مقهى "ريش" في القاهرة
أريد أن أسافر سفراً "غير شكل". هكذا أروح أردد لأصدقائي حين أكون أعني السفر إلى القاهرة. ذلك الحد الكبير من التوق في حياتي، والشغف غير المفهوم (وكل الشغف غير مفهوم).
في القاهرة، لا أقصد الأهرامات، او المتاحف والمسارح ودور السينما وكافة المنتديات الثقافية. في القاهرة، يستهويني المشي في شوارعها المتمددة باطراد دون اتساق، أرقب ناسها المتزايدين دونما انضباط، وأترك لغبارها الهائل تقطيع أوصال صدري المقطوعة أصلا من التدخين. مكثت في سفري الأخير ما يقرب من أسبوعين، وما كان من إجازتي التي انتهت أخيرا أن تبقيني أكثر.
في أسفاري القديمة إلى القاهرة، القاهرة تحديداً، كان وضوح التقسيمات ما زال ماثلاً في ذاكرتي. تلك التقسيمات الشوارعية والمدنية والهندسية التي أزالها الوقت بصورة شبه كاملة تقريباً، حيث تركت هذه لأقدارها لما غيّرها الإهمال وأطبق عليها بقبضة محكمة حتى لم تعد القاهرة مطواعة ولينة كما في السابق، فبدت الآن قاصرة عن فكرتي عنها لسنوات خلت.
اخترت لإقامتي مكاناً أرى منه إلى النيل، شأني في كل زيارة قاهرية. فحميمية المشهد كفيلة بتبديد بعض وقائع اليوميات الضاجة والمضجرة عموماً، نتيجة زحمة المرور الخانقة التي لا تسمح لك بإنجاز لقاء او موعد في لخبطة حقيقية لا تغتفر لأوقاتك ومواعيدك وبرنامج رحلتك بأسره، الذي تكون قد اعتنيت بوضعه وتهيأت لإنجازه في القاهرة. وهكذا كان لي ان أكون سارقة مواعيد قليلة جمعتني ببعض الأصدقاء، ومنها ننطلق ليلياً إلى متاهة الشوارع القاهرية المكتظة، والمقتصرة على قلب البلد، المكان الأمثل لمعاينة التغيير الذي حل بمقاهي وبارات القاهرة القديمة، باستثناء تلك التي امتدت إلى مناطق أخرى (الزمالك، المهندسين، مصر الجديدة) وشوارع أخرى، وكلها شبابية بالكامل وتمتلك طابعها العصري كأن يُلحق بالمكان، قاعة للإنترنت او مكتبة او مكان لسماع الموسيقى وسوى ذلك.
القاهرة ما زالت محتفظة، بخفة دمها ونغماتها وإيقاعاتها المفاجئة، رغم الوضع الاقتصادي الرابخ على أكتاف المصريين. التجوال اقتصر على الأوقات الليلية، فتلك النهارية متعذرة بل مستحيلة في وجه رغبتنا إلى التأمل، تأمل الأمكنة، ماضيها وحاضرها.
"زهرة البستان"
ما من أحد، كصديق مصري حميم، يتنقل معك بتلك الرشاقة ويُفهمك بذلك الإقناع البليغ، معنى مشهد من مشاهد الحارات المصرية، زواريبها وناسها ومقاهيها الشعبية والأدبية.
مشينا قلة قليلة، عائدين في الزمن إلى الحين الذي كانت فيه المدينة كوسموبوليتانية، حرة مفعمة بضروب التميز المدهشة اكثر مما غدت عليه الآن. الثانية عشرة منتصف الليل. الازدحام واضح وسط البلد او ميدان التحرير على وجه الدقة وشارع طلعت حرب على وجه اكثر دقة. كان مقهى "زهرة البستان"، ويقع في شارع هدى شعراوي، أول مقهى ارتاده صديقي الشاعر، قبل ان "يستوطن" المقاهي وتصبح هذه بيته الثاني.
التغيير أصاب المقاهي كما أصاب كل شيء في القاهرة، فلم تعد مقاهي الأدباء كما كانت من قبل. وهي ما زالت موجودة وفي أماكنها القديمة، لكن بما يناسب ما حدث للقاهرة اجتماعيا وسياسيا وبنيويا وهيكليا فلم يعد مقهى "زهرة البستان" بكامله للأدباء والمثقفين كما عرفه صديقي سابقاً، اذ تم الآن حصار هؤلاء على رصيف صغير، أما باقي المقهى فاحتله الشباب الجدد، ولا علاقة لهم بالأدب بالضرورة.
مقهى "ريش" بصيته الذائع سابقاً، لم يعد يحمل من تاريخه سوى الصور التي تملأ جدرانه لأدباء ومؤسسين في الثقافة والفن، واقتصر حضوره على بعض الأدباء يقصدونه على استحياء في موعد عابر وقصير، وفي نوع من النوستالجيا للزمن الماضي حين أصبح "ريش" يختص باستقبال الأجانب فقط، وبعض الزائرين العرب ممن لهم بعض الذكريات يأتون يسترجعونها.
ريش وستيلا
على بعد خطوات من "ريش" على الناصية الأخرى يبقى بار "ستيلا" او كما يطلق عليه الأدباء أسماء متعددة مثل "الجامعة" او "المخزن" من مساحته الضيقة التي تحار معها كيف تحتضن زائريها الليليين. زوار "ستيلا" من الأدباء المصريين الشهيرين، وبالتحديد الصعاليك منهم او الهامشيين بالمعنى الجميل للكلمة، وكان يرتاده يحيى الطاهر عبد الله وأمل دنقل ومحمد مستجاب، ومن رواده حالياً محمد عفيفي مطر ومجموعة كبيرة من الأدباء، كما ويطلق على ستيلا اسم "المكتب" من باب التندر. في بار "ستيلا" ما زال طعم الزمن والتاريخ. وبالإضافة إلى الشاعر مطر قد تجد الروائي محمد البساطي وسعيد الكفراوي والشاعر محمد سليمان وإبراهيم داوود حيث يسود طقس جميل، اذ بعد الزجاجة الرابعة او الخامسة يبدأ الجميع في الغناء ويتحول البار بكامله بار ستيلا عبارة عن غرفة واحدة إلى طاولة واحدة تضم الجميع، بمن فيهم "البارمن" أو سيد المكان (كما يقولون عنه) والذي يديره وهو سيد حماد، موظف ومتخرج بكالوريوس تجارة، يتوسط الطاولة ويتحول إلى واحد من الساهرين في أخريات الليل، ويبدأ في فرض أوامره ووصايته على السهارى: "أنت شربت كتير النهار ده" او "أنت لازم تروّح البيت حالاً" وهكذا. حمّاد في النهاية له الكلمة الفصل في المنازعات الأدبية التي تنشأ فجأة بين الحضور، من خبرته في فض النزاعات لأنه خبرها لسنوات طويلة.
مقابل بار ستيلا، هناك مطعم وبار "أستوريل" الذي ما زال يحتفظ بطابعه الكلاسيكي ويرتاده في الغالب الكثير من السينمائيين والقليل من الأدباء. في أستوريل، يسود الضوء الأحمر الخافت، والسكينة والنبرات الخفيضة، وتنبعث أغنيات في الغالب لفيروز وأم كلثوم مع الموسيقى الخفيفة الفرنسية.
هذه المطاعم والبارات و"القهاوي" تقع في دائرة واحدة يتوسطها ميدان طلعت حرب، حتى إذا ما توجهت إلى شارع هدى شعراوي على بعد خطوات تجد مجموعة من المقاهي القديمة التي ما زالت في هندستها ومناخاتها محتفظة بتاريخ طويل من الذكريات ومن أمجاد الصفاء الماضي، ومنها "سوق الحميدية" الذي افتتحه الرئيس جمال عبد الناصر أيام الوحدة العربية، ولقد أكله الإهمال الآن، فلم يُبق الا على "ندوة الأحد" التي يقيمها بشكل مواظب الناقد فاروق عبد القادر.
في نفس ميدان باب اللوق، هناك مقهى وبار "الحرية" وهو من أكبر المقاهي في مصر، من حيث المساحة على الأقل، وهو ما زال محتفظا بطابعه التقليدي والوحيد (كمقهى) الذي ما زال يقدم البيرة حتى الآن، ورواده من الكتاّب والأجانب، وللمقهى طابع خاص للصباح وآخر للمساء. بمعنى ان رواد شرب القهوة وقراءة الجرائد صباحا يتحولون ليلاً إلى زبائن لبار ضخم يقدم كافة المشروبات الكحولية.
في طلعت حرب أيضا، نجد مطعم وبار "الغريون"، المعروف للمثقفين منذ ما يقرب عشرين عاما. بار فسيح نسبيا بهندسته على شكل قناطر مع إضاءة خافتة ويتم ارتياده بشكل كثيف وخاص مساء الثلاثاء في تزامن مع ندوة الثلاثاء التي تعقد على مقربة في "أتيلييه القاهرة"، التي عُرفت بأمجادها الثقافية وشكلت علامة فارقة في حياة القاهرة الأدبية وما زالت.
إلى جوار "الغريون" في نفس المكان، وبالتحديد على بعد خطوات من "جروبي" المقهى الذي لم يعد يتمتع بصيته الارستقراطي القديم، لا من حيث المكان وإعادة تأثيثه تأثيثا متسرعاً واستهلاكياً ومنافياً للذوق الذي اشتهر به، ولا من حيث جودة بضاعته "الكاتو والحلويات والكيك" على أنواعها ولا من حيث نوعية الحضور... فوق "جروبي" إذن، هناك "النادي اليوناني" الجميل بعمارته، وملتقى الكثير من المصريين والأدباء الشباب منذ ما يقرب عشر سنوات، وجمهوره في الغالب من المسرحيين والسينمائيين الذين يلتقون في أمسيات ثابتة في مواعيدها، فلا حاجة إلى المواعيد هنا، تأتي في أمسيات الثلاثاء فتلتقي كل من ترغب في لقائه.
لست وحيداً
الممرات والزواريب والحارات المفضية إلى وسط البلد، ما زالت عماراتها رغم التآكل والقدم وعدم الصيانة، تحافظ على طرازها الايطالي في الغالب، والفرنسي في بعضها، وعلى أرصفتها تصطف الكثير من المقاهي يجتمع على أرصفتها العامة الشباب من هواة المسرح وممثليه.
ليست البارات والمقاهي في أماكن القاهرة المتفرقة موضوع مقاربتنا هنا، سوى ان القاهرة برمتها تبدو وكأنها مقهى كبير، ففي شارع الفيصل وحده، هناك مقهى، بين هذا المقهى وذاك، تماما كالتوصيف الذي يقال عن باريس. فضيلة هذه السلسلة الممتدة من المقاهي، انها لا تتيح لك الشعور بالوحدة في أية ساعة من ساعات النهار او الليل، فهي تستقبل مرتاديها طوال الوقت وبعضها لا يحتمل فكرة الأبواب او فكرة ان يكون لمقهاه باب يقفله: "نعمل إيه بالأبواب يا ستي، ما إحنا فاتحين ليل نهار". رغبة أحد غريب، سائح او وافد جديد، في ان "يُشيّش" اي يشرب الشيشة او "الأركيلة" في الرابعة صباحا، رغبة متحققة من سهولتها، ومن المقاهي الفاتحة ذراعيها من دون ملل. مشهد 57 مليون مصري في مواسم ألعاب كرة القدم وهي كثيرة في مصر مفترشين الشوارع، او ما يسمى بالمقاهي الشعبية، مشهد لا تجده في أية مدينة من مدن العالم، من كون القاهرة، حاضنة طبيعية لناسها، الذين في ملمحهم العام لا ينمون أبداً عن أي خطر او اي عنف. فتجوالك في شبهة الغريب إلى حد في الثانية ليلا في ميدان التحرير، وحيداً او بصحبة أحدهم، لا يعكره شيء، بل ترى ما لهذا الشعب المديني من خلق طيب ولطافة عميقة.
القاهرة مدينة توافقات وتكيفات لا حصر لها. وعلى الرغم من المنغصات المرورية والتحديات المناخية، فهي مدينة ما زالت متماسكة، وما زال التسكع والمشي فيها متعتين كبيرتين، عدا عن انها (المدينة) متوفرة على كثير من الفضاءات المفتوحة، ومحطات استراحة شعبية تقام حيثما تجتمع معا مجموعة من باعة الأطعمة الجوالين: "فول، طعمية، كوشري، كبدة وسواها". شوارع تنبض بالحياة، وأينما توجهت ترى أدلة على كثير من السرديات المختلفة، والهويات، والتواريخ، وإن بصورة جزئية وكثير منها هو الآن رث او محدود. البتر الذي أصاب القاهرة في هندسياتها، تحاول معادلته بنوع من الليل الناشط الذي ينتشر سريعاً في كل الأماكن، كأنما النهار جُعل لذوي الاحتياجات الفورية، والمشاغل غير البهيجة، أما البهيجة فلا يوفرها سوى السهر، كأدسم ملمح تتزود به كزائر.
السفير
نوفمبر- 2006
إقرأ أيضاً: