعة بالتأكيد؛ فمع ان "الخليج" مفهوم جغرافي وطبوغرافي لا مراء فيه لكل ذوي العقول على اعتبار اننا نسكن على ضفته (وتشاركنا بلاد أخرى في الإقامة على ضفته الثانية، بالمناسبة)، إلا ان مصطلح "خليجي" مصطلح سياسي وإقليمي أخشى انه ليس براء من بعض الشوفينية أحياناً. ولذلك فأنا أفضّل مفهوم "شبه الجزيرة العربية" لأنه مفهوم أقدم، وأعمق، وأشمل (والثقافة متقدمة على السياسة دوماً، وعليها أن تبقى دوماً كذلك، وإن كنت لا أثق كثيراً في المقولة التي تذهب إلى ان "الثقافة تُصلح ما أفسدته السياسة". لا يحدث هذا في كل الأحوال بالضرورة). وأنت تعلم انه كان هناك مؤخراً مشروع لضم دولتين عربيتين شقيقتين إلى المجلس "الخليجي" إحداهما تقع تحديداً وبالضبط في افريقيا، فكيف يمكن أن يكون مفهوم "خليجي" (من الناحية السياسية) أكثر زئبقية من هذا؟. وأنت تدرك أيضاً ان الأفلام اليمنية تشارك في مسابقات مهرجان الخليج السينمائي مع ان اليمن ليس من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي (حسب المصطلح الرسمي) على الرغم من ان اليمن أصل الكثير من – إن لم يكن معظم – القبائل الخليجية (وأنا، كما تعلم من عمان، ولذلك فإني لا أفلح كثيراً في غض النظر عن ذلك بسبب الحضور اليمني الغزير في تاريخ أهلي وبلادي). وهاك الأفلام العراقية أيضاً التي كما تعلم تشارك في كل سنة في مهرجان الخليج السينمائي في دبي، وتحصد الجوائز الرفيعة، على الرغم من ان العراق ليس عضواً رسمياً في المجلس، ومن يستطيع أن يصيخ السمع عن هذا: "أصيح بالخليج: "يا خليج/ يا واهب اللولوء، والمحار، والرّدى"!/ فيرجع الصدى/ كأنه النشيج: "يا خليج/ يا واهب المحار والردى". كيف نستطيع أن نعتذر له هذا؟.
بهذا فإننا لسنا "خليجاً" بالضبط، بل اننا "دول في الخليج"، وأظن أن علينا فهم ذلك. وقد كان المعتمَد السياسي البريطاني في "الخليج" بيرسي كوكس يرسم خارطة المنطقة بالعصا (حرفياً) على أحد الكثبان الرملية في إحدى صحارى دول هذه المنطقة وذلك بعد احتساء كأس أو كأسين من النبيذ (والوثائق السياسية البريطانية المناط الحجاب عن سرِّيَّتها بعد مرور الفترة القانونية المطلوبة تعترف بذلك صراحة). لكني لا أقبل ولا أرضى أبداً أن يكون بيرسي كوكس هو من يحدد هويتي، ومصيري، ومستقبلي. وبيرسي كوكس، في الحقيقة، إنما كان يتماهى بالضبط مع ما فعله مُواطِنُهُ وينستون تشرتشل في سياق مشابه يخص هذه المرة بلدان الشام وما جاوره في أحد المطاعم اللندنية الفاخرة، لكنه – أي تشرتشل- لم يكن مضطراً أبداً للخارطة الرملية العسكرية والعصا أبداً فقد كان لديه قلم، وقرطاسة، وخارطة ورقيّة، وذاكرة كولونياليّة قوية ومتحفزة، ورغبة في المحافظة على مصالح بلاده، وليس من حق أحد أن يعاتبه على ذلك؛ فليس من حق أي أحد ان يلوم أي أحد لأنه يحب موطنه، بل المفروض هو تخوين من يخون وطنه (وبالمناسبة، لدينا هنا في مسقط حانة عريقة ممهورة باسمه -"حانة تشرتشل"- بينما لا يوجد لدينا شيء اسمه "حانة أبو نواس" مثلاً). الإنجليز، في أية حال، هم الأروع تاريخياً فيما يخص "الجُهوزيّة القتاليّة الاحتياطيّة" بالمعنى العسكري للعبارة في عقيدتهم الحربية المتفوقة في عصر الحروب الحديثة، ولذلك فقد انتصروا في كل حروبهم تقريباً من افريقيا، بل حتى من أمريكا اللاتينية، إلى الخليج. وعلى المرء أن يحترم عبقريتهم تلك. في أية حال ليس هذا أوان أو مقام الدخول في التفاصيل التي قد تكون مضجرة للبعض، ولكنني أعتقد ان الأمر مرتبط بصورة إجبارية في مسعى محاولة الرد عن سؤالك، فأنا لا أستطيع الإجابة عن أي سؤال يخص "السينما الخليجية" من دون هذه الخلفية، ولا بأس في أن يكون ذلك من عيوبي الاستطرادية الكثيرة، ولكنهم يقولون ان الاستطراد يُشَتِّتُ أولاً ثم يعود بك إلى الموضوع الأصل بصورة أقوى ثانياً. وفي أية حال أيضاً، جاءت فكرة "الخليجي" سياسياً –وفي سياقنا الثقافي والإبداعي- بسبب هيمنة فكرة الدولة الإقليمية الصغيرة، أو "دولة المدينة" لدينا (تقريباً “city state” بالمعنى الإغريقي القديم للعبارة) بعد اضمحلال فكرة "دولة الأمّة" (“nation state”)، وذلك بعد الأفول المؤسف لمشروع القومية العربية على الرغم من كل أخطاء وخطايا ذلك المشرع المأسوف على شبابه، وجمال عبدالناصر لا يستطيع أن يتحمل لوحده عبء كل شيء. ولكني أود القول ان استخدامي لمصطلح "خليجي" في سياقنا هذا إنما يأتي من باب "for convince" كما يقولون. أما عن مسيرة السينما الخليجية فأظن ان مرحلتها الأولى في عصر آلات التصوير السينمائية الكلاسيكية (16ملم، 35 ملم، آلات تصوير أرفليكس، أفلام كوداك الخام، إلخ) كانت متعثرة لأسباب وجيهة للغاية (وليس على العتاب أن يكون "فرض عين" دوماً)، وقد بذل الرواد جهداً كبيراً في هذا حيث لم يكن لديهم حتى الحد الأدنى من البنية السينمائية التحتيّة، أقصد حتى في الكويت التي كانت متقدمة على الجميع فيما يخص الطرق، والكهرباء، وشبكات المياه، وحركة تقدم المرأة، وتدريس أشعار المرحوم فهد العسكر في المدارس الابتدائية أو الإعدادية، هذا في الوقت الذي بدأ فيه التلفزيون بالغزو والعدوان بسبب المتطلبات السياسية للسلطات الوراثية التي كان عليها أن تقوم بفعل بصري كي تغازل الجماهير التي كانت منخرطة في حركات وتنظيمات سياسية وعسكرية تنادي من أجل إقامة مجتمع عادل وأفضل بصورة راديكاليّة على أراضٍ تفجر من تحتها ففاض فوقها "الذهب الأسود" (العمانيون طبعاً لهم في قائمة الريادة مقام فيما يخص هذا الجانب). أظن أن الموقف كان محرجاً للجميع. وأظن أن كل مؤرخ حقيقي وجاد للسينما في منطقتنا يتغافل عن هذه النقطة التي أخالها في غاية الأهمية ليس إلا حِماراً كبيراً في أفضل الأحوال، وإن لم يكن يعتقد انه لم يصبح حماراً كبيراً بَعْدُ فعليه أن يبذل كل الجهود في السعي إلى أن يكون كذلك. لكني، مع هذا، أظن انه مع الضمورات السياسية وحلول عصر التصوير الرقمي والاستغناء عن التحميض بمتطلباته التقنية المعقدة، إلخ، فإن السينما الخليجية تبدو أكثر ثقة بنفسها وبمحتملها الإبداعي والإنساني اليوم. ولكن طبعاً لا يزال هناك الكثير من الأسئلة، والمعضلات، والتحديات التي على السينما الخليجية مواجهتها إن عاجلاً أم آجلاً، وأظن أن ذلك سيحدث، فالانتظار ليس عيباً كبيراً دوماً، وانتظار "جودو" ليس من المآخذ الكبيرة في كل الأحوال.
ما أهم خصائص السينما الخليجية. بمعنى هل لها سمات تميزها عن السينمات العربية الأخرى؟.
يؤسفني للغاية، وبصورة مريرة وحانقة إلى الكثير من الحدود، ان بعض أشقاءنا من النقاد السينمائيين العرب لا يزال يصر على إنكار ان هناك سينما خليجية أصلاً (أحدهم، وهو ناقد كبير بالمناسبة، أدلى بتصريح عجيب غريب عن ذلك، لكنني في أية حال لست ممن يحبون أكل لحم إخوانهم أحياء أو أموات فكرهتموه)، وذلك في تكريس مقيت للشوفينية المركزية الكلاسيكية ذات "الثنائيّة الضديّة" (binary opposition) التي لا تزال لا ترى فينا إلا جِمالاً، و"كروشاً" منتفخة مليئة بالشحم، والمني، والتفاهة، وآبار النفط فقط (وقاسم حداد، بالمناسبة، قال كلاماً بديعاً في هذا الشأن: لم يكن النفط لنا جميعاً، لكنه سيكون علينا جميعاً، أو بما معناه). أما عن خصائص السينما الخليجية فأظن انها لا تزال في طور التبلور والتكوين، وليس في هذا ما يخيف، أو ما يبعث على الاستعجال. قصدت انه لا نستطيع بعد ان نتحدث عن خصائص السينما الخليجية بالمعنى الذي يمكن لنا ان نتحدث فيه، على سبيل المثال، عن الخصائص الجمالية والفكرية لسينما "الموجة الجديدة" الفرنسية (الثورة ضد كل تراث سينما الـ "بابا"، والارتباط الضمني بحركة 1968 خاصة لدى المناضل السينمائي العتيد والعنيد جان – لوك غودار) أو سينما "الواقعية الجديدة" الإيطالية (الاهتمام بقصص الناس البسطاء، والعاديين، والمهمَّشين، واستقطاب ممثلين غير محترفين، والتصوير في أماكن عامة وليس في استوديوهات احترافية وكاملة التجهيز التقني، إلخ)، أو "السينما الفقيرة" في افريقيا وأمريكا اللاتينية (لجهة تناغم شروطها الإنتاجية مع التقشف والشظف الذي يعيشه الواقع الاقتصادي والسياسي المحلي)؛ فهناك، إذاً، رؤية نظرية حصيفة وتقاليد عملية راسخة جاءت في تلك البلدان من حراك الوعي السياسي والفني وتطوره في حركة الواقع الفعلي (كيف نستطيع مثلاً أن نفصل مآثر سينما الواقعية الجديدة الإيطالية من التجربة الفريدة غير المسبوقة وغير الملحوقة للحزب الشيوعي الإيطالي في أوروبا الغربية عهدذاك؟. لقد أثَّرت سينما "الواقعية الجديدة" الإيطالية في كل سينما الدنيا لأن الحزب الشيوعي الإيطالي كاد أن يكون الحزب الشيوعي الوحيد في أوروبا الغربية – آنذاك – الذي يصل إلى سدة الحكم بالتصويت الشعبي المباشر عبر صناديق الاقتراع، وذلك لولا المؤامرة الدنيئة المعروفة التي قامت بها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. كيف نستطيع، مثلاً، أن ننسى فيلماً مثل "لِصُّ الدراجات الهوائية" لفيتوريو دي سيكا الذي يجعل العالم يتفتت أمام عينيك وأنت تشاهده. شخصياً، وبعد مرور الذكريات والسنوات، لا أرى درّاجة هوائية من دون أن أتذكر ذلك الفيلم الخالد. أظن أن الهراء بعينه أفضل من هذا بكثير، وأنا لا أقدر على أن أثير غضب غرامشي وبازوليني معاً ودفعة واحدة). فيما يخصني، ومن خلال مشاهدتي للأفلام الخليجية التي عرضت في الدورات المتكررة من مهرجان الخليج السينمائي لغاية الآن فإني أرى أن ثيماتها متذبذبة وغير مركزة، ولا أقصد بالضرورة ان هذا من المثالب التي ستتعجل في حدوث يوم القيامة. قد يكون هذا انعكاساً طبيعياً لما تمر به مجتمعاتنا وثقافتنا في الخليج خلال هذه البرهة الرجراجة من الزمن، ولا أخال أن في هذا ما ينبغي أن يبعث على القلق؛ فالقلق، إذا كنتَ جادّاً معه، لا يمكن إلا أن يبعث بك إلا إلى الحوار معه. لكن عودة إلى الموضوع الأصل قد يكون استثناء ما ذكرتُ هو السينما العمانية الشابة التي تنزع إلى الاحتفاء بالمكان القديم (وبازوليني لديه مقولة مهمة تذهب إلى ان السينما الشعرية، بنحوٍ من الأنحاء، هي الوجه القديم، والمكان القديم، والزمان القديم. ولا تنسَ ان بازوليني كان قد أنجز جزءاً من تحفته "وردة ألف ليلة وليلة" في اليمن القريبة إلى أفئدتنا وأراضينا في هذي البلاد. لكن الزملاء السينمائيين العمانيين الشباب الذين "تسللت" لديهم الفكرة من إيطاليا، إلى اليمن، إلى عمان بوعي أو بلا وعي قد استمرأوا الأمر أكثر مما ينبغي في اجتهادي المتواضع). لقد كرست السينما العمانية الشابة نفسها منذ البداية باعتبارها "سينما قرية" وليس "سينما مدينة". غير ان هذا الأمر المحمود في البداية تمت المبالغة فيه من قِبل السينمائيين العمانيين الشباب لأنهم في أفلامهم – واحداً تلو الآخر (وأعتقد انني تابعت هذا الأمر بصورة معقولة بعض الشيء، إن لم يكن كاملة، في الحقيقة) - يجعلوننا نشعر ان عمان لا تزال أُحفورة أثرية محنطة في قرى جبلية سحيقة ذات بيوت طينية، وأفلاج، ومزارع، وعربات أوليّة تجرُّها البغال، وليست باعتبارها مكاناً حديثاً ومعاصراً في القرن الحادي والعشرين فيه سيارات ومراكز تسوق (مولات) حديثة، مثلاً، زاخرة بالثيمات، والموتيفات، والإشكاليات التي لا أول لها ولا آخر، والتي كان يمكن للسينما العمانية الشابة أن تسلط الضوء عليها لو أرادت. لقد جعلنا معظم تلك الأفلام نشعر اننا "موضوعاً" (object) وليس "ذاتاً" (subject) "للنظرة" “gaze” (بالمعنى الذي استعارت به نظرية السينما المفهوم من علم النفس). لذلك فإن علينا أن نبقى في "المتحف التاريخي" من أجل أن "يُنظَرَ" إلينا كما فيما هو شبيه بنزهة استشراقية ترويحيَّة وعابرة عوضاً عن أن "ننظرَ إلى من ينظرُ إلينا" (طبعاً أفضل من نظّر إلى ذلك هي فاطمة توبنغ روني في كتابها الممتاز "العين الثالثة: العِرق، السينما، والمَشْهَدَانيُّ الانثروبوروغرافي"، والذي لم يُترجم إلى العربية لغاية الآن للأسف الشديد، والذي على الرغم من انه يتصل بالوثائق السينمائية الأنثروبولوجية الكولونياليّة فإنه يتلاقح مع السينما الروائية الغربية والعربية أيضاً. وقد كان إدوارد سعيد قد نبهنا إلى خطورة "المَشْرَقَةِ الذاتيّة" self-Orientalization). لعلك لاحظت، على سبيل المثال، ان الكثير من أفلام السينمائيين العمانيين الشباب قد تم تصويرها في قرية "مسفاة العبريين" في المنطقة الداخلية من عمان (وهي قرية جبلية ساحرة جداً بالتأكيد، وهي من أكثر القرى العمانية التي أعشقها شخصياً إلى أبعد الحدود، وآخذ كل ضيوفي من خارج البلاد لزيارتها)؟. لكن الكارثة – من وجهة نظري الضئيلة – هي ان وعي/ لا وعي السينمائيين العمانيين الشباب قد تناغم وتساوَقَ (بصورة تكاد أن تكون مشبوهة فعلاً، وإن يكُ من غير نية ولا قصد) مع خطاب المؤسسة الرسمية التي تروّج لنا، من الناحية الضمنية، وطوال العقود الفائتة، اننا شعب "قديم"، و"عريق"، و"مجيد"، و"تليد"، واننا من مفردات المقابر الأثرية، والأفلاج، والقلاع، والحصون، وأبراج المراقبة، أما الحاضر والمستقبل فلا بأس من الإنخراط فيهما من باب المصادفة فقط. إلى متى سنعيش في الماضي ونحن نحيا في الحاضر ونرنو إلى المستقبل؟. أظن ان في هذا سوء حظ كبير من وجهة نظري الصغيرة.
هل دخلت السينما الخليجية حيز الصناعة أم ما زالت في بدايات التكوين؟.
قطعاً لم ندخل حيز الصناعة بعد. هذا مع مراعاة ان مفردة "صناعة" فيما يخص السينما كما أصبحت اليوم صارت مفردة ملتبسة بعض الشيء، وبعيدة من الدقة، وذلك من حيث الاستغناء عن الكثير من مكونات البنية السينمائية التحتيّة تقليديّاً؛ فالمرء اليوم صار بوسعه الآن أن ينجز فيلماً كاملاً بهاتفه المحمول فقط. لا أقول هذا بمعنى اني ضد إقامة صناعة سينمائية خليجية متطورة من الناحية التجهيزية (معامل، إلخ) لا سمح الله، ولكن بمعنى ان البشر يتقدمون دوماً على الشروط التقليدية الموروثة.
وما هي الشروط الواجب توفرها حتى تتأسس في الخليج صناعة سينمائية؟.
أظن ان من أهم الشروط وجود الدعم الكافي من الجهات المسؤولة، وقبل ذلك تمتعها بالحس الحضاري المطلوب من أجل الاعتراف بأن السينما فن راقٍ ورفيع مثل الأدب والمسرح وغيرهما. للأسف الشديد لا يزال كثير من المسؤولين الكبار في الجهات الثقافية في بلدان منطقتنا ينظرون إلى السينما على انها "تهريج" و"كلام فارغ" ومجرد تزجية للوقت، وزَبَدٌ يذهب جفاءً ولا ينفع الناس. ما لم تتغير هذه النظرة القاصرة والقصيرة فأظن ان علينا ان نتوقع المزيد من المشاكل.
إذا كانت هناك صعوبات تعيق التقدم السينمائي في الخليج، فما هي هذه الصعوبات وكيف يمكن التغلب عليها؟.
بالطبع هناك صعوبات، وهي غير قليلة بالتأكيد. لكني أود الحديث عن صعوبة يندر الحديث عنها، ألا وهي مشكلة غياب التأسيس والتأصيل الأكاديمي والنظري فيما يخص السينما في بلداننا الخليجية. طبعاً صارت لدينا معاهد، وكليات، ومؤسسات علمية تقوم بتدريس الطلبة مساقات فيما يخص التصوير، والإخراج، والمونتاج، إلخ. لكن ليست لدينا جامعة خليجية واحدة لديها قسم متخصص بتدريس النقد السينمائي. إلى متى سيستمر هذا الإخفاق الشنيع؟. إننا ننتج أفلاماً ولكننا لا نستطيع أن نقرأها بالأدوات النقدية والتحليلية المطلوبة -هذا وضع مؤسف للغاية ولا يشبه سوى الكارثة فيما أظن. أقول هذا من واقع تجربتي المباشرة من خلال الحديث مع مبدعين سينمائيين خليجيين ناضجين أحترمهم ويحترمونني بالمقابل وذلك في الدورات السابقة من مهرجان الخليج السينمائي، والتي حضرتها جميعاً إما باعتباري مُحَكِّمَاً أو بوصفي عضواً في اللجنة الإعلامية. صحيح ان هناك فرق بين "المبدع" و"الناقد" (وإن كان هذا ليس دقيقاً جداً، وذلك من حيث ان "الإبداع" بالمعنى الجوهري للكلمة مطلوب مِن وفي الإثنين)، ولكن أذهلني لدرجة الرعب والفزع ذلك الغياب الباهظ لأبسط درجات الوعي النقدي والنظري لدى سينمائيين يتطرقون في افلامهم لموضوعات دقيقة وحساسة في بلدانهم ومجتمعاتهم، وهذا أمر يُحسب لهم بالتأكيد. ولكنك ما ان تبدأ بالحديث معهم حتى تضطر إلى بتر المحادثة قسراً، فهم لا يدركون، مثلاً، ان "المونتاج الجدلي" (dialectic montage) إنما تكمن جذوره في تراث الفلسفة الماركسيّة. ويحدث أحياناً أن تتحدث إلى سينمائي خليجي طالع وموهوب عن الأخاديد التي تفصل بين "اللقطة الذاتيّة" (subjective shot) و"اللقطة الموضوعيَة" (objective shot)، أو عن مفهوم "التركيب المشهدي" (mise-en-scene) البسيط، والمبدئي، والبَدَهِي، على سبيل المثال، فينظر إليك شزراً عبوساً قمطريراً وكأنك من سُكّان المريخ، أو عطارد، أو زحل. ولا داعي البتّة أن تحاوره في الفروق الجوهرية بين مفهوم "التركيب المشهدي" ونظرية المونتاج في الأفلام الأمريكية والفرنسية على وجه الخصوص، مما يدفعك فوراً إلى الذهاب وحيداً إلى الحانة، والأسف والأسى يترنحان بك ذات اليمين وذات الشمال على طريقة تقنية "تلويح آلة التصوير السينمائي يميناً ويساراً بسرعة خاطفة"، الـ “swatch pan”. إنني هنا لا أتحذلق، ولا أتفلسف أكثر مما ينبغي، وإنما أطالب بوجود الحد الأدنى من المعرفة النظرية السينمائية ذات الصلة الوثيقة بما حدث أو يحدث في العالم في علاقته بالسينما، والتي لا غنى عنها فيما أخال من منظوري الصغير إلى الأشياء.
هل حققت الأفلام الخليجية تواجدا بين الجماهير العربية أو العالمية؟.
لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال بصورة موضوعية ودقيقة، لأنه لا تتوافر لدي مؤشرات، أو إحصائيات، أو استبيانات موثَّقَة حول الموضوع. لكنني أود النظر إلى النصف المليء من الكأس فيما يخص هذا الجانب. أظن ان السينما الخليجية لم تعد مجهولة عربياً وعالمياً على الإطلاق. وأعتقد ان أشقاءنا الإماراتيين هم أفضل من فعل ذلك سواء في فئة الأفلام الروائية القصيرة (وليد الشّحي مثلاً في معظم – ان لم يكن كل- أعماله القصيرة. والحقيقة ان هذا ينطبق أيضاً على أعمال معظم الشباب الذين خرجوا من معطف مجموعة "إنعكاس") ، أو فئة الأفلام الروائية الطويلة (لديك "ظل البحر" لنواف الجناحي على سبيل المثال، والذي لا يزال يحقق النجاحات المتوالية)، أو فئة الأفلام الوثائقية الطويلة (طبعاً نجوم الغانم هي المثال الأبرز في أفلامها الوثائقية الطويلة الثلاثة - "المريد"، و"حمامة" و"أمل"، والأخير فعلاً هو تحفة كبيرة واستثنائية في السينما الوثائقية الخليجية الطويلة خاصة لجهة المونتاج الفَطِن والبديع الذي تم بإشراف مباشر من المخرجة نفسها). أظن أن السينما الإماراتية هي الأهم خليجياً اليوم. ويذهلك السعوديون أيضاً بصورة تراكميّة، خاصة لجهة النظرة التقليدية المؤسفة إلى السينما في بلادهم. وأنا أحترم كثيراً التحدي، والجرأة، وطرق موضوعات "التابو" لدى المخرجين السعوديين (فيلم "وجده" لهيفاء المنصور الذي حصد عدة جوائز عالمية بما في ذلك في مهرجان البندقية السينمائي، ومؤخراً في مهرجان مراكش أيضاً، وفيلم "عايش" لعبدالله آل عياف، وفيلم "حسب التوقيت المحلي" لمحمد الخليف – هذا فيلم بديع فعلاً، إلخ). البحرينيون تراجعوا مؤخراً على الرغم من إرثهم التأسيسي، وتخونني الفِراسة في فهم ذلك. وقد تحدثت مع بسام الذوادي غير مرة في ذلك فأسقط في يده أيضاً. القطريون لا يزالوا يتلعثمون ويتأتون على الرغم من بحبوحة الإمكانات المالية، ولا أدري إلى متى سيستمر هذا. الكويتيون يتفاوضون مع أنفسهم، وأتمنى أن تنجح المفاوضات (وليد العوضي في "تورا بورا" حاول بجدارة أن يوقظ النعاس، ولا أظن أن سعد الفرج يستطيع أن يكون ممثلاً مبدعاً أكثر مما فعل في هذا الفيلم، ولا بأس في أن يتقاعد إذا أراد، وقد قلت له هذا في لقاء قصير بيننا في إحدى دورات مهرجان الخليج السينمائي). وعلينا نحن العمانيين أن لا نكون مسرفين أكثر مما ينبغي في الإجحاف بحق أنفسنا على الرغم من شح الإمكانيات، فعلى سبيل المثال فاز فيلم "فرّاخ" لزميلنا المتميز ميثم الموسوي بجائزة مهمة في مهرجان مالمو السينمائي في السويد مؤخراً، وحسن جداً أن قامت الجمعية العمانية للسينما بتكريمه مؤخراً (وأظن أن ميثم الموسوي هو أفضل من يمثلنا في الجنس السينمائي المعروف بـ "النظر إلى العالم من خلال عيني الطفولة" الذي ابتدأته السينما السويدية من خلال بيرغمان كما في "فاني وألكسندر"، ثم جذَّرته السينما الإيرانية في كل أفلامها المعاصرة تقريباً). وها هي عزيزتنا الموهوبة مزنة المسافر قد أنجزت لتوّها فيلماً روائياً قصيراً (حوالي عشرين دقيقة) تم تصويره في زنجبار بعنوان "تشيلو"، وسيتم عرضه في مهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته القادمة في ديسمبر من هذا العام، وأنا سعيد وفخور جداً بذلك. وأعتقد أن مزنة المسافر من كبار مراهناتنا السينمائية بدءاً من فيلمها التمردي البديع "نقاب"، كما أظن أنها خير من يمثل بذور شيء يمكن أن نسميه في أرحام ما سيأتينا من الأيام القادمات "السينما النسويّة العمانية الشابة". وهنا يؤسفني للغاية ان مريم الغيلاني قد توقفت عن السينما بعد أن أدهشتنا في فيلمها الوحيد "عقدة حبل" الذي كان جريئاً بما فيه أكثر من الكفاية، وأنت تعلم انني معجب بهذا الفيلم كثيراً، وقد كتبت عنه. وباختصار شديد فإن السينما الخليجية لم تعد مجهولة تماماً إن عربياً أو عالمياً. لا تنسى، على سبيل المثال، ان فيلم "بَسْ يا بحر" للكويتي خالد الصدّيق كان يُدرَّس في بعض الجامعات البريطانية في منتصف سبعينيات القرن الماضي بعد أن تمت ترجمة العنوان إلى إلإنجليزية هكذا: ("البحر القاسي" (The Cruel Sea، فنحن، في نهاية المطاف، لسنا بالضبط أيتاماً على مأدبة لئام السينما كما يعتقد – أو ربما يريد - البعض.
*. ناقد سينمائي سعودي.