الشعور الذي انتابني، وانا اعود الى عمّان، بعد غياب اعوام طويلة، هو انني لم اعد. فالمدن لا تحفل بالذكريات، ولا تحب الحنين. شعرت انني في مكان لا اعرفه، وان الشوارع التي عرفتني شابا صغيرا في اواخر الستينات، لم تتعرف الى خطواتي. حتى حين وقفنا في الطابور امام كنافة "حبيبة"، واكلنا الكنافة النابلسية في الشارع بصحون من الكرتون. حتى وانا استعيد مذاق شبابي في الحلوى الفلسطينية، حيث شعرت برعشة لازمنية الأشياء، لم تعرفني المدينة.
ارتبطت عمّان في ذاكرتي بسجائر "ريم"، والكنافة، وكوفية الفدائيين. لم ادخن السجائر القديمة التي كان مذاقها الانكليزي الحاد يجرح حلقي، ولم ار الكوفية الفلسطينية، التي غادرت مع المغادرين الى الموت في احراج جرش وعجلون. لكنني ذهبت الى "حبيبة"، ووقفت في الطابور، واكلت الكنافة المصنوعة من ذاكرتي.
لا ادري لماذا لم يسأل احد غسان كنفاني، عن جده الذي لا بد انه كان يصنع تلك الحلوى في عكا، كي ترتبط الكنافة باسمه العائلي. ربما كان مرض السكري جزءا من ضريبة العائلة التي دفعها الروائي على مذبح الجسم الانساني الهش.
لم ابحث عن مؤنس الرزاز، الروائي الذي مات بسكتة قلبية، تشبه كاتم الصوت الذي لاحقه طوال حياته. فتحي البس كان في رام الله، كما انني اضعت رقم هاتف الياس فركوح، وطاهر رياض كان مسافرا.
لم ارَ في عمان سوى شبح محمود درويش "قادما من بعيد". رحّب بنا الشاعر في بيته، لكنه رحل من دون وصية. روى أكرم هنية ان الشاعر أسرّ الى صديقيه اللذين رافقاه في رحلته الأخيرة الى هيوستن انه سيذهب الى غرفته كي يكتب وصيته، لكنهما ثنياه عن ذلك. لم يكتب محمود سوى شعره وصية، لذا لا لزوم للبحث عنه في الأمكنة التي عاش فيها. المكان الوحيد حيث نجده متى نشاء، ويستطيع ان يقنعنا بأنه لم يمت، هو في قصائده. هناك نلتقي به ونرى ظلّه الذي يتحاور معه، ونستمع اليه وهو يصنع حياة تخلّت عنه، لكنه لم يغادرها.
طلب مني صديقي ان اروي له عن عمان، فاحترت ماذا اقول، كأنني لم اذهب الى المدينة بجبالها وتلالها. اذ وجدت نفسي انزلق الى رواية حكايات قديمة، صارت جزءا من الماضي الذي لن يعود.
كأن وظيفة الأمكنة ان تدل على هشاشتنا امام الزمن، وان تسترجع مذاقات لا تستطيع اللغة القبض عليها. رائحة المكان التي تعود اليك لا اسم لها ولا محل لها في اعراب الحياة.
كأنني لم ازر عمّان، لكنني كنت فيها، وفيها التقيت اصدقاء قدامى، وتعرفت الى اصدقاء جدد، كأنني اعرفهم من زمان، وكأن اللقاء بهم كان استرجاعا للقاءات قديمة لوجوه نسيتُ اسماءها. وجدتُ الوجوه والأسماء لكنني لم اجد المدينة التي كنت اعرفها.
قلت لأصدقائي الجدد هذا الكلام، كي اعبّر عن عجزي عن الكلام، لكنني بدوت غير متأكد من كلامي.
هل المدينة التي بحثتُ عنها من صنع الذاكرة ام هي ابنة الخيال؟ وكيف نميز بين الذاكرة والخيال، في حياتنا اليومية، اي في طريقة روايتنا لحكاياتنا؟ هل كانت عمان هذه سوى ابنة ذاكرة امتزجت بخيالي، بحيث صرت عاجزا عن التمييز بين الحقيقة واختها؟
عندما ندّعي الصدق، في كلامنا اليومي العامي، نسأل المستمع هل يريد الحقيقة ام اختها؟ لم يسأل احد من تكون اخت الحقيقة، هل هي الكذب ام الخيال، ام امتزاج الذاكرة بأشباهها؟
عندما زرت عمان سقطت في اشباه الذاكرة، لذا لم استطع ان اجد طريقي في الطرق. كنت كمن يزور مكانا للمرة الأولى. الأمكنة تتغير لكنها لا تتذكر، انها مستودع الذاكرة ونقيضها في آن واحد. اما نحن، الذين اصبنا بنعمة الذاكرة ولعنتها معا، فاننا لا نتغير الا في مرايا الآخرين، اما في دواخلنا، فإن مراحل حياتنا المتجاورة تتعايش، بحيث نستطيع الانتقال من مرحلة الى اخرى، من دون جهد، كأننا نعيش في منام لا نستيقظ منه الا كي نعدّد خساراتنا.
لا استطيع ان اجزم بأنني حين اروي عن عمان، او بيروت، لا اسقط في اخت الحقيقة، حتى حين ابحث عنها. فالحقيقة هي اختها.
كأنني اكتب عن الأدب، لا عن زيارة لعمان دامت يومين، وكانت مناسبة كي نشرب نخب الشاعر الذي مات، ونستمع اليه يخاطبنا اليوم من على صهوة حصان الشعر. لكن ما الفرق بين ان نحكي او ان نكتب؟ وبين ان نعيش او ان نموت؟
لا فرق. انها مجرد لعبة اصطلاحية، لكن الأدب يكسر المصطلح، ويفتح القنوات بين نهر الحياة وبحر الموت.
هل سافرتَ الى عمّان؟ سألني.
سافرت ولم اسافر. فهذه البلاد التي تتشابه في كل شيء تأخذك الى ذاكرتك، وتأمرك ان تزور تاريخك الذي تشظّى في الهزائم، ولا يجتمع الا كباقة من الكلمات في قصيدة هي مرآة كل القصائد التي سبقتها.
في عمان تحاورتُ مع جزء من ذاكرتي، ورأيت ان لا شاهد على الزمن الا الحكاية، التي تجعل منا شهودا وضحايا في آن واحد.
النهار الثقافي
28 -9-2008