عبدالكريم كاصد
(العراق/لندن)

عبدالكريم كاصد ليستْ البصرة ما أرى . إنها مدينة أخرى ... مدينةُ تاريخٍ مندثر ليست في واقعٍ ، ولا في حلم .
هل عادت البصرة التي أعرفها مدينة من مدن خيالي ؟
قد تكون البصرة أثراً في الواقع ومملكة في الحلم ، ألتقي أشباحها هناك في سردابٍ مظلم أو مقهىً خشبيّ مائل أو بيت مهجور.
مدينة تذكّرك بماض يبتعد كلما اقتربت منه .. مدينة لا تعرف غير الحجر.. لا علامات في الطريق ولا إشارة إلى ما ينبئ عن وجودٍ آخر ..
أحجارٌ أحجارٌ ورؤوسٌ تطلّ بين فترةٍ وأخرى عاريةً أو معممةً تحدّق فيك مذهولةً حين تمرّ ... وجوه لا تنتظر شيئاً كأنها وجدت هناك منذ آلاف السنين ...
وجوه لبشرٍ أو حجرٍ .
فجأةً تحس أنك جزء منها .. من أحجارها فتوشك أن تقف تمثالاً لولا أن أحداً يتقدم منك ليصافحك .
هل أتحدّث عن البصرة ؟
ينتابك ، أحياناً ، وهمٌ أن ليس لهذه المدينة تخوم أبداً فتخشى ألاّ تغادرها ، وحين اكتشفتَ مرة أخرى أنك اجتزتَ حدودها الممتدة بلا علامات لم تصدّقْ . وقد كان ظنّك في محلّه فالمدينة لم تغادرك منذ ذلك الوقت كأنّ مرضاً استوطنك فلا فكاك منه .
أنسكن المدينة أم المدينة تسكننا ؟
تدخلها فتصغر حتّى تكاد تكون حائطاً واحداً .. بيتاً واحدا .ً
وحين تغادرها تأتيك حيطاناً وبيوتاً .. أزمنةً ومقاهيَ .. أناساً لا يبرحون أماكنهم إلى ارض أو سماء .. أناساً لا يهرمون ولا يموتون. يدخلون الأزقة ويخرجون وملء أيديهم سلالُ رطبٍ أو أطفالٌ (لعبٌ ربّما ) ، لكن هيهات أن تستريح إليهم فأنت الآن لا تسمع لهم صوتاً أبداً ، كأنهم بعيدون عنك أميالاً في باطن الأرض . إنهم يشيرون دائماً فلا تنقطع إلى جهة إشارتهم بل تتأملهم مأخوذاً بهم.
أين هم الآن ؟
وحين رأيتهم مرةً كانوا يهمّون بالمغادرة.

***

وحين تسأل نفسك : ماذا تريد من المدينة ، لا تجد جواباً ، بل يصعد شئ في سلالم روحك ويهبط حتّى تكاد تهمّ بالبكاء فتغلق أبوابك وتنصت .
إنها الريح .. ماذا تحمل ؟
إنه الماء .. ماذا يحمل ؟
إنه الزمن يسيل بين جذوع الأشجار . ولكن لماذا ينتهي كلّ شئ إلى هذه الصخرة لتكتب عليها وصيّتك ؟
أية وصيةٍ ؟
وأنت الوارث كلّ شئ لم تُورث أيّ شئ .
كنتَ تحسب أن آلافاً من الأميال تفصلك عنها وحين قطعتها وعدت كانت المدينة أنأى . تراها المدينة ذاتها ؟
لا البيوت بيوتها ولا الناس أناسها ، ولكنْ ثمة أثرٌ ضائعٌ لي أراه هناك في زاوية لايراها أحد .
ماذا أفعل ؟ هل أتتبع أثري لذهاب أم لعودةٍ ؟ لميتين أم أحياء ؟ لبيوتٍ أم خرائب ؟ أم أغمض عينيّ وأنتظر نسمة تمرّ .
كأنني ذلك القادم الذي ينتظر القارب في العالم الأسفل ليعبر إلى الضفة الأخرى .. الضفة الثانية التي لم أرها وقد حلّ ظلامٌ كثيفٌ مشبعٌ بغبارٍ يلمع في الضوء مثل كريات زجاجيّةٍ صغيرةٍ تصطدم بسيارات مسرعة تتّجهُ الآن إلى كهوفها .
كيف لم أعرف أنها غابة أيضاً .. غابة يختلط فيها البشر بالوحوش وتنصت الأشجار مرتابةً ولا يتحرك الحجر حتّى لو تهشّم أحجاراً .
ماذا أفعل في الغابة ؟ هل أمثل دور الحكيم الصامت الممسك بالرمح فلا أنطق أبداً ؟ هل أخرج لأروّض حيواناً يعدو ؟ أم أسامر البشر بقصص الحيوان ؟ والحيوان بقصص البشر؟
ماذا أفعل ؟
هل أعيد الغابة إلى المدينة والمدينة إلى الغابة ، وأصيح أنا القادم بشريعة البشر : لا مكان لوحشٍ هنا؟ سيضحك البشر عندئذٍ وقد تلتهمني الوحوش .. أنا الحكيم الصامت ذو الرمح ..
من يصدّقني ؟
ماذا أفعل ؟
ماذا أفعل ؟
يقول المسافر وهو يتطلع إلى السماء علّه يجد طريقاً إلى مدينته .. خريطةً إلى إشاراته القديمة التي تومض فجأة لتختفي .. إشاراته الغابرة .
ها هو يلمح طريقاً طويلاً وسط ركام النفايات والماء الراكد الذي انعكست فيه نجومٌ بعيدةٌ باهتةٌ ليصل أين ؟
كيف أنت ؟
كيف أنت ؟
وحين تجلس وسط الأرائك لا تصدّق أنّ ما يفصلها عن الخراب مجرّد جدار، وعن سمائك مجرّد سقف ، وعن روحك مجرّد جسدٍ ، وعنك .. عنك مسافات لا نهائية لا تقرأ فيها غير نجومٍ تتوالد ، وطرقٍ تمتدّ ، ومسافرٍ وحيدٍ في سماءٍ قفراء .. قفراء ولا أحد .
هل تبكي ؟

***

وأغرب ما في البصرة سماؤها ، فهي تشفّ في الليل حتّى يكاد يضئ ويستحيل نهاراً ، فيرى أهل البصرة فيها ما لايراه الآخرون في السماء ، وقد يذهب الظن ببعضهم فيزعم أنّهم يرون فيها صورة أمواتهم وهم يتنزهون أو يقيمون موائدهم ويسمرون .. وقد تختلط صورهم بصور الموتى فلا يعرف الغرباء أموتى هم أم أحياء ؟ ولطول تحديقهم في السماء أهملوا ما يجري على الأرض. وما كان يجري في الأرض لم يخطر على بال أحدٍ ... هوام تتسلق أعضاءهم كما يفعل الهوام بالموتى ، بل إنّ بعض الغرباء أقسم أنّه رأى بيوتهم وهي تتحدب حتّى كادت تشبه المقابر .. غير أن أهل البصرة حين علموا بما قاله الغريب ضحكوا ولم يجدوا لفظةً لنعته سوى لفظة : مجنون!
ولعلّ أكثر سكّانها مرحاً هم شيوخها الذين يتطلعون في صورهم محمولة في السماء .. خفيفةً .. طائرةً أبداً ، تتنزه بين الأموات والنجوم ، والنساء العابرات بخفّةٍ كالظلال .. حتى إنهم لم بكونوا يخشون موتاً وقد استحالت حياتهم موتاً وموتهم حياةً ...
وحين سأل أحد الغرباء : وما يفعل عميانهم ... أجابوه : التطلع إلى السماء أيضاً فلم يعلّق ...
ولكنّه تطلع إلى السماء ومضى .

***

بين سفوان والمدينة صحراء غمرها يوماً طوفان هائل فتنقلّ عليها الناس بالقفف المطلية بالقار ، ثمّ عادت صحراء ثانيةً لم يشهد منها الطفل سوى مبنىً وحيدٍ يطلّ من بعيد ، وجامع قديم تكاد منارته المائلة على الطريق أن تسقط . ويالدهشته حين رأى مرّةً ، ولم يكن طفلاً ، صديقه الذي طالما شاركه الجلسة عند مائدة العقل معتمراً كوفيته وهو يتنقل بدشداشته البيضاء بين السيارات الواقفة في محطةٍ للبنزين ، ولم تكن دهشته أقل حين امتلأت الصحراء بالبيوت دون أن تمتلئ في ذاكرته ، فهي الصحراء ذاتها أبداً .. الصحراء التي اجتازها يوماً طفلاً بصحبة امرأتين ، بحثاً عن قتيل مفقود . يتذكر الطفل الذي كان حافياً جثةً وضبعاً يقف على الجثة ورصاصة فارغةً .. ثمّ يستدرك لا لم يك ثمة ضبع بل جثة رآها بعينيه ، ثمّ يستدرك لا لم يك ثمة جثة بل رصاصة فارغة ما يزال يذكرها ، مثلما يذكر قربة الماء ...
من القتيل ؟
لمن الرصاصة ؟
ماذا تفعل المرأتان في الصحراء ؟
كيف تحملت قدما طفلٍ لسع الصحراء وشمسها ؟
كان العائد بين سفوان والمدينة ينشر ما طوته الصحراء .. ينشر ما طوته ذاكرته .. ينشر وينشر حتّى لم يعد هناك حجرٌ يذكّر بالبيوت الممتدّة بلا نهاية .. العارية من الظلال .. السائرة ... أين ؟ .. ولكن كلما نشر ما طوته الصحراء كلما تراكم الرمل على الطفل حتى تكاد يغطيه تماماً
ولكن لماذا تتخيله القصيدة سائراً تحت الرمل :

ذكرى بعيدة غامضة رقم1

عصفت ريحٌ
فتوارى تلٌ
وامرأتان
وطفلٌ
مشدوهٌ
يتغطى بالرمل
طفلٌ
ما زال يسير بلا أثرٍ
يبحث عن ميْتٍ يبكيه ،
وظلان
يسيران
وراءه ..
طفلٌ
يبصر ضبعاً
ورصاصاتٍ فارغةً
في الصحراء
ويبكي
طفلٌ
مشدوهٌ
يتغطى بالصحراء

***

غير أن العائد الذي اجتاز الصحراء إلى المدينة لم يعبر إلى الضفة الأخرى حين التقى بالنهر .
كم سنةٍ مرّتْ ؟!
كان النهر ينفتح ويلتقي هناك بالسماء .. نهرٌ شاسعٌ كالبحر ..
قوارب يستقلها أطفالٌ باتجاه قريةٍ على الشطّ .
يتذكّر الطفل نهراً آخر وسماءً أخرى ومدرسة تستفيق فجأة وسط النخل ليستقبل طلاّبها وافدين من مدرسة أخرى . عندئذٍ يرتفع المسرح باذخاً : ستارة من سعف ، وعلم مرفوع يتوسط الساحة – المسرح ، وطلبة ينشدون :

مليكنا مليـكنا
نفديك بالأرواح
عش غانــــــــما
عش ســـــالما
بوجهك الوضاح

أصداء تتردّد في روحه فيصغي :

ذكرى بعيدة غامضة رقم 2

كان النهر سماءً
وسماء البصرة نهراً
يلتقيان
هناك ..
ويرتحلان
إلى أيّ سماءٍ أو نهرٍ يرتحلان؟
إلى أيّ سماء؟
يبصر فيها الطفل
مياهاً
وسراباً يلمع
وجزيرة كنزٍ
نائيةً
وقواربَ غادرها الأطفال
( قواربَ
أصغرَ من راحاتِ الأطفال )
وأستاراً من سعفٍ
تُرفعُ
خضراء
عن الساحة
والعلمِ المرفوع
وبضعة أصوات
تُنشد
والماء يسيل
( على النخل )
الماء يسيل
يسيل ...
          يسيل ...
                  يسيل

الساحة التي شهدها مراتٍ في الفجر وحلم بها مرات واستعاد مشاهدها في منفاه هاهي تعود بكل ضجيجها ثانيةً ولكن :
لماذا .. لماذا ما يزال العائد يسأل : أين هي الساحة ؟

في هذه الساحة التي تشبه الساحة الآن وقف مرّةً في طريقه إلى مدرسته يتطلع في أقدام مشنوقين وسط حشدٍ من الناس ، وقد راعه أن يرى الموت وهو يحدّق فيه ويرافقه إلى مقهىً في الساحة التي كانت مقبرةً يوماً .. ساحة أم البروم :

الموت في مشهد إعدام

حين سمعتُ الضجّةّ في الزحمةِ أيقنتْ
أنّ شجاراً يحدثُ أو أن صغيراً دهسته الأقدامْ
لكني أبصرتُهُ محموماً يتدافع نحوي ، فتساءلتْ
أين رأيتهُ ؟ في أيّ زحام ؟
في يده – أذكر- صرّة أثوابٍ لمريضٍ
وعلى خدّه طعنةُ سكّين
كان يحدّق في وجهي مهموماً ..
فتشاغلتْ
عن عينيه برؤية أقدام المشنوقين
ثم اعتذر وأغضى
ودعاني أن أبتاعَ له شيئاً في السوق
أو أن نشربَ شاياً في المقهى
حدّثني عن حمالين اقتتلا
( كان يشيرُ إلى الساحة )
ثم بأسمالهما حُملا
وبكى حين تذكّر وجهَ صديق
أيقظه صوتُ شجار
قال : مررتُ عليك .. متى ؟
- لا أذكر –
لكنّي أبصرتك من نافذةٍ ذاتَ نهار
تتحدّثُ عن أشياء
لا أفهمها ..
ألقيتُ على وجهكَ ظلاّ
وعبرتُ على استحياء
وارتجفت صورتُهُ المقلوبةُ في الفنجان
كنتُ أحاذر طول الجلسة من كتفيه
لكنّه جرّ ذراعي دون استئذان
وتطلّع في ساعتهِ ..
ثمّ مضينا في صمتْ
قال : أمرّ عليك الليلة إن شئتْ

1969
( من ديوان الشاهدة )

* فصل من كتاب معدّ للطبع بعنوان ( باتجاه الجنوب شمالاً )

kasid3@hotmail.com