كانت برلين بالاسم رمزا لمحطة قطارات (بغداد-برلين) أشهر معلم معماري في بغداد، وقد أسسها فيلهلم الثاني في الحرب العالمية الأولى، للوصول إلى المياه الدافئة في البصرة (جنوب العراق)، وسميت بمحطة الباءات الثلاثة (برلين-بغداد-بصرة)، وهي المعبر المقبل من الناحية الجيوسياسية إلى الهند، وفي قطاراتها كتبت إمبراطورة الرواية البوليسية أغاثا كريستي روايتها الملغزة المثيرة جريمة في قطار الشرق.
إلى هذا اليوم تُذكّر هذه المحطة على نحو ما ببرلين، إذ ما زال كبار السن من العراقيين يسمونها البانهوف كأن الاسم الألماني يتجاوز حقيقتها المعمارية إلى واقع سياسي، حيث يتم مواجهة الغرب التقليدي (لندن وباريس ومن ثم واشنطن) على الدوام ببرلين، منذ أن وقف المثقفون العراقيون التقليديون في الحرب العالمية الأولى مع برلين، في مواجهة الغرب التقليدي (لندن وباريس) الذي وقف معه (أي الغرب التقليدي) المثقفون العلمانيون.
وليبرر المثقفون المسلمون في بغداد وقوفهم مع ملك مسيحي قالوا أنه تحول إلى الإسلام، وصاغت الحكاية الشعبية البغدادية قصة ختان الملك الألماني وتحوله إلى الإسلام على نحو فريد وعاطفي (استعدتها على نحو ساخر في روايتي الوليمة العارية).
وبعد أن خان الغرب التقليدي (وهو على الدوام لندن وباريس) مناصريهم رفع قسم كبير من الأنتلجنسيا العراقية وعلى نحو مشبوب دراما برلين بمواجهة الغرب نكاية بالخيانة الأوربية للاستقلال الوطني، بل انقسمت النخب الثقافية والسياسية في بغداد إلى مناصرين لبرلين في الحرب العالمية الثانية (قراء خطابات الأمة الألمانية لفيختة وكتاب نشوء القرن التاسع عشر لتشمبرلان)، ومناصرين لموسكو من الشيوعيين (قراء كارل ماركس وفريدريك إنجلز الألمانيين أيضا)، وبقيت النخب السياسية التقليدية (البلاط العراقي والحاشية) مناصرة للغرب التقليدي.
في العام 1958 هزم الغرب التقليدي بشكل كاسح في بغداد، واستعادت برلين أسطورتها من جديد من قبل مثقفي اليسار (ليست كل برلين، إنما برلين الشرقية فقط). ولكن لماذا حضرت برلين ولم تحضر موسكو بالقوة ذاتها في خريطة الانتلجنسيا العراقية ذلك الوقت؟
ذلك لأن برلين (الغربية) حضرت بالقوة ذاتها لدى المثقفين المناوئين لموسكو وللشرق الأوربي، وأصبحت هذه المدينة المقسومة على نفسها بسبب الحرب، وبسبب الجدار الإيديولوجي إلى نقطة نزاع درامي في (بغداد) المدينة الشرقية، عاصمة الدولة الإسلامية القديمة، والتي ضربتها رياح الإيديولوجيا من كل جانب. وصنعت الذاكرة الثقافية تناظرا مقلقا بين المدينتين المختلفتين (برلين- بغداد) كأنها محطة القطارات القديمة، فهما متشابهتان في التاريخ السياسي أيضا، ذلك أن التأريخ يقرأ هنا من تاريخ الوحدة الألمانية ومن رمزية بيسمارك، كأنما هي ذاتها الوحدة الوطنية في العراق (أراد عبد السلام عارف مناوئ قاسم وغريمه، وقاتله فيما بعد، الوحدة مع مصر) وهنالك رمزية عبد الكريم قاسم (الزعيم الأول بعد ثورة تموز 1958)، فالقاسمية العراقية تناظر على نحو جلي البسماركية الألمانية في صناعة الأمة-الدولة، أما الفاشية الألمانية والنازية فكانت تناظر على نحو واضح الصدامية في بغداد، ومن ثم احتلال الحلفاء لبرلين (تحرير برلين) يشابه لدى بعض من الأنتلجنسيا العراقية احتلال الحلفاء لبغداد ويا للمفارقة قد أطلقوا عليه هم أيضا (تحرير بغداد)، حيث كانت الأنتلجنسيا العراقية تنظر هذا التاريخ بوصفه تاريخا مشابها لتاريخ ألمانيا، لتجعل من بغداد في الشرق الأوسط، ما كانته برلين في أوربا.
في العام 2003، جاء الغرب التقليدي إلى بغداد مع واشنطن، حيث سميت برلين هذه المرة من قبل بوش ذاته بـ(أوربا القديمة) لأنها لم تكن ولا مرة مع الغرب التقليدي في بغداد، وجاء مع واشنطن المثقفون المناصرون للمحافظين الجدد (أكثرهم كانوا في السابق من اليسار ومن أنصار برلين الشرقية) وقد استعادوا برلين هذه المرة من خلال التاريخ الرمزي لألمانيا، وهي أن الحلفاء سيصنعون من بغداد جنة الشرق الأوسط كما صنعوا بعد الحرب العالمية الثانية من برلين جنة أوربا. ولم يكن المثقفون العراقيون وحدهم مخترعي هذه الإليغوريا السياسية، إنما الحاكم الأميركي لبغداد ذاته، وقد أحاط به المثقفون العراقيون من كل جانب. وقد قال والابتسامة لا تفارق شفتيه بأن لأميركا خطط نهضة مشابهة لخططها في برلين بعد الحرب العالمية الثانية، وإن بغداد ستكون برلين الشرق الأوسط!
لقد زرت برلين مرتين، الأولى من شرقها، حينما كنت طفلا، وكان والدي من مناصري اليسار، ومن مناصري برلين من شرقها، وزرتها في المرة الثانية بعد العام 2003، ولكني زرتها هذه المرة من غربها-لا من غربها الإيديولوجي- ولكن من غربها الجغرافي، حيث اضمحل شرق برلين بعد الوحدة وأصبح النشاط الثقافي والسياسي مقصورا على غربها، واحتل الشرق ذكرى التاريخ، أسواق شعبية رخيصة تذكر يوما ما بالاشتراكية المدحورة، وبارات فيها أعلام حمراء بالمنجل والمطرقة، وتماثيل نصفية لماركس ولينين.
ولكن التاريخ في كل لحظة كان حاضرا بين برلين وبغداد، ذلك أن الأدب الألماني هو الآخر كان حاضرا في كل واقعة من وقائع التاريخ: غوته في واقعة الشرق والغرب وكان العراق بوابة المواجهة، استحضرنا أريش ماريا ريمارك أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وتوماس مان لفترة ما بين الحربين في العراق وكأننا في جمهورية فايمر جمهورية ما بين الحربين في ألمانيا، وترجمنا غونتر غراس أثناء حرب الحلفاء على بغداد في معارك الخليج الثانية، وأعاد للمثقفين العراقيين رمزيا كجندي ألماني كان أسيرا لدى القوات الأميركية.
هكذا كانت نادرة عبد الجليل رحيم المثقف اللامع وقارئ الفلسفة -قتل في العام 2005- وقد عاد من ألمانيا خائبا، وكان قد زارها قبلي، ذلك لأن شوفيرات التكسيات، وعمال الفندق، والباعة المتجولين، لا يعرف أحد منهم نيتشة وهايدغر وقد كان مشغوفا بهما إلى حد الهوس، وكان يظن أن كل شخص في ألمانيا يحفظ مولد التراجيديا عن ظهر قلب كما فعل هو...
فالكليشة العراقية عن ألمانيا أن كل ألماني هو فيلسوف حتما.
مقالة ستنشر بالألمانية في مهرجان الأدب العالمي في برلين في سبتمبر المقبل
كاتب عراقي
ali3bader@gmail.com
خاص كيكا