18 ديسمبر 2010 – طوكيو
الآن القهوة تغلي في هذا الجهاز الصغير جدا- كل شيء هنا صغير جدا: أطباق الطعام- مقاسات الملابس- الغرف- الأجهزة- كل شيء. أنا مجهدة جدا لكني قضيت وقتا طيبا كأنه شهر لا يوم واحد.
كانت اليابان من الطائرة فاتنة، أرخبيل لا حد لحسنه، لدرجة أني شعرت بالذنب إني أستمتع بجماله من دون أحبتي، هذا التنوع المدهش بين البحر والجبال والمساحات الخضراء.
أما طوكيو فمدينة كبيرة جدا بعمارات شاهقة جدا- كأنها شيكاجو أو نيويورك لكن ليست صاخبة- الناس في منتهى الهدوء والتهذيب الخيالي، من الكلمات التي يستحيل أن تسمعها هنا كلمة كلمة "أنا".
في الصباح أفطرت في مطعم الفندق، الخيارات الغربية قليلة وشجاعتي في أكل السمك على الإفطار لم تنجح كثيرا فأكلت فواكه.
ثم خرجت في جولة استكشافية للمنطقة حول الفندق، تعد هذه المنطقة "جنزا" قلب المدينة التجاري، والتنظيم الرهيب لكل شيء هو أول ما لفت انتباهي، الشوارع والأرصفة بها مسارات خاصة للعميان يستطيعون تحسس نتوءاتها بعصيهم، وهذا لا يعني إن العميان كثر هنا كما علق أحد زملائي وإنما يعني أنهم في اليابان يحترمون كل البشر.
حين عدت للفندق وجدت بعض أعضاء الوفد – الوفد العماني المشارك في الأيام الثقافية العمانية بطوكيو- في بهو الاستقبال فاقترحت عليهم الذهاب في رحلة من التي يوفرها الفندق بالتعاون مع شركات سياحية، قضيت وقتا رائعا في الرحلة، ذهبنا أولا إلى مبنى التجارة العالمي حيث يمكن مشاهدة المدينة كلها من القبة الدائرية على القمة، المدينة رائعة من الأعلى، في غاية التنظيم والحداثة، إذ دمرت طوكيو تماما بعد الحرب العالمية فأعيد بناؤها، عدد لا يحصى من ناطحات السحاب والمباني الزجاجية العالية، قالت مرشدتنا - التي تتخذ من شخصية الكرتون الصفراء "بيكاتشو"، اليابانية الأصل، العالمية الانتشار، رمزا لها - إن محطتنا القادمة هي قصر الإمبراطور، ولكن حين نزلنا اكتشفنا أن كل ما يمكن أن تراه من قصر الامبراطور هو الأشجار حوله فقط وعمرها 200 سنة، تسنى لي بعد ذلك، في يوم افتتاح الأيام الثقافية العمانية، رؤية الأميرة تاكامادو زوجة ابن الإمبراطور، وإصابتها بالانهيار النفسي لعدم إنجابها ذكرا ليستلم عرش الإمبراطورية ليس سرا في اليابان، فهذه الأسرة ممتدة منذ أكثر من ألفي سنة مما يجعلها أقدم ملكية وراثية مستمرة حتى اليوم، وحسب القانون لا يمكن لغير الذكور استلام العرش، على أية حال أحد أفراد الأسرة رزق بولد أخيرا مما طمأن الإمبراطور والشعب، لكن بالتأكيد هناك في هذا الشعب من لا يرى ضرورة في الاحتفاظ بالامبراطور، في حين يعتبره آخرون رمزا عريقا في اليابان، ويعرفه الدستور الياباني الحديث على أنه "رمز للدولة ولوحدة الشعب"، كما أنه أعلى سلطة لديانة الشنتو.
كنا نتنزه في الشوارع القريبة حين قال لي أحد الأمريكيين، وهو يعمل أستاذا في إحدى جامعات كاليفورنيا لمعالجة الإدمان: "لا شك أنك مندهشة من نظافة المدينة!"، فقلت له:" طوكيو جديرة بالإعجاب، ولكني لست مندهشة فمدينتي تضارعها نظافة إن لم تفقها"، لم يستطع الأمريكي إخفاء شكه وهو ينظر لهذه المرأة القادمة من الشرق الأوسط التي تخبره أن مسقط فازت مرات متتالية باعتبارها أنظف مدينة عربية، في الحقيقة كنت مهذبة معه، إذ لم أخبره إني عشت في كاليفورنيا منذ سنوات، وهو – أستاذ الإدمان القادم من هناك- من يجب أن يكون مندهشا لنظافة طوكيو!
توجهنا بعد ذلك إلى "أساكوسا" الشهيرة بمعبدها، وبالسوق التجاري حوله، الشهير بكونه من أقدم الأسواق في اليابان إذ يعود إلى القرن السابع عشر، كل شيء يباع هنا: الألعاب، الحقائب، الحلويات التقليدية، بسكويت الأرز، التذكارات والهدايا، يفضي السوق إلى المعبد "معبد سينسوجي"، وقد قام على أسطورة مفادها أن أخوين صيادين كانا يصيدان السمك في نهر سوميدا، فاصطادا تمثالا صغيرا ذهبيا لبوذا، مما أثار تأثر القرية فبني المعبد تبعا لذلك، يضاء المعبد بالليل، وهذه الإضاءة مصممة من قبل مهندس إضاءة ياباني شهير، مما أدى طبعا لسرور أصحاب المحلات الشعبية الذين انتعشت تجارتهم حول المعبد. لم أتمالك التفكير في فكرة نشوء التجارة حول الدين، المعبد نفسه مزخرف بإتقان لكنه صاخب للغاية بسبب زحام الناس لأن اليوم أول أيام العيد الذي يهدون فيه للبنات عرائس خاصة، من السوق شعبي اشتريت بضع تذكارات تمثل رموزا محلية للحظ، وفناجين مزخرفة بلوحات تجسد صورا من الحياة في اليابان القديمة، جربت السمك على شكل ايس كريم، وبسكويت الأرز، وكعك تنجوياكي، ثم ركبنا قاربا في نهر سوميدا، وحين عدنا تعشينا في مطعم هندي قريب- أيضا روبيان وهكذا يبدو أني سأقضي الأيام هنا وانا آكل السمك في كل الوجبات.
19 ديسمبر:
بما إني نمت نوما متقطعا البارحة قررت أن أقضي الصباح في النوم، أفطرت، عدت لبيجامتي، فصلت سلك الهاتف ونمت، وحين قمت ظهرا حاولت الاتصال بمعظم القائمة لمجموعتي بلا جدوى، يبدو أنهم مازالوا في مركز المعارض للتحضير لحفل الافتتاح، فقررت الخروج لوحدي، كانت الساعة حوالي الرابعة حين خرجت، أنا التي لا أجيد قراءة الخرائط تشبثت بخريطتي كأنها طوق نجاة، وتتبعت الخطوط حتى وصلت إلى مطعم السوشي الياباني المنشود، تفاهمت والنادل بكثير من الإشارات والانحناءات، وقضيت وقتا طويلا أشرح له إني أريد أي شيء غير نيء، وكلما أشرت لصورة هز رأسه أسفا وأفهمني أنه نيء، حتى انتهينا أخيرا إلى طبق جميل متقن من السوشي بأنواع عدة من السمك المطبوخ، المطعم مزين بخشب البامبو، ويجب أن تخلع نعليك قبل الجلوس لمائدة الطعام، أحسست بالامتنان لوجودي في قلب هذا المطعم الأليف في اليابان، لوحدي، ولكني سعيدة.
في طريق عودتي مررت على محل للأطعمة، وعلى رغم تدقيقي في المعروضات، لم أستطع إيجاد أي شيء يمكنني شراؤه لأكله لاحقا، عشرات الأكياس الصغيرة المغلفة على كل ما يمكن تخيله من مخلوقات البحار النيئة والمجففة والمدخنة، وأنواع مختلفة من الأعشاب، والأطعمة الغريبة، لا خبز ولا سلطة ولا عصائر ولا حليب.
اكتشفت وجود مجمع للكتب قريب من الفندق ولاحظت أن به مقهى فقررت العودة إليه لاحقا، ولكن حين عدت للفندق علمت أننا معزومين بعد قليل للعشاء مع السفير العماني، أخبرتني الدبلوماسية العمانية، التي تصادف أنني تخرجت وإياها في نفس الثانوية، أنها مرتاحة جدا في طوكيو، عندها ثلاث طفلات، وسعيدة للغاية بنظام التعليم والاعتماد على النفس في مدرسة طفلتها التي لا تتجاوز الأربع سنوات، كان العشاء قصيرا ولطيفا. غدا افتتاح الأيام الثقافية ويجب أن أنام الآن.
20 ديسمبر
اليوم قررت أن أكون في الموعد، استيقظت في السابعة وملأت طبق إفطاري بالفواكه والخبز، الذي لا يكاد يوجد في غير مطعم الفندق، وشربت الشاي بما إني عائدة من القاهرة من يومين ومازلت تحت تأثير عادة شرب الشاي، ووجود شاي غير أخضر يعد حدثا بالنسبة لي هنا، تجهزت ولما نزلت لم أعرف الشباب بالزي العماني الذي يحجب كل الشعر والجبهة، ولكن عرفت الشابات اللاتي لبسن جميعا مثل العرائس بالضبط، أزياء عمانية مطورة ومكياج كامل، وصلنا لمركز المعارض الذي يبعد حوالي خمس دقائق مشيا من الفندق، وفرحت لما دخلت ورأيت علم عمان يرفرف، في الحقيقية لا يرفرف بل مثبت على مجسم قلعة وسط المعرض الهائل الذي يجمع بين الفخامة والبساطة، مكاننا استراتيجي وسط المعرض وفي مرمى البصر، وهناك كتب، وصور لمخطوطات، وصور فوتوغرافية وأفلام تسجيلية، و مصنوعات تراثية، وحلى فضية، وملابس تقليدية، وفي الوفد المشارك خطاط بارع، ونساج ينسج على النول سجاجيد، وصانع سفن صغيرة، وصانع فضيات، وهم رجال كبار السن في غاية الود، ثم جاءت الأميرة تاكامادو زوجة ابن الامبراطور وافتتحت المعرض، وألقت كلمة بانجليزية مشفوعة باليابانية، كلمتها رائعة وشخصية تحدثت فيها عن ذكريات لها علاقة بعمان، بعد ذلك تفرجت على المعرض ومددت زيارتها أربعين دقيقة لإعجابها بالتراث العماني، كنت أحدق فيها بزيها الأنيق وحليها الرقيقة البسيطة، وأنا أفكر إنها لا تشبه على الإطلاق بنات الامبراطور اللواتي احتللن مخيلة طفولتي وصفحات المكتبة الخضراء للأطفال، ولا تبدو لي أيضا من سلالات الآلهة كما كان اليابانيون يعتقدون إلى وقت قريب، أحسست إنها بالأحرى إمرأة شرقية رازحة تحت ضغوط إنجاب الذكر، أحسست إنه بوسعنا أن نكون أصدقاء، وأن أقول لها إنني أتفهم معاناتها، وأقدر شعورها حين نشرت وسائل الإعلام أخبارا عن رعب ابنتها الصغيرة من مواجهة العالم ورفضها الذهاب للمدرسة.
تجولت في المعرض، توافد اليابانيون رجالا ونساء على البنات اللواتي يضعن الحناء، لم يتذمر أحد من لسعته الخفيفة على ظهر اليد ولا من ساعة الانتظار حتى يجف، تبادلت الحديث مع السفير البولندي وزوجته، هو يقرأ العربية، وهي تترجم من الانجليزية، هو يحب اليابان ومرتاح جدا، وهي لا تحبها ومستاءة من معاملتهم للمرأة، وتقول إنها تفضل الحياة في الهند حيث كانوا، وقفت بضع دقائق مع زوجات بعض السفراء العرب وأحسست بالملل فانسحبت، وقضيت بعض الوقت مع ميكي اليابانية التي تلبس زيا عمانيا وتعمل في السفارة، تبدو في نفس عمري، لكن عمرها الحقيقي 48، هل هو نمط الحياة والطعام الصحي ما يجعل اليابانيين يبدون أصغر بكثير من أعمارهم الحقيقية؟
أحسست بالحاجة للقهوة في الهواء الطلق وإن كان باردا، خرجت من أجل فنجان ساخن في أحد المقاهي المفتوحة، تذكرت اسكتلندا، حطت على خاطري طيوف عشرات الصباحات التي مررت فيها على كشك القهوة في ثلج أدنبرة، أحسست بدهشة اكتشافي للحنين، أدنبرة أكثر برودة من طوكيو لكن هذا الصباح الغائم وهذه الموكا الساخنة تثير في داخلي دفء الذكرى.
بعد الظهر، ذهبت مع زميلي أستاذ التاريخ المهتم باليابان وتاريخها إلى مكتبة في الجوار، تتكون من ثمانية طوابق كلها كتب، لم أتمالك الإحساس بالأسى على حالة المكتبات في بلادي العزيزة، لا يهم بأي لغة: مجرد ملمس الكتب ورائحتها وألوان أغلفتها تشعرني بالحميمية، توجهت بعد تجوال استمتعت فيه بأشكال الكتب اليابانية التي لا أفهم عناوينها إلى القسم الانجليزي، تصفحت الكتيبات المفصلة الخاصة بكل مدينة في اليابان، واشتريت روايات مترجمة لكاواباتا وموراكامي، ثم قضيت بعض الوقت في المقهى مع زميلي، تحدثنا عن إقليم المهرة في جنوب عمان، وعن اللغات المهرية والشحرية والبطحرية، وهي لغات مهددة بالانقراض إذ تهمل الأجيال الجديدة من الجنوبيين تعلمها. استحضرت الكتاب الضخم: "لغة عاد" الذي بذل فيه مؤلفه علي الشحري جهدا خارقا لتوثيق اللغة والتقاليد والآثار الشحرية.
21 ديسمبر
كنا ثلاثة يابانيين وعمانيين في ندوة استمرت ثلاث ساعات، أنا المتحدثة الأخيرة، في أكبر قاعة دخلتها في حياتي تقريبا، كل مستمع أمامه جهاز صغير للترجمة وهناك عدة لغات للاختيار منها: العربية واليابانية والانجليزية، الحضور حوالي مائتين شخص، أقلهم الطلبة، إن وجدوا، لست متأكدة إذ التقيت فيما بعد بطالبتين وطالب فقط. الندوة في جامعة الأمم المتحدة بطوكيو حول عمان، ومدير الجلسة أستاذ العلاقات الدولية بجامعة طوكيو، تحدث ياما أوتشي وهو من كبار الباحثين في شؤون الشرق الأوسط عن كرسي السلطان قابوس للدراسات الشرق أوسطية في جامعة طوكيو، واعتبره نواة لمركز الدراسات الشرق أوسطية الذي سيفتتح في الجامعة، كما تحدث عن الأهمية الاستراتيجية لعمان، أما اندو فتحدث عن حياة السلطان قابوس، إذ قام بترجمة كتاب "مصلح على العرش" إلى اليابانية، وتحدث الصحفي يوزياكي، وهو مؤلف لعدة كتب عن الشرق الأوسط، عن التغيرات في عمان وفرص الاستثمار فيها، أما زميلي العماني فركز على العلاقات العمانية اليابانية، شدني التاريخ المبكر لأول ياباني زار مسقط وذلك في عام 1619، أما زواج السلطان تيمور آل سعيد من يابانية في أوساكا فحقيقة تاريخية أثمرت نسلا، حين جاء دوري كان موضوعي عن الثقافة في عمان، ركزت على دور المرأة الثقافي والبعد الدولي للثقافة العمانية، أظن أن معظم الحضور لم يروا امرأة عمانية وربما محجبة إطلاقا من قبل، فلما انفض السامرقال لي مستمعون في منتهى التهذيب واللطف إنهم سعداء بكلمتي، وأهدتني امرأة جزءا من الكيمونو التقليدي الذي كانت تلبسه- الوشاح- تعبيرا عن شكرها على المحاضرة، وعرضت علي عدة نساء إحداهن تجيد العربية بطلاقة - إذ درست في القاهرة - أن يأخذنني قبل سفري في جولة في طوكيو، وأخرى عزمتني على طعام ياباني، كنت أريد فقط أن ينزاح هم الندوة عني وإذ بي أتصل بسهولة بكل هؤلاء الناس الودودين المهتمين، أنهيت اليوم في مطعم بديع محدقة في سيل الأضواء المنساب من عشرات البنايات في ليل طوكيو.
22 ديسمبر
صممت اليوم على زيارة متحف فوكاجواما ايدو باستخدام القطار، فتتبعت خريطة لا يوجد فيها حرف بغير الياباني لمدة نصف ساعة تقريبا، في "شارع طوكيو" وما حوله كنت في غاية الاستمتاع ، الشارع محفوف بالماركات العالمية، وهناك مبنى ضخم جدا للمتسوبيشي، أما الناس فيمشون مثل النمل لا أحد ينظر ولو نظرة عابرة إلى أحد، الجو لطيف، ووصلت أخيرا إلى المحطة بعدما اهترأت الخريطة في يدي – لا تخبروا أحدا إني سألت خمسة أشخاص على الأقل في الطريق- حتى نزلت المحطة تحت الأرض التي تكاد تكون أكبر من أي مطار عربي، فظللت أتتبع الخطوط التي بدت لا نهائية، النظام معقد ولكنه منظم في نفس الوقت، فهناك عدة خطوط مختلفة باتجاهات متعاكسة، والعثور على كتابة انجليزية يشبه العثور على عصير ليمون مثلج منتصف النهار في صحراء الربع الخالي، ولكن الناس المنطلقين الذين لا يلتفتون يتوقفون فورا حين أوقفهم ويجتهدون أن يشرحوا لي بالإشارات الاتجاه الصحيح، وكيفية التعامل مع جهاز شراء التذاكر الذي لا يحتوي أيضا أي كلمة بغير اليابانية، علمت فيما بعد أن الانجليزية أضيفت مؤخرا ويجب التركيز في الشاشة لاستخراجها، المهم ركبت القطار وأنا سعيدة، نزلت بنجاح في المحطة المنشودة لأجد نفسي في طوكيو التي تخيلتها من قبل، مبان قليلة الارتفاع على الطراز الياباني، محلات صغيرة تبيع أشياء محلية صغيرة، دكان للخضار، دكان للأكلات البحرية والطحالب، دكان للسلال، مقهى صغير رفضت صاحبته استقبالي، أظن لا لأي سبب شخصي وإنما فقط لصعوبة التفاهم بالإشارات، وهكذا وصلت للمتحف، وقضيت فيه وقتا طويلا ممتعا جدا رغم صغر حجمه، وفكرته قائمة على تمثيل قرية يابانية من القرن الثامن عشر، حيث محلات الخضروات والأرز، والمقهى البحري المفتوح، والبيت الذي تسكنه بضع عائلات لكل منها غرفة واحدة تستخدم لكل الأغراض، خلعت حذائي ودخلت الغرف، كل شيء مصنوع من الخشب وكل شيء بسيط وجميل وراق، تخيلت الناس الذين كانوا يعيشون في أمثال هذه القرى، النساء اللواتي كن يطهون الوجبات البسيطة من الأرز والخضروات، ايدو هو اسم طوكيو في تلك الحقبة، أما المناطق البعيدة عن طوكيو فكان الناس أكثر فقرا من أن يأكلوا الأرز. جلست مكان بائع الأرز أتخيل أفكاره وهو يكيل للناس هذه الحبوب الثمينة، وتصورت مشاعر البحارة والزوار على القارب الصغير الذين يجلسون للاستراحة في مكان يسمى بيت القارب، وذلك بانتظار قيام القارب برحلته إذ لم توجد وقتها مواعيد، وكانت سلطة الامبراطور اسمية في ذلك الوقت إذ سيطر محاربو "شوجن" على البلاد، المتحف به أدلاء متطوعون، تبادلت الحديث مع أحدهم وهو آبي، في حوالي السبعين، يعرف عمان وقال إن لها حضارة عظيمة، وشرح لي تفاصيل كل شيء في القرية، كل غرفة- بيت به مكانان صغيران للتعبد واحد للبوذية والثاني للشنتوية، ولا تجد الأسر أي غضاضة في التعبد في الاثنين معا، أما الحمامات فلها نصف باب، وعلق آبي على ذلك إن الأمان بالنسبة للناس كان أهم من الخصوصية، ولكنه لم يتردد في منحي هذه الخصوصية حين عبرت له عن رغبتي في الصلاة، فاتصل المعبدان الصغيران بصلاة المسلمين والركوع والسجود، ودعت آبي، ثم خرجت إلى المحطة، وأنا أتخيل أني زينة، أختي التي تسافر كل مكان لوحدها.
رجعت مرة أخرى إلى قلب طوكيو الحديث، فالمركز الدولي حيث معرض عمان، التقيت ببعض زوار المعرض ثم جلست مع البنات وشربنا قهوة عمانية، ونحن نثرثر أحسست أن طريقة الزواج التقليدي حيث تعجب إحدى قريبات العريس بالعروس فتخطبها مازال هو النمط السائد في كثير من العائلات العمانية على الرغم من قفزات التحديث في المجتمع، وعلى رغم كل قصص الحب اللانهائية التي يفضي كثير منها إلى الإحباط والحرمان. بحثت في الجوار عن أي مطعم إذ كنت أتضور جوعا، فوجدت مطعما ايطاليا والتهمت بيتزا، أحسست مرة أخرى بالامتنان لدقة اليابانيين، إذ يوجد في معظم المطاعم صندوق قماشي مفتوح بجانب كل طاولة حتى لا تحتار أين تضع حقيبتك أو أشياءك أو معطفك! والآن سأخرج مع البنات للتسوق طبعا، وبالمناسبة مجرد ما ينتهي العمل في المعرض يتجه معظم العمانيين رجالا ونساء إلى التسوق، على الرغم من تذمرهم من أن طوكيو أغلى مدينة في العالم.
استمتعنا وتنزهنا ومازحنا الناس المستغربين منا في شارع منطقة روبونجي، وعزمتنا زوجة الدبلوماسي حسب الطريقة العمانية في الكرم على كريب بالايس كريم، وتفرجنا على طوكيو من فوق، مدينة حديثة جدا، في غاية التطور، واليابانيات أنيقات للغاية، والذي يريبني، أو ربما يغيظني، أنهن يسرن بكعوب عالية جدا كل هذه المسافات، في حين لا أستطيع المشي ولو لبضع خطوات بكعب بنصف هذا الارتفاع.
23 ديسمبر:
اليوم استيقظت بصعوبة وكنت أتمنى أن أنام أكثر، لكن كان لا بد من النزول من أجل موعدي مع كايكو التي عرضت يوم الندوة أن تأخذني في جولة، اليوم عيد ميلاد الإمبراطور فهو إجازة رسمية، تصفحت الجريدة وأنا أفطر نفس الخبز بالزبد ونفس الكيوي والعنب والقهوة كل يوم بعدما توقفت عن محاولة الاقتراب من أقسام الأكل الياباني، بعد تيه دام حوالي ساعة التقيت أخيرا بكايكو أمام متحف نيزو، متأخرة ثلث ساعة عن موعدي بسبب عدم الاهتداء للمكان، اعتذرت هي لي لأني "لا بد كنت قلقة أن أحدا بانتظاري وأنا لا أعرف المكان"، وهكذا استغرقنا بعض الوقت في تبادل الاعتذارات، والتعرف طبعا، هي تعمل بدوام جزئي لدى وزارة المعلومات اليابانية، تبدو في الخمسين ولكنها في السابعة والستين، وسعيدة جدا، ورائعة. اللوحات في المعرض تنتمي إلى القرون الوسطى، وتصور أساسا الحياة في اليابان في ذلك الوقت، وقد كان الفن، لقرون عديدة ماضية، يُتذوق من قبل الطبقات العليا فقط في المجتمع الياباني، ولذلك معظم اللوحات تُصور الزاوية التي ينظر منها هؤلاء إلى الحياة، أو مشاهد لها علاقة ببلاط الامبراطورية، أو طبقة المحاربين، فهناك مثلا لوحة عظيمة تمتد لعدة أمتار أفقية، وقابلة للطي على شكل مستطيلات، تصور مشهدا يمجد بطولة المحاربين، وفنون قتالهم، فهناك راكبو الخيول وحاملو السهام، والمتبارزون، الأشجار تظلل المشهد، أشجار البان، والمتفرجون حول الحلبة قد صورت كل تفاصيلهم المشرقة في الوجوه والملابس والحركات بمهارة فائقة، لمعظم اللوحات خلفية ذهبية، مثل اللوحة العظيمة التي تصور القصة الشعبية للأخوين سوجا اللذين كانا يلاحقان أعداء أبيهم، تفاصيل للبيوت – الفارهة حسب معايير تلك الحقبة- وأسر الأعداء والخيول، مع تفاصيل الطبيعة طبعا، فالطبيعة والأشجار من الأشياء المهمة جدا في الثقافة اليابانية، وقد استمتعت بذلك بعدما خرجنا للحديقة الملحقة بالمتحف، التي كانت ملكا قبل أكثر من مائتي سنة لأحد محاربي الساموراي، حتى اشتراها نيزو كايتشيرو الذي يحمل المتحف اسمه، وقد كان رجلا ثريا يملك سكة الحديد، وافتتح المتحف سنة 1941.
تمثل الحديقة الفصول الأربعة، ومن أهم أشجارها البان "بونسايا" والكرز، وللكرز أو "ساكورا" عيد خاص في أول الربيع حيث مازال الناس يخرجون لمشاهدة تفتح زهور الكرز البيضاء على الأغصان في احتفال ساكورا الشهير، ومرافقتي كايكو مفتونة بالحديقة وتعتبرها مكانها المفضل، وهذه البقعة الخضراء الصغيرة في طوكيو الحديثة مستحقة تماما لذوق مرافقتي الرفيع. استمتعت بتغريد الطيور وتصوير الزهور والأشجار العارية منها والكاسية، وملاحقة السمك الملون "كوي" في البحيرة الصغيرة، وتأمل بيوت الشاي الصغيرة المنتشرة في الحديقة، حيث أن طقوس شرب الشاي لا بد أن تتم خاصة في الاحتفالات في مثل هذه البيوت وهي طقوس في منتهى الصرامة، وقد شاهدت في المتحف قطعا من الأواني خاصة بهذه الطقوس تعود لقرون خلت، تصورت الساموراي العظيم يتجول فخورا في حديقته المتدرجة الارتفاعات، يشرب الشاي في بيت الشاي، ويتبعه خدمه وجواريه، فقد كان من الشائع أن يتخذ الساموراي عدة عشيقات بالإضافة لزوجته. البيوت الخشبية التقليدية لا توجد فقط في المتاحف، بل في العديد من القرى وبعض أطراف المدن، حتى إن بعض الشقق في العمارات العالية تستلهم في تصميمها الداخلي هذه البيوت الخشبية، ومازال الناس يستمتعون بتلوين الأبواب الورقية المتحركة (شوجي) التي تقسم البيت إلى غرف منفصلة، كما مازالوا يحبون الجلوس على حصر تاتامي الشهيرة خاصة خلال الصيف. وبمناسبة الحديث عن حصر تاتامي فإنها تذكرني كثيرا بطفولتي، حيث كنا نفرش حصرا شبيهة للجلوس في المزارع في الهواء الطلق، تنتهي حوافها – مثل حصر تاتامي- بأطراف مزخرفة من النسيج. في القرن التاسع عشر، كتب الأمريكي ادوارد مورس: "في حصر تاتامي يأكل الناس وينامون ويموتون، فهي تمثل السرير والكرسي والأريكة والمائدة"، وفي اليابان الحديثة – على الرغم من البنايات الزجاجية والموكيت- مازال حصير تاتامي الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن الميلادي يحتل مكانة مميزة في غرف المعيشة. ليس تاتامي فقط هو ما يشعل ذكريات طفولتي، فكذلك تفعل قطعة أخرى من الأثاث الياباني التقليدي هي فوتون؛ فراش يوضع على الأرض للنوم ويمكن طيه وتخزينه فيما بعد، مازالت بعض البيوت والفنادق الصغيرة في اليابان تستخدمه خاصة مع ضيق المساحات، ومازالت صورة هذا الفراش الضيق المحشو بألياف طبيعية أو صناعية حية في ذاكرتي من ليالي طفولتي، لما كنت وأخواتي نفرش هذه "المنامات" -هكذا نسميها- متقاربة في حوش بيتنا، ونثرثر عليها ملتحفين السماء مباشرة حتى يغلبنا النوم.
قلت لكايكو إنه مع إعجابي بالمعمار الياباني التقليدي القائم على لعبة الضوء والظل، من خلال الخشب والورق، إلا أنه يستحيل علي تصور الحياة في مثل هذه البيوت فأولا وقبل كل شيء أصابع طفلي اللطيفة ستثقب كل الأبواب خلال أقل من ساعة، وسأضطر لتغيير أبوابي الورقية- التي يغيرها اليابانيون كل سنة- كل يوم، ضحكت كايكو ودعتني بكرم إلى وجبة غداء شهية من النودلز وفطيرة التفاح في مقهى المتحف، كانت تعمل مترجمة قبل هذه الوظيفة، وأفقها يتسع لأمثالي.
رجعنا للمتحف لمشاهدة باقي القاعات حيث أواني برونزية صينية ضخمة تعود لثلاثة قرون قبل الميلاد، هناك سبعة مقتنيات على الأقل في هذا المتحف تعد كنوزا قومية، وحين عدنا للحديقة تحدثنا عن عمان واليابان بحميمة لا تصدق بالنسبة لشخصين يتعارفان لأول مرة، تجولنا قليلا بعد ذلك في الشارع، وجلسنا في مقهى يقدم حلوى يابانية "أنميتسو"، ومع إني أضفت كل جرة العسل الصغيرة المقدمة على استحياء مع الحلوى إلا إنها لم تكن حلوة كفاية لي، فهي مكونة أساسا من نوع من الجلاتين البحري الخالي من الطعم، لكن المقهى نفسه تحفة، لولاء الحياء لصورت حتى الحمام، حدثتني كايكو عن التغيرات في المجتمع الياباني وفقدان قيمة الأسرة، فعلى الرغم أن متوسط الحياة للمرأة مثلا هو 94 سنة إلا أن كثيرا من الناس لا يرغبون في الحياة طويلا خوفا من أن ينهوا سنواتهم في الفقر والعزلة، ولذا ينتحر الكثير من كبار السن، أو يصبحون بلا مأوى. كان الليل قد هبط، فشربنا الشاي الأخضر وأخبرت كايكو أن خالتي ترغب في شاي أخضر "حقيقي" فأخذتني إلى سوبر ماركت ياباني، طبعا لا داعي للتكرار إنه أجمل وأكثر نظاما من أي سوبرماركت رأيته في حياتي، وكل شيء فيه عضوي طبيعي، ذهلت حين عرفت ثمن 100 جرام من الشاي لكن خالتي تستحق، ودعت كايكو الرائعة وعدت إلى الفندق.
قبل أن أنام فكرت في الأشجار، في الزهور، في صديقتي اليابانية "سايكو" خلال سنوات دراستي في اسكتلندا، كانت سايكو طفلة صغيرة بضفيرتين متقنتين وشرائط حمر، تذهب إلى الحضانة وتجبرها المعلمة على أكل حصتها من الطعام، وسايكو تسمع صراخ الجزر وهي تقضمه وترى دموع البازلاء، وحين امتنعت سايكو عن الأكل عاقبت المعلمة مجموعة الأطفال التي تنتمي إليها بحرمانهم من اللعب في الفسحة، وحين ذهبت المعلمة تحلق الأطفال حول سايكو وانهالوا عليها ضربا.
انحنت سايكو على الطبق واعتذرت لأمهات البطاطا التي ستأكل صغارها للتو، وحين أدخلت عصي الأكل في صندوقها الأسود المزخرف بتنين أحمر سمعت نداء الريح في نبتات الأرز، وتراءت لها الأغراس متكئة على جاراتها، أغمضت سايكو عينيها وغفرت للأطفال ولمعلمة الحضانة، قالت لنفسها: "لهذا نكبر في النهاية".
24 ديسمبر
في الطريق إلى مدينة كاماكورا مررت على مدينة يوكوهاما الصناعية، إذن من هذه العلب الضخمة تخرج الصناعات التي تعم العالم كله، بجودتها العالية وتفاوت أحجامها.
كنا ثلاثة مع السائق الفلبيني، أنا وزميلي العماني أستاذ التاريخ، واندو الياباني، مؤلف كتاب عن عمان، ومترجم كتاب "مصلح على العرش" إلى اليابانية، وعضو نشط في جمعية الصداقة العمانية اليابانية، ينحدر اندو من عائلة عريقة، وقد عاش في عدة مدن عربية مثل بيروت التي يعتبرها مدينته المفضلة، ومسقط، والدوحة، والخرطوم، حيث عمل في شركات مختلفة، عمره يقترب من الثمانين ولكن كان علي الركض تقريبا للحاق به، إنسان رائع أحسست بالفرح في وجوده وسخائه ولطفه، ذهبنا أولا إلى معبد هوكوكوجي، وهو أحد معابد الزن، أنشئ عام 1334، وبداخله تماثيل لبوذا تعود لهذه الحقبة، لكن ما فتنني في المعبد ليس معماره الرائع، ولا تفاصيل الجرس الضخم والسلالم الحجرية وسلاسل جمع قطرات المطر، بل أكثر من كل ذلك حديقته. هذه الحديقة في الحقيقة هي ما يمنح هذا المكان سحره، إذ تتكون ببساطة عدا الزهور من 200 شجرة بامبو عالية، يتخللها الضوء في لعبة لا تصدق للظل والنور، حين جلست في المقهى المتواضع لشرب الشاي الأخضر الياباني من الآنية التقليدية كنت مأخوذة كليا بفتنة المكان، حاول اندو تعليمي طقوس شرب الشاي، إذ يجب الإمساك بالفنجان بيدين اثنتين وشرب آخر جرعة بطريقة معينة، ولكني كنت مشغولة عنه بسلام وغنى عمر داخلي، كأني أصبحت ذرة في هذه الحديقة، ونقطة متحدة بتناغم الكون، لا تعنيني التماثيل داخل المعبد، أنا أحس بإلهي ملء روحي، وأحس بعظمته.
طلبت من اندو أن نبقى وقتا أطول، قال إن هناك أماكن أخرى بانتظارنا، فقلت له إني أود الحياة هنا، في حديقة البامبو هذه، قال لي زميلي أنت حساسة جدا، ولكن كيف يمكن أن يكون المرء كاتبا إن لم يكن حساسا؟ وافقا أخيرا على تركي لبعض الوقت، فجلست على المقعد الحجري حولي شجيرات البان والكرز والزهور وأمامي المعبد وغابة البامبو الصغيرة، أحسست بيدك على كتفي وبنسيج قميصك على خدي، أحسستك تقعد بجانبي وتأخذ رأسي في حجرك، ونحن متناغمان مع الطبيعة كأننا هنا أبدا، رأيت أطفالنا حولنا، وأحسست أن الله قريب مني، ثم أنت أقرب مخلوقاته في العالم كله إلي. ورأيت جلستنا هناك أبد لا ينتهي، فاخضلت عيناي بالدمع من رهافة ما أشعر به، في هذه اللحظة، بين السلم الحجري ومصاطب الخشب، بساطة المكان وروعة الطبيعة وكنزي في قلبي، لا في أي سبيل أخرى.
المعبد الثاني الذي ذهبنا إليه كان معبدا للشنتو، أكثر بساطة من معابد البوذية، وأقل زخرفة، وللصلاة فيه يكفي أن تصفق بيدك ثلاث مرات وتنحني مرتين، الديانة الشنتوية نفسها بسيطة ولا يعرف لها مؤسس أو تعاليم محددة، تفترض أن الإنسان كائن طيب في الأساس، وأن الشر يقع نتيجة تدخل الأرواح الشريرة، وتنحصر أغلب العبادات الشنتوية في إبعاد هذه الأرواح الشريرة عن طريق تنقية النفس، بالصلوات وتقديم القرابين للـ"كامي"، والكامي هي كل الأشياء والموجودات التي لا تنتمي إلى مجال التأثير المباشر للإنسان، كل ما هو غريب، عجيب، غامض. لا توجد للكامي أشكال محددة، كما أنها يمكن أن تتمثل في كل قوى الطبيعة (صخرة، شجرة أو حيوان).وهكذا فهمت أنه لا مكان لعقيدة التوحيد في الشنتوية، فبسبب تعدد المظاهر التي يمكن أن تتجلى فيها القوى الإلهية، ربط اليابانيون بين كل ظاهرة وآلهة معينة، وأعداد الكامي لا يمكن حصرها، ويمكن لأي شخص أن يعين آلهته الخاصة، كما لا يوجد في الشنتوية حياة بعد الموت.
تحتفي الشنتوية بدورة الحصاد والخصوبة، ولذا يحتل الأرز مكانة مقدسة على نحو ما، وهكذا يعد الساكي، الخمر المصنوع من خميرة حبوب الأرز مقدسا أيضا، وعلى امتداد مدخل المعبد تمتد براميل ضخمة ملونة من الساكي هدية من أشهر الشركات اليابانية، وهي تبرعات من أجل الآلهة والطقوس، لكن القديسين القائمين على المزارات الشنتوية يجنبون آلهاتهم العناء ويشربون الساكي بدلا عنهم، خاصة أنه – على خلاف أنواع الخمر الأخرى- ينبغي استهلاكه خلال سنة فقط من إنتاجه، وقد فرح أصدقاء اندو الغربيون بمعرفة أن قديسي الشنتو يتمتعون بالخمر المحلي "الساكي" طوال الوقت، فطلبوا أن يصبحوا أحد هؤلاء القديسين.
حينما تسمع ضجة أو صوتا عاليا فتأكد أنه قادم من السياح، إذ لا يتحدث اليابانيون بغير الأصوات المنخفضة والابتسامات والانحناءات. قدم بعض الناس إلى المعبد لمباركة مواليدهم الجدد، (نسبة الأطفال في الأسرة اليابانية 1,3)، أو لتمني أمنيات سعيدة في السنة الجديدة، وقد علقت عشرات الأمنيات على قطع خشبية في الجدران، تدعى هذه القطع "إما" وتزين أحيانا برسمة لثعلب، وهو رمز أو رسول للآلهة إناري التي تكرس لها غالبا هذه القطع الخشبية، تمعنت في بعض الأمنيات المكتوبة بالانجليزية فوجدتها تطلب دخول جامعة ممتازة، أو البقاء في صحة جيدة، أو الحصول على السعادة. على أن هناك مزارات خاصة مكرسة للعالم تينجن يقصدها الطلبة في أنحاء اليابان قبل الامتحانات ويعلقون فيها "إما" كثيرة لطلب النجاح. المعنى الحرفي لكلمة "إما" هو صورة الحصان، حيث كانت الأحصنة أعز ما يمكن تقديمه للمعابد، ولغلائها قام الناس بتقديم صور أو تماثيل لها، تطورت في النهاية إلى هذه الأشكال الخشبية الصغيرة التي تدون فيها الأمنيات. لم أدون أمنيتي على أي "إما"، ولكنها كانت حاضرة في قلبي: أن يولد الطفل الذي يحلم به شخص عزيز علي.
يمكن القول إنه بصفة عامة ليس للدين مكانة جادة في حياة اليابانيين، إذ يتوجهون ببساطة إلى معابد الشنتو في المناسبات السعيدة، وإلى معابد البوذية في المناسبات الحزينة.
تجولنا بعد ذلك في الشوارع، للأسواق والمطاعم والمقاهي في كاماكورا طعم فريد، مكان يملؤني بالحبور والبشر، أصر اندو على أن يدعونا للغداء فاخترنا مطعما صغيرا له طابع فرنسي، معظم المطاعم لها مطبخ مفتوح هو جزء من ديكور المكان، بحيث يمكنك مشاهدة الطباخ وهو يعد وجبتك، كل شيء لذيذ ومرتب، أحسست بالدفء، بالراحة، أكاد أقول: بالانتماء. ثم انطلقنا لآخر معبد: بوذا الجالس، ثاني أكبر تمثال لبوذا في اليابان، يرتفع لأكثر من ثلاثة عشر مترا، بدأ نحته عام 1252 واستمر لعشر سنين، زاره أوباما هذا العام، ثم تناول آيس كريم الشاي الأخضر، كتبت بائعة الآيس بخط منمنم على خشب دكانها البسيط: مرحبا أوباما! هكذا، بلا لافتات ضخمة أو شعارات، كانت مبتهجة بزيارته لدكانها، ولطيفة للغاية معنا ونحن نتذوق أنواع الآيس كريم بالبطاطا الحلوة والشاي، ونحن نودعها من نافذة السيارة بدت لي مرتبكة، أو –مثل كثير من اليابانيين- تحت ضغوط عمل صارمة.
25 ديسمبر
اليوم زرت معرضا للشاعرين الفنانين ميتسو آيدا وتوميهيرو هوشينو، كلاهما شاعر ورسام وخطاط، كرس جل فنه للزهور، لكن هوشينو أثر في أكثر، كل لوحة من لوحاته بها شعر (مترجم للإنجليزية لحسن الحظ) ورسم لزهور، أنواع شتى من الزهور: الليلك، الورد، عباد الشمس، الأوركيد، الكاميليا... لكن كل بتلة، كل وريقة، كل غصن، قد رسمها الفنان والشاعر والخطاط هوشينو بفمه، فمه الذي يمسك الفرشاة ليرسم، وحول الرسم أبيات في غاية العمق، وأقاصي الجمال في التعبير عن الوجود الإنساني ومعنى الحياة، قد أبدعها هوشينو، وكتبها بهذا الخط الجميل مستخدما فمه فقط، فهذا الفنان المرهف، الذي لامستني كلماته ولوحاته في الأعماق مشلول تماما، ولا يتحرك فيه غير رأسه، رأسه المبدع الجميل.
تخرج هوشينو عام 1970 في جامعة جونما، عمل معلما في مدرسة ثانوية لكنه أصيب في السنة نفسها في حادث تركه عاجزا عن الحركة ابتداء من العنق، يقول هوشينو إن أشياء كثيرة سلبت منه بعجزه، ولكنه منح أشياء أخرى مثل كتابة الشعر، يعيش هذا الشاعر الفنان اليوم مع زوجته التي ارتبط بها بعد عشر سنين من إصابته، وقد وصل عدد زوار متحف لوحاته في أزوما، مسقط رأسه، إلى أكثر من ثلاثة ملايين زائر.
بعد الظهر خرجت مع اندو مرة أخرى إلى داخل طوكيو هذه المرة حيث مقام مييجي، وهو مزار للشنتو، مكرس لأحد الأباطرة "مييجي"، وقد تم إنشاؤه استجابة لرغبة شعبية وليس لاعتبارات دينية معينة، وأجمل ما فيه هو الغابة الآمنة حوله، التي لا تكاد تصدق وجودها في قلب طوكيو، خاصة أنك بمجرد أن تخرج من المزار تجد نفسك في شارع المراهقين "تاكياشا" حيث محلات المكدونالدز والبرجر وموسيقى البوب ومظاهر الحياة المتأثرة بالنمط الغربي، نتحرك بصعوبة في الشارع بين أكداس المراهقين بأزيائهم الغريبة وتسريحاتهم الملونة، حدقت في حقائب الجماجم والجزمات الطويلة وتوكات الشعر السوداء الضخمة وفكرت أن أختي الصغيرة ستكون سعيدة هنا بلا ريب، فهل يتشابه المراهقون في أنحاء العالم أم أننا نخضع لتنميط عالمي مخيف دون أن ندرك؟ أنهينا الجولة في النادي السياسي، حيث علقت عشرات الصور لزعماء العالم، الذين خطبوا في النادي أو جاؤوا مثلنا ببساطة مدعوين لتناول العشاء، حضر مضيفنا مايوري رئيس الجمعية العمانية اليابانية وهو مدير لخمس شركات وفي غاية الهدوء والتواضع، وكايكو الرائعة التي أهدتني كتابا عن اليابان، ومايوكي التي عاشت في عمان أثناء إعدادها لأطروحة الدكتوراه، وهي تعمل اليوم في أربع جامعات في طوكيو ولا تتواصل مع زوجها الذي يسكن نفس المنزل إلا عبر الايميل لشدة انشغالهما في العمل، وتعد نفسها محظوظة لأنها حصلت على مكان لابنتها في الحضانة في حين اضطر بعض أصدقائها للطلاق من أجل الحصول على مكان لأبنائهم في الحضانات، إذ يحظى المطلقون بفرص أفضل لاستحالة بقاء أحد الوالدين في المنزل لرعاية الأطفال!
26 ديسمبر
هذا الصباح شجعت نفسي على تناول قليل من الأرز والسمك على الإفطار، ثم قابلت جين، موظفة تسويق لإحدى الشركات، مهاجرة إلى اليابان من الصين منذ خمسة عشر عاما، ومهتمة على نحو ما بالشرق الأوسط، كانت قد عرضت بعد محاضرتي أن تأخذني في جولة وجاءت اليوم في موعدها، لا أعرف لماذا يبدو هؤلاء الناس في منتهى البساطة؟ أم أننا نحن بتعقيداتنا الكثيرة نتخيل ذلك؟ تجولنا في شوارع جنزا الشهيرة بالماركات العالمية، ولكنها شهيرة أيضا في الليل بنوع آخر من محلات بيع المتعة، ثم توجهنا إلى شيبويا، وهي المنطقة المفضلة لصغار السن حيث العديد من المجمعات التي تعرض أشياء تناسب المراهقين، أحسست أن جين تفضل أن نتغدى في مطعم ياباني فدخلنا مطعما تقليديا، حيث وقفنا أمام جهاز، اخترنا نوع الوجبة، دفعنا قيمتها، فأخرج الجهاز لنا بطاقة، ثم جلسنا وأعطينا النادلة البطاقة، كانت وجبتي لا بأس بها، طبق من تيمبورا، أي مقالي (اخترت الروبيان) مع سلطة وأرز، وشربنا شايا يابانيا باردا "كوديتشا"، تساءلت جين: لماذا تبدو معظم دول العالم مستقرة ماعدا منطقة الشرق الأوسط؟
عدنا مرة أخرى للمترو حيث استغرقنا وقتا لا بأس به حتى وصلنا إلى أساكوسا حيث السوق التقليدي، فعزمتني جين على حلوى يابانية لذيذة اسمها توراياكي، نوع من الفاصولياء المهروسة بالسكر والمغلفة بالعجين، لم ندخل المعبد فقد دخلته أنا من قبل وجين لا تهتم، إذ لا ديانة لها، وحاولت أن تجعلني أشرح لها الفرق بين من يملك دينا ومن لا يملك، وهو موضوع صعب، وقلت لها ببساطة إنه في الإسلام مثلا نعتقد أن من يعمل أعمالا حسنة سيكافأ عليها في ما بعد هذه الحياة، فقالت جين إنها تساعد الآخرين وتعمل أعمالا حسنة دون أن تفكر فيما بعد الحياة، بل لأن الأعمال الخيرة تشعرها بالسعادة.
توجهنا بعد ذلك بالمترو إلى أشهر منطقة في طوكيو للالكترونيات وهي منطقة أكيهايارا، حيث آلاف الأجهزة الصغيرة والكبيرة في عشرات الطوابق، لم أفهم معظم الأشياء التي أراها. لا شك إن التقنيات التكنولوجية تشكل وتقدم اليابان الحديثة أكثر مما يفعله سيف الساموراي. من الطريف في منطقة أكيهايارا وجود العديد من المقاهي التي تخدم فيها نادلات يشبهن "المانجا" الكرتون الياباني الشهير الذي يصور فتيات جميلات بملابس جذابة، وتلبس هذه النادلات مثل هذه الثياب الملونة، بعضها يحمل إيحاء طفوليا وأنثويا في الوقت نفسه، ولذا تلقى هذه المقاهي إقبالا من الشباب خاصة. من وجهة نظري البنات اليابانيات في منتهى الأناقة والرقي في الملبس. على الرغم من استمتاعي بالحديث مع جين إلا أني أحسست بإرهاق شديد فاضطررنا إلى إنهاء جولتنا في مقهى لطيف حيث شربنا القهوة وتحدثنا عن عمان والصين واليابان، جين تستيقظ كل يوم في السادسة والنصف وتصل عملها في التاسعة صباحا وتخرج في التاسعة مساء لتصل بيتها في العاشرة وتنام في منتصف الليل، كل يوم، لكن بعض زملائها يعملون حتى الثانية صباحا، كنت فقط أفكر متى تغسل وتكوي ملابسها؟ ومتى تعيش حياتها الاجتماعية؟ طبعا كل هذه الأعمال تتم في نهاية الأسبوع، أما الطعام فتطبخ لنفسها وجبات بسيطة جدا وسهلة كل صباح، وبالمناسبة لم أر إطلاقا أي شخص سمين في اليابان.
27 ديسمبر
حين ارتفعت الطائرة كان الليل قد هبط، همست: وداعا أيها البلد المتحضر، وبدأت أقرأ: بلاد الثلوج، رائعة كاواباتا، الذي انتحر كما انتحر تلميذه وصديقه ميشيما من قبل. الطائرة تعبر بحارا ومدنا وأنا في الحب المستحيل بين الناقد المسرحي للباليه وفتاة الجيشا في بلاد الثلج.
"في الوقت الذي اعتقدت فيه أن الحياة هي أهم شيء، كان العيش مؤلما لي.
وفي اليوم الذي وجدت فيه أن شيئا آخر أكثر أهمية من الحياة، أصبح من السعادة لي أن أعيش".
"تومهيرو هوشينو"
• كتبت هذه اليوميات قبل الكارثة المؤلمة التي حلت باليابان، ويؤسفني أن المرأة التي أهدتني وشاح الكيمونو فقدت وظيفتها وبعض أصدقائها، وقد تحطم بيت "اندو" لكن عائلته بخير، تواصلت أيضا مع مايوكي وكايكو اللائي أبدين روحا عالية جديرة بالإعجاب، ولم أتمكن من التواصل مع جين.