الكائن والمكان هما مصدرا الإبداع الإنساني. الكائن واحد، أما المكان فعديد. من اللقاء بين هذه الوحدة العضوية المحدودة، والتعدد الكوني اللامحدود، تَتَخَلَّق بنية المخيلة البشرية. وفي هذا اللقاء الخصب بين المحدود واللامحدود، تنضج عناصر إحساس الكائن بالكون، ويبدأ يري فيه ما لم يكن قادراً علي رؤيته من قبل.
نخطئ كثيراً عندما نعتقد أن انتقالَنا، أو خَطَراتِنا في الكون، أمر عادي لا بُعْدَ إبداعيا له. يكفي أن نبدأ بالنظَر بشكل مختلف ليختلف كل شيء، حتى عندما ننتقل في المكان نفسه، من حيّ إلي حيّ. وأبعَدَ من ذلك، لنتذكر الأوديسة، أو ألف ليلة وليلة، مثلاً، حيث بنية الحياة المكتوبة، أو المروية، ليست شيئاً آخر غير بُنية المكان. وتباينات الكتابة المحكية فيهما هي نفسها تبايُنات الفصول والأمكنة والتضاريس.
المسافر الذي يحكي يكتب العالم.
الكتابة المسافرة التي يفرزها اللقاء بين الكائن المتجوّل والكون المتحوّل، تحرّض الذاكرة الجماعية باعتبارها ذاكرة مستقرة، أو لا مسافرة. وتهزُّ، أحياناً كثيرة، استقرارها الشكلي الخامل، وخاصة عندما تجيد استحضار اللامعروف من الأمكنة، واللامألوف من الثقافات. وليس من باب الحِيَل الكتابية أن مظاهر أوديسيوس، أو أوليس، الفيزيائية وتوابعها، تتبدّل في الأوديسة، ما شاءت لها الأمكنة أن تتبدّل. ولا نجد، لا فيها، ولا في الكتابات المسافرة الأخرى، ذات الزخم الكوني، ما يدل علي أن التبدّل يمكن أن يكون مجانيّاً، أقصد أن يحدث في عين المكان، ولا دون أن يرافقه تحوّل في الفكر.
نتبدّل عندما نبرح أمكنتنا. هذه هي حكمة السفر.
عندما نسافر تغدو ذواتنا بِيضاً ، مثل صفحة جاهزة للرقيم. لا تعود مزحومة بالسكون والبلادة، وإنما تصير تتَلَهّفُ لِلُقْيا الطريق. تغدو قابلة لكي تري، وتحس، وتعبّر عما رأت وأحسَّتْ. تعبّر عنه بشعور جديد يختلف عن مشاعرنا القديمة. لكأن المكان هو الذي يولِّد أحاسيس الكائن، وهو الذي يقوده إلي الطريق. طريق وعي مغاير ومتجدد، باعتبار أن ركود الوعي، الذي يشبه موته، يتنافي مع جمالية الحياة التي لا تكفُّ عن التغيّر والانزياح.
في السفر تتبدّل مشاعر الكائن، وتتبلّل أحاسيسه برحيق الأمكنة. يغدو في حالة تأهّب تسمح له باستيعاب الفضاء والكائنات. وتبدأ قوة مخيلته بالعمل المستمر لكي تستقبل، وتدخر، ما، ومنْ، يمر بها علي الحارك . ويصير يكتب بطريقة خاطفة ولكن واضحة. يكتب العالم كما يتراءى له ولكن بعد أن يمرره عَبْر معمله النفسي .
إنه بذلك يساهم في انجاز ما أسميه الكتابة المباشرة . وهو ما يجعل المؤلفين الكبار لا يكتفون بالروي المُبَسَّط عندما يكتبون عن أسفارهم، بل ان تهيّجهم وهم يكتبون عنها يجعلنا نحس بشغفهم حتى وهم يختلقون الحكايات.
وهل لمخيلة ساكنة، أريد أن أقول ساكتة، قدرة علي الاختلاق؟
السفر هو أحد أهم مصادر وعي الكائن بالمكان، أريد أن أقول، تحديداً، بمكانه الأول الذي خرج منه. وما لَمْ يسافر الكائن فإن وعيه المكاني يبقي بلا ذاكرة. يبقي وعياً مسطَّحاً بلا حياة. أقصد بلا متعة، فنحن لا نتمتّع في لامكان. وكما يهترئ الكائن المقيم فإن المكان الذي لا ننزاح عنه يهترئ، هو الآخر، وبشكل أكثر وحشة. عندما نسافر لا نتجدد نحن، فقط، أمكنتنا التي تركناها، هي الأخرى، تتجدد، وربما أكثر منا. أن نسافر هو أن نقع، من جديد، في حب أمكنتنا الأولي، وأن نصير نعي هذا الحب الذي أهملناه ونحن نقيم ببلادة فيها.
يتغير كل شيء عندما نسافر: الرؤية والانفعال والاستجابة والكلام.
البصر هو الذي يصير يقود الكائن المسافر بعد أن كان أعمي (أقصد البصر). وهو الذي يفرز الكتابة المسافرة، ويعطيها بُعدها الإنساني الممتع. في السفر يغدو الذهن، أو الثقافة الأولي، أو التعلّم، أمراً ثانوياً، بمعني أنها، كلها، تصبح أدوات في خدمة النظر، الذي يصير بصراً. تغدو وسائل للتعبير عنه وعن موضوعه: المكان، والكائن الذي يصير يري، وربما لأول مرة، نفسه.
في السفر ننتقل من كنتُ إلي صرتُ.
فيه نتخلص من أمرين محبِطَيْن: تبرير المتعة، وتضخيم الحنين، وهما مصدر بؤس الكائن الأخلاقي والجمالي. السفر الذي ينقذنا، ولو مؤقتاً، من هذه المرحلة الدنيا من الوجود، يفعل ذلك لأنه يتطلّب، أو يمتلك، عاملين أساسيين: الزمن والصدفة.
لا يكفي أن نسافر لكي نكتب، لكن أن نكتب تقتضي أن نسافر.
كاتب من سورية يقيم في باريس
نص المداخلة في المؤتمر الدولي الأول للكتاب العرب في المهجر الذي نظمته المكتبة الوطنية الجزائرية بالتعاون مع المركز العربي للأدب الجغرافي دار السويدي، أبوظبي لندن.
القدس العربي
11/07/2007