تبدو تجربة الشاعر المغربي مبارك وساط، واحدة من التجارب الجميلة التي تخترق المشهد الشعري العربي الجديد، إذ عرف كيف يصوغ مناخاته المميزة، عبر عدد من الكتب، ولو كانت قليلة، إلا أنها تشير إلى تجربة عريضة.
كذلك أغنى وساط المكتبة العربية بمجموعة من الترجمات الشعرية والروائية، آخرها كتاب «نادجا» لبروتون. حول مجموعته الأخيرة كما عن تجربته الكتابية، وحول الترجمة الأخيرة هذا الحوار معه:
نبدأ من الإصدار الأخير، ترجمتك لكتاب «نادجا»، لبروتون. ما الذي دفعك بعد كلّ هذه التجربة أن تترجم هذا الكتاب؟
هنالك كتب تكون للمرء علاقة خاصّة بها، و«نادجا»، في ما يخصّني، من بينها. قبل بضع سنوات، اقترح عليّ الصّديق الشّاعر والنّاشر خالد المعالي أن أتولّى أمر ترجمة هذا الكتاب إلى العربية، فهو بدوره يُحِبّه... وبدأت وقتَها، ثمّ انْشَغلْتُ عن «نادجا»، فلم أعد إليها إلا منذ نحو سنة، وها هي (أقول هي، باعتبارها قصّة «سيرذاتية»، نوعا ما) الآن في المطبعة.
ما هي هذه العلاقة الخاصة؟ أين تتقاطع تجربتك الشخصية مع تجربة بروتون في هذا السياق؟
العلاقة الخاصّة تكمن في كوني قرأتُ «نادجا» في سِنٍّ مبكّرة نسبيا، وشدَّتْني شخصيّة «نادجا» إليها كثيرا، باعتبارها إنسانة من صنف نادر على كُلِّ الأصعدة، ولكونِها تحمل، بشكلٍ تلقائي، «طبيعي» نوعا ما، شحنة شعريّة في كينونتها، في ذاتها، من دون أن تكون قد احتاجتْ إلى دراسات أو ما شابه. ثمّ إنّ كتاب بروتون مكتوب بشكل جيّد، فقسمه الأول، المتعلّق بما قبل الالتقاء بـ«نادجا»، يُضيء لنا الكثير من جوانب تفكيره وممارسته الشّعريّة وحياته، كما أنّه يستذكر أمورا هامّة، ترتبط بعلاقته بإيلوار وديسنوس وبنجامين بيريه وأراغون وغيرهم... أما ما يخصّ علاقتي بكتابات بروتون على العموم، فيكفي أن أقول إنّي حين اكتشفت السّوريالية وأنا تلميذ في الثّانوي - في سنتي الخامسة عشرة أو السّادسة عشرة - شكّل ذلك بالنّسبة إليّ حدثًا باهرا، وهنا أحد منطلقات اهتمامي اللاحق بتوجّهات معيّنة في الشّعر العربيّ الحديث والمعاصر.
النّقد «الإكسبرس»
هل ترغب في ذلك بالقول، إن السوريالية وسمت شعرك؟ في أي حال، غالبا ما يتم وصف شعرك بأنه ينتمي إلى المدرسة السوريالية. هل يزعجك هذا التصنيف؟
لا يزعجني هذا التّصنيف بقدر ما يبدو لي بعيدا عن الدّقّة، وهو تصنيف متسرّع. فلا شكّ في أنّ للسّورياليّة تأثيراً فيّ، ولكنّي لم أتأثّرْ بالسّوريالية وحدها، علما بأنّي سعيتُ دائما لأنْ يكونَ لي صوتي الخاصّ... وبالطّبع، فأنا لا أنتمي إلى أيّ مدرسة أدبيّة، بما في ذلك السّورّيالية، فأن يغلق الإنسان على نفسِه الأبواب ويُقيم داخل أسوار مدرسةٍ ما، هذا أمرٌ لا أحبِّذه لا لنفسي ولا لغيري.
في جوابك، إشارة نقدية إلى تسرع النقد أحيانا في إطلاق الأحكام القاطعة. برأيك هل هذه الأحكام تبدو أحيانا لتسهيل القراءة، بدلا من البحث الجدي عن مكونات الكاتب؟
معك حقّ. فالبحث في خصوصيّات النّصوص يتطلّب تمعنا وسَبْرا لأغوارها ودراسة للصّور والاستعارات... أي: قراءة للنّصوص من حيثُ كونها تشكّل عالما له خصوصياته، وباعتبار أن هذه الخصوصيات هي التي يكون مهما الوقوف عليها وعندها... أما تصنيف نصوص معيّنة في خانة خاصّة، ثمّ تقديم بعض الأمثلة التي «تشهد» على «صحّة» ذلك التّصنيف، فهذا هو النّقد «الإكسبرس»...
وهذا يطرح أيضا سؤالا حول القراءة: هل نقرأ فعلا؟
القراءات الصّحافيّة للأعمال الأدبيّة الجديدة، لا يمكن إلا أن تكون مختزلة إلى هذا الحدّ أو ذاك، ذلك أنّها تُكتب، ضرورة، بسرعة، كما أنّ الحيّز المخصّص لها في هذه الصّحيفة أو تلك، محدود... أمّا القراءات النّقديّة للشّعر الجديد خارج الصّحافة فهي أندر من أن تُذكر... ولستُ أدري إن كنتُ قد أجبت عن سؤالك، أم إنّ جوابي ناجم عن فهم شخصيّ فحسب للسّؤال.
من كتاب إلى آخر، تبدو قصيدتك كأنها تأخذ حيّزا خاصا بها. وهذا ما يبدو واضحا في مجموعتك الأخيرة «رجل يبتسم للعصافير» التي صدرت منذ فترة. كأنك تريد أن تكتب، وتشكل في الوقت عينه قطيعة مع الذي يكتب اليوم. هل بهذا المعنى الكتابة هي تواصل أم قطيعة؟
في الواقع، أنا أهمل أيّا من قصائدي إن لم تبدُ لي ذات «شخصيّة» قائمة بذاتها، أعني أنّي لا أدرجها في مجموعة شعريّة. أحافظ على القصيدة التي يتوفّر فيها هذا الشّرط الأوّل: الشّخصيّة الشِّعريّة القائمة بذاتها... كما أنّي أكتب بتلقائيّة، ثمّ أنقّح القصيدة بعد اكتمالها، فأحذف ما يبدو لي زائدا، وأعوّض كلمة بأخرى إذا كان هنالك تكرار، إلخ. ليس لديّ منطلق نظريّ ألتزمه، بشكل شعوري إراديّ، بالقطيعة التّامّة مع ما يكتب اليوم، ولا بالإقامة في نطاقه... ما يبدو لي جميلا وجيّدا هو أن أكتب قصيدة تنتمي إليّ وأنتمي إليها، بعمق وفي نطاق صِلةٍ لا تنفصم تجمعها بي وبالعالم كما أعيش فيه وأدركه وأتفاعل معه... بالطّبع، فإنّ الكتابة إذا أضحت استنساخا لما سبقها، يكون من الأليق الكفّ عنها حتّى تكون هنالك إمكانية لإبداع الجديد... وفي ما أقرأ أيضا، أحبّ التّفرّد، لأنّه وحده يمنح متعة الاكتشاف...
هذه الإقامة، كما تسميها، تبدو كأنها سيرة ذاتية إذا جاز التعبير، إذ غالبا ما نقع في هذه المجموعة الأخيرة، على هذه الحكاية التي تقودها إلى الصيغة الشعرية. هل لا كتابة خارج الذات؟
يمكن أن يكتب المرء عن أشياء العالم أو عن إدراكه لها، أو عن أيّ شيء آخر. الحاسم في الأمر هو خصوصيّات لحظة الكتابة، يعني ما يفرض نفسه على من يكتب في هذه اللحظة أو تلك... فإذا وجدتُ نفسي أكتب قصيدة عن ذكرى شخصيّة مثلا، فأنا لن أرفض هذه القصيدة إن توافر فيها ما يلزم لتكون شعرا. لكنّ هذا لن يمنعني غدا من أن أكتب المغاير والمختلف. المسألة لا تخضع، في ما يخصّني على الأقلّ، لانحياز مسبق لما هو من صميم الذّات.
بالتأكيد وإلا لعدنا ووضعنا الشعر في تصنيفات محددة. ألا تجد أن إحدى أزمات الشعر اليوم، في تبويبه ضمن تصنيفات معينة؟
أنا معك. وبالفعل، فإنّ البعد «السّيرذاتي» قائم في مجموعتي الأخيرة، كما قلت أنت، ولكن على شكل ومضات هنا وهناك، في نطاق كتابة شعريّة لها، في اعتقادي، أبعاد أخرى أيضا... المشكلة مع التّصنيفات هي أنّها تختزل المتعدّد في الواحد، وتُبَسِّط الأمور وتختزلها بشكل كبير جِدًّا.
لكن في هذا «السيرذاتي»، ثمة اكتشافات، كأن النظرة عندك تكتشف العالم عبر الكتابة؟
إذا كان شيءٌ من هذا قد تحقّق فذلك أمر يبدو لي إيجابيا. فالكتابة، حين تجعلنا نكتشف العالم بطريقة خاصّة، وتعيد إلينا القدرة على تلك «الدّهشة» التي طالما أشاد بها السّورياليون وغيرهم، تكون لها مكانتُها في نفس من يمارسها وحياتها، باعتبارها نشاطاً ليس زائداً عن المطلوب ولا سطحيّا، كما أنّ القارئ، في هذه الحالة، يشارك في متعة الاكتشاف.
السفير- 27-6-2012