العاصمة الثالثة

1

في المنفى ابتدأت الخليقة

برصانة انتشر الملاّحون في أروقة العاصفة رافعين بوصلاتهم ومراصدهم المبلّلة بالمغامرة غير آبهين للجزر الاستوائية التي ترشقهم بالأناناس وجوز الهند، فيما كان الباز ـ ربّان الغيم ـ يشكّ بمنقاره المعدني فراغ الريح ويدلّ السفن المترنحة زهواً إلى قارات ليست موطوءة.

سفن تحسن الجدال، تتقن لغة العاصفة، تقدّر صداقة الموج رغم تقلّبات روحه. وبينما أسماك القرش البيضاء، المتحصّنة وراء حطام اخطبوط عملاق، تصغي منبهرة إلى هذا الحوار الذي لا تنقصه الصراحة ولا يخلو من طرافة، كان برابرة أشدّاء يخوضون طفولة الماء، قادمين من كهوف بعيدة، وهم يجرّون قرى صغيرة منهوبة ليؤسسوا بها ممالك للذهب، كانوا يطلقون من سواعدهم العارمة حلم امتلاك العالم، وكانت أناشيدهم الغامضة تزداد سعاراً كلما حاذوا مجتمعاً آيلاً تتناحر فيه الطبقات.

ثمة جزيرة عامرة بالغزلان وأشجار الموز، في ضفّتها تسكن المومسات الزاهدات في الجنس، اللائي يعطين دروساً في الكيمياء وعلم الفلك، وفي الضفة الأخرى يقف تجّار الخشب والعطور والأقمشة الذين اعتادوا المراهنة على تحولات البحر وهم يرصدون بالساعات الرملية احتضار العاصفة كي ينقلوا بضائعهم إلى أقطار مجاورة لم تتعلم بعد المقايضة.

في هذه الجزيرة تحتشد التناقضات ولا تتجانس العناصر. الزرافة تنتسب إلى الكواسر،
الثعبان يلوذ بالحكمة ويتنسّك، المرأة تغيّر جنسها، الطفل يعبر الرجولة لحظة يشاء، ويحدث للرجل أن يوحّد في ذاته الذكورة والأنوثة.
كلّ ينتحل وجه الآخر ومهنة الآخر. حتى الفصول، المشهورة بالدقة والاتزان، لا تنتظم في مدار واحد تحت طقس جامح فقدَ سائسه الذي امتهن التسوّل. أيضاً تقدر الجزيرة أن تتنكر في هيئة ضباب أو قوقعة، أن تنقل آبارها وأشجارها من مكان إلى آخر، أن تسفح مرتفعاتها وتكوّر أريافها، أن تتظاهر بالشجاعة أو الجنون.
تفعل كل ذلك من أجل حماية نفسها من القراصنة المجنّحين الذين كانوا يتربصون بها من كل ناحية، ولم تعلم أنهم قد رحلوا منذ زمن مع الجغرافيين إلى أصقاع نائية لم تُكتشف كنوزها بعد.

رحلوا مع دعاباتهم الفياضة ومشاعرهم النبيلة حاملين القليل من الزاد، الكثير من وجع الغياب. غابوا مثلما غاب أجدادهم في خرائط الليل عاقدين البسالة حول أرساغهم خائضين عزلة الدم، يرنون بفيض من الشوق إلى وميض مرافئ كانت في ما مضى تزفّ لهم الأنخاب بسخاء وتضمّد دموعهم الخجولة لحظة يجرّحهم التشرد.
سيمرّ وقت طويل قبل أن تدرك الجزر مدى رهافة عواطفهم ونبالة مواقفهم. كان ينبغي أن تحبهم وتحسن ضيافة حضورهم بدلاً من رجمهم بالعداوة وسوء الفهم.
هكذا تعدو الأساطيل من لجّ إلى لجّ بحثاَ عن مخبأ قرصان، وفي مهب القصف تعدو اليابسة صوب النهر والنهرُ صوب اليابسة.

ثمة زنجيات موشومات بالعرافة عابقات بالسوسن يتزاحمن عند مدخل الغابة التي تئن كلما تصارعت الثيران البريّة. كن قد خلعن هالات الديانة وخرجن بلا احتشام من صومعة الكاهن الأكبر بعد أن دنّسنَ المعبد ولطّخن الشعائر بالبول والحيض وهنّ يهلّلن للانشقاقات.
مبدعاتُ أساطير. والغابة لا تحقق كمالها ولا تكتسب سحرها إلا بحضور الزنجيات اللواتي غسلن نهودهن بشحم فهود رقطاء.

في الغابة المغمورة ببياض الحكايات:
كان الغُريْر يتأمل انخطاف السماء حين يدغدغها الريش فتكتحل بسعف الليل.
الكرة الأرضية تتدوّم على قرن جاموس يمضغ اسطبلاً.
الوَشَق المغرم بالاغتيال يستعير شقرة البحيرة ويلعق مرآة أنثاه.
الزنجية تمتدح أمومة القمر وتستخرج من سرّتها حواةً وأميرات وأسواقاً شعبية.
الثيران البرية تدشّن حلبات مغبرّة مرصوفة بالدويّ.
واليحامير الفسفورية ـ المسترخية في محميّات ليفية ـ ترقب كل هذا، ترقب مختلجةً شتاء الغابة وتتمتم:
الحلم ربيع الأشياء، طفولة الأمس

ثمة حيوانات ستنقرض. لكن الطبيعة كانت مكتنزة بالتكهنات. ليس شاذاً أن ينبثق من الخنشار نهار مبرقش يرشح توابل، تتبعه ثعالب أنيقة تحاصر الأرض بالحقب الجليدية. على الثلج دم لبوءة تحلم في خيلاء.
شلالات تتدلى على كتف جبل يشق المدى بخطواته الواسعة.
كوكب يفتح حقيبته فتنسكب منها النيازك المرحة.
كان العالم كله مرشوشاً بالسحر.

2

يوم قالوا اهبطوا بعضكم لبعض عدو
ابتدأت الخليقة
في المنفى

وأنتَ، يا مَنْ تموت مراراً وما يزال في فمك طعم الدخان،
أما شبعت موتاً؟
أما اكتفيت تجوالاً من حانة تقرض ببطء عنان ذاكرتك، إلى ميناء يصادر رسائلك ويرجمك بالحقائب، إلى غرفة ترفع فيها قبضتك مهدّداً ثم تخرّ باكياً كل مساء؟
أما اندثرت
أبسط لنا صدرك الرخو، يا متخماً بالوحدة، لننبش وشم التجربة ونستجلي:

غياهب أيامك
حاضر الحلم
ألغاز السفر

ماذا صنعت بدم الغربة يا غريب؟

كنت أقرع الضاحية الرطبة، شبه المهجورة، بكعب حذائي فيما أستنشق مخموراً تعرّجات المسافة.
كائنات ليلية تتسلل زاحفة من الفوهات لتحرق الغفوة وتسعّر الجلبة،
رذاذ ينقر رخام الحي الشعبي ويتجمهر في الأفاريز،
عازف كمان، مصاب بالربو، ينشج على الرصيف،
امرأة تُخرج رأسها من النافذة وتغسل شعرها بزَبد ضباب أسود.
وكانت أصوات خافتة، لمحادثة مبهمة، تتبعثر في زاوية مقهى بعيد بينما في الناحية الأخرى من الحديقة المحبوكة بالضوء يتوارى أطفال خلف سنديانة مترصدين كهلاً يروّض الحمام بفتات خبز.

كانت الطرقات المتورّمة تزمجر تحت خطواتي. خبأت القشعريرة تحت ياقتي واحتميت بجدران كانت ترخي أسمالها المكسوة بالملصقات وتدفعني نحو عتمة تتحرش بي كلما توغلت في خميرة الليل. عند المنعطف كلاب تنهش ذراع متشرد فاقد الوعي. بين الأزقة سكاكين ناتئة تغتال أنحائي دونما شفقة. أجفلت. أسلمت لهاثي لركض قادني إلى بناية متداعية ارتقيت سلالمها قفزاً حتى ألفيت نفسي وسط غرفة موبوءة بالضغينة راحت تمضغ أطرافي كالهشيم فعرفت أني سوف أتشتت خلية خلية وأن العالم سوف يتهشم في أحداقي.

أول الطفولة

باب يجنّحني. أحلّ وثاق الثدي السخيّ فيرفعني الفطام إلى ومْض أستحم فيه مقمّطاً بالبهجة، وخلسة تزدحم فيّ الشقاوة فأرسو مانحاً ضجيجي لغة اللعب والمشاكسة. تلك اللغة المشاعة بين أقران يتأرجحون كالعناقيد في لبّ الأفق وفي مصبّ النهار يتخاطف غضارتهم الزحام وخبث الباعة.
كنا نجمع الصَدَقات والقطط الصغيرة عند عتبات المساجد. نسمّي الشارع ميدان حرب والحوانيت البخيلة نبيحها للسطو. بالحصاة نمتحن فتوّة الخصوم. أما الأكثر مهارة في رمي السحالي فينتخب حارساً للحصون المشيّدة من الخيزران والمستخدمة كمخابئ للمعادن والأسلاك والدواجن المسروقة.

ما كان المؤذن الأعشى، القيّم على تلقين القرآن، يقدر أن يصدّ شياطين الغزو عن اقتحام داره مساءً وسرقة سراويل امرأته التي كانت، عندما تجلس لتغسل الثياب، تباعد ما بين ساقيها كاشفة عن فخذين ممتلئتين بينهما نلمح عشاً أسود يلمع بفعل قطرات فضّية لا نعرف مصدرها، وكنا في خضمّ المشهد نجهد في كبح القهقهة المدويّة سراً ونلوي أعناقنا صوب آيات مرتعشة بين فكيّ بعلها الذي يخيط كلام الله في رؤوسنا ويمجّد العقاب.
بأقدامنا الصغيرة، الحافية كالعراء، نحشد الطرقات في محاجر الضحى، ونلهب ظهورها ببراءة الشر. نرهب بالبغضاء ابن التاجر، نطلق في أرجاء الطوب هدير الخلخلة.

لم يخطر لي،
أنا الذي يحشو جيوبه بأعراف ديوك ميتة ويرشو الريح بالمصاهرة، أن الأرغفة مختومة بالدم، وإني سهواً دخلت

أول النمو
وعلى غفلة شبّ فيّ وتد الذكورة.
الملامح الغضّة، العصيّة، طفقت تتأوّد في اليقظة الشبقية حيث النهد نهر والإبط فضاء تسرح فيه فحولة التخيل. ما مِن أريج، ما مِن حفيف شفتين نابضتين بالاشتهاء، إلا وكان مدّخراً لسرير الوهم.

مضغتُ قات الجنس وحولي ستائر مسدلة على نساء يغرفن من موسم القطاف أنين المعاشرة. أذكر حمرة الكحول في سهرة الهباء وأين زحفتُ زحفَ الثمل في سندس النكاح باحثاً عن أعشاش سوداء تتلألأ بالقطرات الفضية تحت غلالة جسد الحنطة، لكن طوّحني الظمأ إلى سُلّ المواخير حيث الدهاليز اللولبية تتجشأ هياكل عجافاً تتداخل في عتمة الزوايا منخورة بالاغتصاب ولها طعم المستنقع.
كنت قد راهنت روحي أن أظل بمنأى عن المعصية وجنون الاضطهاد، غير أن الذنب راح يتسرطن في أعضائي فقلت: يا رب، خلصني.
كانت الشوارع وقتذاك تندلع بالهتافات وخراطيم المياه تلاحق اللافتات من بيت إلى بيت. نفّضت جلبابي واعتليت سنام مظاهرة سلمية أخطب هاذياً في جمع هاذٍ لا يفقه أقوالي الثورية، وأذكر أن حزبياً ضليعاً في النظرية والممارسة قد وبّخني لجهلي بالأصول الثورية والأبجدية النضالية، فخجلت ومضيت أقذف المحلات التجارية بالروث.

أول العشق

حفيف بالغ الطراوة لفتاة تمشط النهار بأجفانٍ كقوس قزح، تدغدغ الضوء بضوء محيّاها. خطاها المخملية تبحر بي إلى مدى يشرنقني بالوعود وينذر لي مفخرة النقاء.
كنت أمشي، أنا الغارق في سهرة الحلم، خلف أساور الجميلة متمادياً في العشق، مالئاً كراريس الحب ثمار اللهفة.
عذبة كالهمس، باسمة كالاحتفال.

الليل المراهق كان يرصّع الشرفة بحضورها الحريري، وإذ يميل جذعها القرنفلي معرّشاً أرق الحارة، تلتهب أصداغ الساحة المهمَلة ويكتفي الوله المعذّب بين زيزان السهر شاخصاً إلى شرود أنيق يظلل عينيها المسافرتين معاً في أشكال الحدس.
ظهراً، تتفيأ زرقة الأنوثة فيما يحرس النخل تورّد ثغرها في بشرة الجدول.
هلّا أفسحتم، يا جيران القيلولة ويا أشباه الثرثرة، ألياف النسيم كي تمرّ حبيبتي نحو عرشي. فسحة ضيقة من أجلي كي أمرّ للقاء الموعودة لقلبي.

حبذا تباغتني الحبيبة بالحب. تبسط لي العلامة المذهّبة، مثل ملاءة، لأتقدم رحباً صوب حنان ذراعيها حاملاً سبائك الحصاد مكللّا بالينابيع. كان يكفي هذا لأضم الأحياء بين جوانحي وأصنع من عجين الصباح أعياداً يومية.
حين جازفت بالمثول أمامها مرتجفاً، أرشح ارتباكاً، أشاحت ممتعضة ومن أظافرها طفر النفور. رأيتها في ما بعد تخاصر شاباً بالغ الميوعة يتناغيان كحيوانين مريضين.
من قال أن هذه الحولاء مفخرة النقاء وأميرة القمر؟ تدرج مثل البطة ومن صدرها تنتأ لوزتان تسميهما نهدين. حتى أن جمالها غير ملفت. ليس عن حقد أقول هذا، ولا لأني مخذول، إنما هي لحظة سطوع الحقيقة الموطوءة. من منكم لم يستر عاهات حبيبته بعبارات الإطراء ولم يعتبرها الأجمل والأنبل في كون النساء؟

غير أني تجزّأتُ، حوّمتُ بعضي فوق بعضي، وانسكبتُ مسفوعاً بالخيبة والإهانة نحو حضيض المكتبات العامة أقرأ بنهم عصارة البشر.

أول الشك

مغارة تشرّح اليقين بمبضع التناقض. قادني الجدل المحظور إلى المتاهة المحظورة. هزّني الوجل بادئ الأمر، ولما انتفض اليقين داخل هيئتي، جدّفت في بئر القداسة هادماً أيقونات العصور، مسمياً الطاعة رجساً والكتاب أفيوناً. كل الرموز باتت مهدورة للازدراء:
وحي الدجل، علم الإرهاب، ختم الطبقة، شارة الطائفة، لبن العائلة، مبولة النُصُب.
أشهرت ارتيابي ووسمت المسارب بوَسْم السيول، لوائي قوارض الفولاذ.
لذّ لي أن أحاكي الأرباب في صياغة عالم عادل تزهو به الأمم. قبر للجيفة الارستقراطية. نبع لفقراء الصفيح.
كنت أحسب أني المؤهل لعبء الانقلاب. هكذا حملت راية الفداء وأومأت للجهاد أن يلبسني، ثم مضيت أنتقي حزباً متزمتاً يعلمني الطهارة الثورية. فهمتُ أن المضاجعة إذلال للمرأة، وأن التنزّه إهدار للطاقة، وأن الاستحمام يومياً عادة بورجوازية، وأن بائعة الفول الخرساء يمكن أن تكون مخبرة إذا نظرت إليك بتفحص وإمعان.

أول الانكسار

سجن يشلّ الفراغ يصادر المسافة. غياب مجاني. الأسماء الحركية، الملغومة بالخيانة، جاءت دفعة واحدة لتحتل كراسي الاعتراف. صعدت الوشاية إلى هرم المهزلة، فتوافدت الخلايا السريّة مطوّقة بالذهول إلى أقبية السوط المجدول.
تحت شجرة نبْق وحيدة، وسط فناء مبطّن بالقضبان والزواحف، أرخينا أوشحة الأخطاء وتبادلنا: الاتهام، حداد الأهل، زهو الأصدقاء بنا في الخارج.
كم اشتقنا، كم تأقلمنا، وكم اخترقنا الجدار بإغماضة عين. حلمتُ أني محارب من قش أوجّه المنجنيق نحوي وافتح ثغرة في الصدْر بحجم دالية منها يتسلل أسرى الوهْم هاتفين للوهْم بينما يهدرون أغلالهم في زرائب قاحلة،
وكنت أتشتت كالتبغ في شرانق الرثاء.

اعتليت سوسنة التيه معتذراً لجمهور كان يحتشد محدودباً في حضيض المسرح يرحّب بالقباقيب مسيرة وزراء مكلّلين بحبر المفاوضات، تحت عباءاتهم المذهّبة تتدشّن مرابط الأحلاف.

طاب مساؤك
يا اندحارات
يا كتباً تتدجّن تحت أختام المحرّمات
يا فتيات يهبطن من الملاّحات بأفخاذ مريّشة وينثرن التوابل في فم الفحل
يا البراءة القاتلة
يا قمراً يسرد إباحيته في عين عاشق لا يبصر داخل المدى غير حلم فاحش ينزلق من
ثديٍ ليخلب قلب مذنّبات تتطاير اهتياجاً
يا طرقات مدّخرة للتناحر
يا نواطير مزنّرين بالمهابة تحتدم أسفل أظافرهم الرعدةُ إذ يجادلهم الصقيع فيلتجئون إلى
عوسج يرشوهم بالدفء تاركين الساحات مفتوحة أمام عبور المخازن المهرّبة
يا الرغبات المنكوثة
يا جمهور المستعمرات
يا نساءً مشجرّات بالخصوبة يحلجن الأرحام فيما يصخن للجارات العواقر وهن يرسلن
الفحيح الجهوري إلى محراب الشفاعة

يا قططاً تخلع جلودها تحت ليلكة ومن المدخنة تشنّ الغارة الانتحارية على بيت يحاصره
الضباب
يا مروّض الأرداف الجامحة
يا حضانة التعب
يا بكاء الأمهات في أرياف الحنين آن يضرجهن الفَقْد
يا صديقاً يضرم براعم اليأس في قلبه وبعناية فائقة يفقأ روحه هاتفاً للقصيدة
يا كهولة الحزن
يا رفاقاً سُمْر الوجوه غابوا في الطفولة بلا رجعة
يا لقطاء التخوم السائرين تحت القناطر المهمومة ملطخين بنثار ليل يلاطف شعر النجمة
الوحيدة.

يا الخيانات المبجّلة
يا مدينة تخون شعبها في مسرّات الأمراء
يا صديقة أحلى من نبيذ الياسمين تهدهد جراحي بعسل الهمس وفي لمحةٍ تدخلني
بنفسجة الطمأنينة كي ألتئم
يا المعمّرات اللواتي يمسكن تلابيب الزمن العجول وفي دلاء الحليب يأسرن أرواحاً شابة
كنّ ينتسبن إليها أوان تورّد الوجنات
يا أقارب السهر وورثة الحب
يا أمومة الريح
يا صلاة تتخثر بين مآذن الرخام ومحبرة الفقهاء
يا وجهاء يخضّبون أكتافهم بالرياء وفي الصباحات يقيسون مع وطاويطهم حدود الملكية
يا بياض الأبوّة
يا موجة تدحرج العربات القطنية المكتظة بالفلكيين
يا ضجعة المومس العرجاء التي تغوي الفتيان بوجهها المستعار ثم تمضي آخر الليل نائحة
وسط خرائب البوم
يا الخليج الآفل بنفطه ومائه

يا مآتم تخترع المعجزات وبمجانية تزهق الدم في مسارب المواكب
يا خطيئة الأشجار حين تفضّ شفافية القطا
يا العبودية في زيّ مهنة تختزل أبعادي
يا فاشية الجسد والمبدأ
يا من يجتاز ليونة المنابر ويرفو المحارم بسهام الطيش
يا ورّاقين ينحتون المخطوطات برموز الحضارات البائدة
يا الكتابة الآثمة
يا الغيبوبة
يا أنا الذي يراودني الانتحار كلما لمحتُ بطرْفٍ طفلاً يضحك

طاب مساؤك
يا بلاداً تبعثر أشلائي في مسالك المنافي

أول الغربة

زورق مترع بالذنوب، طحالب صمغية تتفصّد من حولي وتسوّر أنسامي، منارة مزخرفة بالزعانف ترميني بأمعاء قرش.
أبحرتُ ممتشقاً لجام الموانئ الغريبة، ممتقعاً مثل غُرنوق تلاحقه جمرات الرجم من خليج إلى خليج.
أبحرت بلا خطيئة، وبلا حكمة، زادي حلم معطوب. أسلمت دفّتي لاخضرار الرياح المعطّرة بالمصادفات المضيئة. كان البحر خالياً من حظائر الصيادين ومن تلك البواخر التي تشق أصداغ حيتان غافية، كان وقتذاك يلمّع دروع الفيضان الرابض كنسر ملكي يرقب عن كثب جسراً شُيّد حديثاً.
وإذ أمخر غشاء مصبّاته، يلتفت إليّ ويسميني هازئاً
وريث الكآبة.

حاذيتُ جزيرة شوكية، شحيحة كالصُدفة، يتسلق جبلها الوحيد مماليك متشحين ببيارق التضحية حاملين القرب وسلال التوت، وفي حسرة يتأملون السلالة الأخيرة من الأباطرة، المفقوءة ذاكرتهم، وهم يجسّون الماء بالعكاكيز بحثاً عن وطن له رائحة فراشة وشعبٍ ليس مدهوناً بالعصيان.
رأيت الأرقاء عند سفح الأرخبيل يشعلون ثياب القساوسة وبمناجلهم الرشيقة يطلقون زوبعة التضاريس.
رأيت القارات الرخامية في مرآة المحيط تتعرّى وتغتسل بسنابل من ضوء

قلت هي الرؤيا الأخيرة
ولما بلغتُ مرفأ الشقراوات اللواتي سوف يقتلنني تحت سقف غائم، وسوف يحضر شرطي عنصري ليحملني بين ذراعيه الرحيمتين، وسوف أكون جثة مجهولة الهوية في مشرحة عتيقة، وسوف أفتح عينيّ، وأحلم بشخص غامض يطل في وجهي فيتعرّف عليّ ويعانقني منتحباً، وسوف يجنّحني لأعود إلى بلادي التي أهرب منها ثانية فأبحر صوب شطآن لا تصون رؤاي، وسوف أصل مرفأ الشقراوات اللواتي يتجمهرن حولي يلثمن أنحائي ويبللن صدري بالدمع، وسوف يأخذنني إلى حدائق فيروزية محروسة بأزهار اللوتس حيث أضطجع في مخدع من الدقيق فتجثو أمامي الأكثر طراوة وتمرّغ وجهها الأخضر في راحتي التي تشفّ عن مهرة حزينة وطواحين مرصّعة بالفتن، وسوف أتمتم منتفضاً: ها إني أحلم براهبات مصلوبات في حقل القصب وآلهة من لبن يعجنون الذهب لرُسُل أوفدتهم العصور الحجرية كي يرضعوا موهبة الأسلحة فيما يخوض الموتى مستنقع البرْديّ ملطخين الجداريات المقدسة بأحشاء خنزير بريّ،
وسوف يجهشن مضرّجات بالحنان: الحلم ظل للأشياء التي لا تُرى، ونحن الفانيات ـ إذ نمسح الحضارات المحنّطة بغاز الميثان ـ نجمّل لك الوجود ونسفح لك هباتنا من حليّ وسراويل،

وسوف ألمح الدرّاق يطل ذاهلاً على جمع غفير من المستحمين في زئبق الشارع مقلدين صوت الدم، وسوف أحمل حرية القول كالدلو فأرشّ المنتزه بمظاهرة والضواحي الفقيرة باحتجاج ثم أجوب يقظة المساء متسولاً لحظة جنس من بائعة أجنبية تغزل متعة المخادع، وسوف أحكي لها عن حضارتي العريقة اللمّاعة مثل النفط وعن الفتوحات التناسلية المبرّمجة في تاريخي، وسوف تضحك ملء شدقيها وأنا ألج وَجْرها القاتم الملقّح بالغراء ولن تهدأ حتى تحشو حلقي بريش الوسادة وتزرقّ أطرافي من الاختناق،

وفي موتي شممت حضور أبي الجليل الواقف على شفرة الماء، ففتحت عينيّ ومشيت إليه مستعيناً بأطياف الأبوّة. قبّلت غُرّته وقلت: يا أبي، خلصني.. فاحتواني بذراعيه الشاسعتين وأسكنني مرعى كهولته، حينذاك مضينا عائمين في منتجع الهواء نتحدث همساً ـ كي لا تسمعنا القوارب ـ عن شؤون الكيمياء وأحوال الصلاة. ولوهلة شعرت بهاوية تنتصب بيننا وإني منفرد في فراغ الأحابيل، وحين التفت شاهدت أبي يترامى مثل فضاء ليس له حد تاركاً لي رائحة عالم في طور الاحتراق.

كم أذهلتني تلك اليقظة الخارقة! كم باغتتني جرأتي في اجتياز الغابة القرمزية المكسوّة بالمانجا والببغاوات الطينية لأشهد إبادة التماسيح عل أيدي صيادين محنّكين يخضّبون عضلاتهم المفتولة بمعجون المجازفة. هكذا أصادف الهنود الحمر في زوابع الطريدة يطلقون النبوءات بنبال التجربة كما لو أنها إشارات غامضة تعبر السنوات الضوئية في لمحة، كذلك الغواصين الموءودين تحت أغلفة الأصداف وهم ينبشون أكباد المحارات ملتمسين شفاعة اللؤلؤ، بينما في الجوار تعسكر السفن الغارقة التي يصطخب بداخلها عراك الأسماك، وأيضاً جباة التمور الذين يعاينون مراقد النخيل كل صباح وحين لا يعثرون على الجزية يعلنون بصفاقة اختلال الجاذبية، وأخيراً أولئك القادة المطلية أنوفهم بأمارات الشهامة إذ ينحنون بتواضع أمام الأسرى قبل أن يبقروا بطونهم ويستبدلوا الأحشاء بالأعلاف.

لكنني، لما بلغت مرفأ الشقراوات اللواتي سوف يقتلنني تحت سقف غائم،

عرفت أني خاتم المهزلة
وبي يختتم العالم هلاكه

3

وتنظر، مثل نسّاج معتزل، إلى فصيلة الهزائم تتوافد تباعاً بأسمالها الدامية وتواريخها الميّتة لتعْبر مضيق سورك المغلول بالأقفال. تنظر إليها بقلب ضجر خانته الأمكنة منذ زمن، فتصيح بك أن تسرع وتصيح بها أن تمهل خطواتك المثقلة بالإثم، وتخجل أن تعلن أنك ضيّعت الأبر الفضّية ذات النصال المجدولة، وأنك تقمّصت التعب والكآبة.

ها أنت تهبط مكابراً، سلالم العزلة. تفتح الباب الذي لم يُفتح إلا على ضربات مرسوم جمهوري أو ختان ملكي، وتأخذ الهزائم كالجراء بين ذراعيك تهدهدها، ترضعها، تخترع لها النقوش والحرائر، ثم تضعها على صدر خزانتك كالأوسمة.

"تباً للحجرات المتواطئة مع الصقيع"
هكذا تغمغم ذاهلاً بينما تهبط أدراج الذاكرة، عاماً عاماً، متدثراً بالأقاليم المضيئة حتى تحلّ ضيفاً على رصيف أليف كان يرشقك بالأخلاط والأحزاب، وكنت تقترف التسكع ومغازلة المطلّات من النوافذ أشبه بثريّات محصّنة،

وكنت تنتخب الخلاسية ـ التي أبداً لم تبادلك الابتسام ـ ملكة فضائك. وإذ تمضغ التين المرّ، تشعل انتفاضة هنا انتفاضة هناك، بعدها يندلع صخب عظيم ومصادمات فيختنق الشارع بالغاز. وإذ ترخي صارية العنف، تندلق الفوضى من ردائك وتأوي، منتعشاً، إلى حانة تعاقر فيها السياسة.

ما من حدث يمرّ ـ آنذاك ـ في شارعك دونما استنطاق: الشمس فجيعة، التتويج مؤامرة، اليأس ظاهرة غريبة. عند رصيفك الجانح إلى العربدة تتشيّع المدينة لتنبئ عن كارثة وشيكة، وكنت ترحل من خطبة إلى خطبة ملطخاً حناجر الدعاة بالوقيعة، وتنتشل المدّ به
تفضّ أديم الفصول به تعرك بكارة التمرّد.
نازلتَ ضغائن القبائل المالكة، لم تجندلك الزنازن، بل أسرفت في الضوضاء. آخيت الشكيمة وهتفت مع الجبهات المتصادمة.

كانت لك المهابة بين السكّان، لكنك لم تستوعب الدرس جيداً. ملأوا رأسك بالقش، أوهموك أن الحظوة لك والأختام لك والمرابط لك، وأن الخلاسية لن تكون إلا لك، فتقاعست لاجماً قلوعك المفتونة باللهب ورحت بلا حذر تنهل من الخلاسية لقاح الوَله فتنهل منك نداء الوهج، وعندما أتتك تشتهي ألوان نبضك لبّيت مختلجاً، فما رآك أحد بعد ذلك إلا صاغراً وممتثلاً،
صرت تمشي بنبض أعمى ووهج أبكم، لذا أنكرتك الطرقات أهملتك شرارات المد. وعندما رمتك الخلاسية بوشاح الوسن، استفحل فيك الصلصال فما فرّقت بين حيّ وحيّ بل ساويت الجريمة والبراءة وقلت:
أنا ظل الشحوب

كم كان بكاؤك فواراً وموجعاً آن أومأت برأسك، المحشو بالقش، فتدحرجت منه النكبات. واجماً تفحّصت الأبجديات فاندلقت اللغة الكاذبة.
ماذا تريد أن ترى أيها الأعمى؟
سراباً وثنياً؟
أشجاراً معتّقة تثمر التفسخ؟
تلك أعضاء فتك بها العقم تسير بين أعمدة الأنقاض تسأل وتنتحر. نوارس تنتحر. بيوت تحمل عتباتها وتنتحر. هاوية تكدّس الدول الخاوية في واجهة المحرقة،
وأنت، أنت المسفوع بالاضداد، المنتحل وجه وَعْل مضطهَد، يا رهين بادية تهدر بأسك وتتوضأ بيأسك،
ماذا تنتظر لكي تنهض على قرن سهل تداهم ظُهراً مجلس المومياءات وتجزّ بحدّ رمحك شمع المتحف؟
إنزويت، رسمتَ بالصلاة بلاداً عفيفةً، وأسدلتَ الدمع على خاصرة رصيف كان يعاقبك بالذكريات.
لما جاءتك الهزيمة الأولى مثخنة بالإثم، احترفت النساجة وقلت:
أنا ظل اليأس

الآن، كما نراك الآن، في ركن حظيرة مزدحمة بالسعال والأحلام المشلولة، تحت مظلة مصباح سينضب زيته بعد حين، تجلس لتفتح كتاباً يكتبك،
ويأخذك المحيط إلى المحيط حيث الأسماك الغفيرة تحاور البحّارة التائهين في مسرى الأحواض المحّارية، والحوت الأزرق يزيّن نافوراته بأزياء القراصنة المزركشين.
ويأخذك الحلزون، سفير الماء، إلى بلّوط يزخرف بالتوابل أجنحة الاوزّات القطبية، وفي مخازن القمح تسبح البنادق المعبأة بالبارود.
ويأخذك الوهْم، إلى وهْم أكثر نضارة كما الطفل الخمريّ الذي جلب لك السُمّان هدية من وليمة السحب.
مروّضو المسافات يلوّحون كي تتبعهم..
آه، ما أصغر العالم في أحداقهم.. ملوّن وطريّ. الكون مترع بالصهيل. أجنحة الأرض، المرقّشة بالفسيفساء، تصطفق. الكواكب ترتجّ كأهداب أنثى فاجأتها الذروة.

ذلك لأن الطفل الخمريّ كان يمشي على أطراف المجرّة. وكنتَ تمشي في الفضاء البور حاملاً على كتفك بشارة التناسخ، من زندك يترذرذ عسل الأعراس، وكنت تفشي لبلابل العُنّاب سرّ الأهراء فتنداح وتنسكب الأرض المشاعة بين ساقيك ـ لك وللأتباع ـ نعيماً وملاعب. لكن، عندما جلست وفتحت الكتاب، وبّخك البياض فأجفلت وقلت:
أنا ظل الهباء

اقتادوك، سنةً بعد سنةٍ، عبر أرخبيل الغدْر، إلى حظائر مزيّنة بالياقوت معطّرة بالياسمين. صدّقت، يا مسربلاً بالسبات، أنك في غوطة وأن السياط ثمار، فمزّقت الكتاب واستبدلت الصراخ بالثغاء.
ظننتَ أنك الأثير، المنتقى للرغَد، ولم تدر أنك المصطفى للوأد. هتفتَ موحلاً لأعلام تجدل ألوانها في مرآة الحكم، خضعتَ موحلاً لبيانات تحيْون أعضاءك وتدوزن أشياءك، حتى أنك ما رفعت سبّابة أمام حربة كانت تخترق أضلاعك.

في باحة مهجورة، محرومة من ألق النجوم، تمدّدتَ على بساط المحن مانحاً جسدك العاري لغزو حاذق يبعث قوافله رتلاً رتلاً لتقتحم صدرك وتزهر صوراً ورؤى.
خيّل إليك، لوهلة، أن أنهار عدْن تجري في راحتك، وعندما انحنيتَ لتستطلع رأيتَ قبيلة من آكلي لحوم البشر تنظر إليك بحقد وضراوة ثم ترميك بسهام تفقأ عينيك على مهل، لكن الذي كان أكثر رعباً من هذا الفتك، أنك سمعت نفسك تضحك منتشياً بالافتراس وتقول:
أنا ظل الفريسة

لا، لم تكن واهماً،
نقذفك بكابوس تلو كابوس،
نهيل عليك أشباحنا الحامضة تكسر فيك حصانة الغيبوبة وتطارد شيخوخة أيامك وتحرثك كما الهلال المنجل يحرث الليل،
نكون فضيحتك في ساحات الدول،
وعن كثب نحصي تشنجات العبودية فيك،

أما تكفيك انهيارات؟!

بين سياج الخيانة وفضاء البراءة نلمحك جاثياً تحفر وجهك الندوب ومن أكمامك يشرّش النمل. لا العبادة طوق ولا الهرطقة. محض تاريخ قابل للاستهلاك. تنكسر في صحن غرفة مغلّفة بالرياح، وعندما تحدّب زمنك تشبّ فيك الخيبة فيما تتأمل رأسك وقد صار علفاً
لكبش حليم يبارك النعمة.

4

ينحني على زبَد السماء، يملأ رأسه الشاغر (إلا من مصابيح تستبدّ بها الظلال) بكوكبة من السحب الشامخة، ويمسح بأصابعه المرتعشة على هامات التضاريس الشاهقة، ثم يطلق الوروار في مجالس الأطفال.

يا له من شهق يفضح السفح
يرى إلى كل شيء
مثلما يحدث في يوم ممطر.

كان يرعى قطيع المدن (التي تتدافع نحو حتفها كل ضحى).
مرةً جرّب أن يسعف السيل من خطيئته، وكلما حاول أن يرأف بالحظائر الشفافة، تذكّر أن الغيم سلّة مكنوزة بالعصافير، فيميل ويملأ شاغر الرأس. حين يتعب، يضع مصابيحه أمام القوافل ويقطع عليها الطرق. لعل، فيما يستريح وينام، تصحو المدن، تخرج من قطيعها، وتكتشف ـ قبل فوات الأوان ـ أن الأوان قد فات. وأن في الصوّان ماء، ماء كثير، وينبغي لها أن تبسط مائدة الكؤوس وتسأل الخبز.

جاء إلى الوقت الجميل
وكان في شغف لموهبة البكاء

الساعات القليلة، التي كانت شاسعة بحجم دم نبيّ، منحته بكاءً لا يضاهى. للأصدقاء أحضان تكفي، وله أحزان لا تُقاس. كأنه قنصل الفجيعة.
كان يصدّ الجيوش، وحده، حتى لم يبق في جسمه فسحة لغير الجراح، جراح لا تندمل، تتطاير كالنحل لتعود أغنى رونقاً ومهابة. كله وجع. جاء إلى هنا، ليس للقيلولة، لكن لتدشين اليقظة ونزهة المكابدات.

لماذا كان الهواء المتسوّس على غير عادته، يغوي بمتعة الشوارع ومشاغبة الشجر؟
صديق له، قال: هات نشيجك. هذا الصدر لك.
ليس سهلاً أن يأتي، ولم يكن سهلاً أن يغيب. يعرف أن جراحاً كثيرة تنتظره لتغسله بالنزيف، لكنه جاء. حمل كل بكائه وجاء. كأن البكاء ليس مباحاً إلاّ هنا، تحت شجرة تحنو على الشارع وتسند الهواء لئلا يسقط.

هل تذكره، ذلك الفتى: غزير الأحلام، مكسور الشفتين، وحيد الكلمة.
هل تذكره، يوم أقبل مهتوك الفؤاد، مفقوداً من قبيلته، مضرّجاً بالرؤى
هل تذكره، يطرق الباب فتسأله: من أنت؟
يقول: لا أعرف.

(كلما أثقلت عليه بالأجوبة، مات عنك قليلاً.
وحين تترع له القلب، ينمو كالنبات،
مأخوذاً بك، ويتماثل للموت فيما تتماثل
للشفاء)

هل تذكره، وأنت في طين التجربة يشدّك مثل الأمل.
قلبك في يد، وجسدك في اليد الأخرى.
ذلك الفتى الرهيف كالومض،
الخفيف كالوردة.

ها هو يحلم.
إلحق به قبل أن توبّخه الصور ويغتاله المشهد:
لأنه مات قبل أن يولد.

منتحباً يقول:
متى أطفئ ظلمة هذا الكوكب
وأنام؟

5

تدفعين بي إلى شفرة الكوابيس الناهضة في العراء النابضة بالعواء

بينما
تهبطين
في
نعناع
لنوم

تبرأين من الانتظار كمن يسوق المصادفات الجليلة بين سرير يحبس الأحصنة وشكوك تخدع اليقين،
تمرحين في رابية مريّشة بمراهقات ضاحكات يحصدن الذرة وتارة يمشطن شعورهن بسنابل مضيئة،
ومن الليل الواشي، الأكثر بذخاً، تأخذين حقائب الرموز.
ها أنت في النوم
يا امرأة تلهم مياهنا الموحشة
ولا من يقدر على فك ألغاز كوابيسي.

القواميس في اضطراب. واسمك مأخوذ بخجل المجانين الذين هم هدأة الولوع
لكن،
منْ أعطاك هذا الاسم الذي تتدلى من شبابيكه أمطار خائفة وشهيق كأنه تضرّع الروح؟
من غرّر بأوصالي كي تستباح بمثل هذا البهاء الفاجع؟
لست بريئة من الدم. فما من قميص إلا ورائحة رضابك الغادر ممهورة على أردانه

لكن،
ها أنتِ في النوم الوابل
وأنا في صهيل الوحش وغربة الذبيح
موعود بفتنة القصل.

كتف في الوجع
جوع في القدم
والعين تبحث مهتاجة عن بلبلة

لماذا لا أرى منارةً تخلو منك كي أصرخ:
ها هنا،
في هذا الجزْر المختنق بالفاقة والسِّفاح،
مكان شاغر ينبغي أن يُهدم.

وحدك تمنحين المنظر رخاء المدّ، وتهمسين لأقنعة الرغبة أن تسرح في ردهات الشريان،
وحيدةً تذهبين إلى النوم
وحيداً أتصاعد في عطارد الجنيّات كمن يتشبث بالهاوية وينسى

لكن،
كيف يجرؤ جلدك على نسيان أمشاطي الحائمة حول نهديك تقضم، بطيئاً، نور ثمارك وتعصر الذهب على جبين المملكة؟
ذلك الوجر زاخر بثعالب صغيرة تتمرّغ في أنحائي كل عشيّة. ثعالب حمراء ألقّنها صلاة التضرع لرقبة مصابة بوجل الناسك وتهدج الشبق.
مدججةً بالوعود كنتِ. قلتِ: في السَحَر يتألق الجسد.
صدّقنا، أيتها الكاذبة الجميلة، ورحنا نزيّن خواصرنا ببهارات جلبتها الجدّات من المخازن البعيدة، ووقفنا عراة إلا من الأمل. فيما كنتِ، أيتها الماكرة الوديعة، تلطخين الوشاح بالنوم

شجرة في الكلام أنتِ
حنجرة في المياه أنتِ

مَنْ أعطاك طبيعة النصل وجرأة انتخاب الأسماء؟
وحدك
وحيدة
وحيدة في النوم
ووحدي

لكن،
قلتُ لك: افتحي النافذة كي أعرف أن لك داراً تشرف على المساءات كلها، فبدون هذه العلامة الرشيقة لن يتسن للهزيع الأخير أن يتثاءب ويدفق الأحلام في روحي.
قلت لك،
لكنك أوصدتِ النافذة ومحوت الدار، فهربتْ المساءات وظل الليل الحزين يلملم أطرافه في عربة لا تقود إلا إلى الفناء.

يا لك من وحيدة..
وحيدة مثل نجمة في سديم

آن أن تخلعي هذا المطر الوارف وتسعفي التوابيت المحْدقة بك أشبه بجوقة جاءت لتبطش بالحلم.
النوم ليس ملجأك الأخير.
تنزلقين من مأتم إلى وليمة عامرة بالقتلى، فيأخذك اليأس إلى ملجأ أشد فتكاً.
وأنتِ وحدك.

آن أن تكتملي مثل فراشة المحنة
وتكترثي بطريد الكوابيس المبجلة،
يا الغائبة مثل قناع ينبش في الوجه
يا الغارقة في عسل الغدر،
ارفعي خمارك المطرّز باليقين
وانظري..

6

أطلّ عليك، أيتها الفاضحة، مذعوراً من هذا الشهيق،
السحيق كما الهاوية.
لم أعرف سريراً بهذا البياض والشسع
أتشبث بذيل المعجزة:
فلربما،
حين يخذلني الحديد،
يسعفني البياض الرحيم.

أطل عليك
مغموراً بالمستحيل كافراً بالنعم:
فلربما،
في سرير رشيق كهذا،
أخرج من جاذبية الموت وتدلّني البوم إلى الجذوة،

آه، أنتِ هناك، في طيّات نجمة داجنة تغوين أصابعي لتسوق ـ في رواق الغيم ـ بغلات حنونات تحمل شفاعة البحر. تراودينني كي أقفز في البياض اللامتناهي. بلا طمأنينة، أذعن لمهرجان الوسائد.

آه هناك أنت.. عارية مني
وأنا هنا .. عار منك
لا بياضك الوسيع يهب جحيم المغفرة
ولا بياضي المتجزئ يدفق الدم في الثلجة المقدسة
مباغت بالغياب. أرى إليكِ مهتاجة، تفقدين أقراطك في غيبوبة الخندق. تقولين عن بهجة الرفقة فأخرّ في نحيب مكبوت. أقول عن السنوات الضوئية التي تخلع القلب وتفصل ما بين جسد مرضوض وجمرة متحفزة للهجم بلا هوادة.
كأنك لست جنيّة البحيرة
كأني لست الصدَفة المبهورة بالضلالة

ذلك الصباح ليس للنسيان
فقد كنت سجين زندك

أباهي بأجمل أخطائي. بأكثرها قدرة على المعصية.
أرتقي سديم الطفولات. تحتي السحب وفي رأسي تحتدم الشهب.
في خندق منسي، اغتسلنا بعرق المبارزات. تبادلنا رعب القتال وهزيمة الجسد، مَنْ منا كان
فارس الهزيمة؟
قلتِ لي عن الرفقة
قلت لك عن الفراق
وها أنا أشرد بين سماء ليست لي
وأرض لستُ لها.

عندما يعجز البدن عن التعبير، ترتعش الروح مثل زلزال

ووئيداً
أتصاعد في شهقة قديس
يحتضر أمام بهجة الحديقة

7

أجلس في حاشية المليكة
كاحلي في جمرة المزيج
أشرد بين هزيمة ومطاردة
وليس لي راحة في مكان
تاجها مكلّل بالثلج وبين أردانها ريشة الغرور
انتخبت لها عصير الدوارق لئلا تصاب بسأم الرفقة
ترى إليّ مثلما تنظر في مرآتها المعتمة
هودجها الخفيف برج مراهنات.

كل ملك يبعث سعاته:
يبذل الحب من هنا
يبذل الحرب من هناك
والسواعد الخبيرة تحمل الهودج وتحميه
رشيقة مثل قلنسوة البهلول.

جلست في حاشية المليكة
قميصي متروك في مخدعها
وهي تستجوب جسدي عن تاريخي الصغير
من الكاحل حتى الكاهل
هذا هو تاريخي الصغير الذي أدّخره.
من أين لك كل هذا التراث؟
سعاة الملوك يلهثون في فيء خطواتي
كنتُ في ذهب السبات
في منجم الليل الزاخر بالغرابة
والمجابهات
كنت في حاشية المليكة
وكانت تمنحني كنزها المكنون.

8

ها أنتَ.
جثة حولك، أكثر حضوراً من الحياة
تغتصبك، ولا تصير ذكرى.
جثة طاغية،
تشعّ كلما لامستها بنظرك.
جثة صديقة:

ثمة رفقة لا يأخذهم الموت
ولا يذهبون

ها أنتَ،
كلما شردت في جنون المجابهات

بين سماء ليست لك
وأرض لست لها

طلعت من أقدامك الحمم، وصار للجثة الرفيقة معادن موصولة بعينيك، حتى لكأنك في حضرتها مصلوب في زئبق مرآة لا تغيب ولا تخطئ، ولا تطالها الغفلة.
تضع يدك في المرآة كمن يسأل
يدك القديمة المصابة بالتجربة، تكتسب طاقة النبات، يتدلى من عقابيلها الدم الأخضر، ويتطاير من مسامها الوحش الكامن. يد شرّشها الموج والملح، شاغلتها خميرة الطين وصلصال الوقت
آن لها أن تذهب إلى ذاكرة المعادن ومكاتبات الشريد
يدك القديمة المفعمة برفقة مكابرة.
ماذا ستأخذ من مرآة مباحة
وجثة تخترق المكان والوقت

ها أنتَ
يسألونك عن النص، فتنسى الكلام
يباغتونك بالمخيّم، فتصاب بالغموض

ها أنتَ

يدك في فتنة الرؤيا
لكنك تزيّن المنظر
بأنخاب جثة

تعال إلى جهاتٍ فاتكةٍ تتبادل الموتى مثلما تدير الرحى
تعال إلى هيبة الناس وهي تهوى
في الكتب والقباب وموائد القنافذ
تعال، ذخيرة العشاء منذورة لفجيعتك
أنت الذي

ما من زنزانة إلا ومنحتك دفئها وأشباحها الجدارية
ما من دم إلاّ واتصل بدمك ودنانك المترعات

ها أنتَ، ها أنتَ
لم تزل مقسوماً بين زنزانة لك
وحانة عليك
تلمس قرينتك الجثة فوق ركبتيك
ولا تكاد تقوى على هدهدتها لنوم مؤقت
لعلك في سبات الكلام هل أنت؟
لعلك في وهدة الصبر هل أنت؟
لكنك لست جديراً بغير الطريق الغريب
لست لأنك قنصل المأساة وبغتة الفتك
لست لأنك رفيق ثورات تتقمط بخيوط الكفن
لست إلا قرين جثة لا تموت ولا تغادر ولا يغسلها الوقت.

أنظر إليها ـ إليه
يخطئ الخطى ويضرّج المداخل بلهوه
تتماهى مثل شحرور لها الهواء مسرح وسترة ودرج رشيق
ما إن يفتح كوّة الذاكرة حتى تعرفه،
تعرفه، تحس به كأنه هنا
وتكاد..
كأنه أنا:
سموني صاحب اليد
رحبة. تبعث بالكائنات الصغيرة من مكامنها. صديقة لطفولة يائسة. في راحتها تغفو دواجن المدينة وتمنح الظل قبعةً لناس الفرار

سموني صاحب اليد
أضع اليمامة في تاجها كما في كرسي. يخرّ جاموس السهوب زارعاً قرونه الرهيفة في الذراع والمرفق، ويخضّب الرسغ بقرمزه الفائر.
ليست يداً.. يتمتم الجاموس.

يا صاحب اليد
يا البرزخ بين الزنزانة والحانة
ماذا تسمي حصاة مقذوفة تتصاعد، وتطير بلا أجنحة؟
ماذا ترى في الأفق غير الفخاخ المنصوبة مثل مشاعل الطرقات الليلية؟
ماذا تسمع عندما تطاردك الأجراس والقباب والكتاب؟

سموني صاحب اليد
ولستُ إلاّ نورساً يتدرب على فن الذهاب إلى تلك المصائد كمن يجلس إلى وليمة بحر، أحصي المؤامرات واقتحمها مغروراً. على هذا الرسغ الآمن كان لهم أن يجربوا كل ضروب القيود، ويطلقوا كل براثن الدغل.
ولستُ إلا موجة ترتطم بعظام منسية على خراج الشطآن.
لستُ إلا مجد الهواء الذي يتهدّم عشية كل هزيمة.
وتحتشد أسراب الطير لتنال اللحم المهترئ بفعل النسيان، حيث لا عظام إلا وكان للوحش حظوة. مأدبة على شرف البحر.
أجلس إلى الوليمة. الفخاخ كلها لي، وليس لي أن أخذل التوقّع وأخيّب الظن.

هذا هو صاحب اليد
يخذلكم للمرة الأولى والأخيرة.

ها أنت
جثة أخرى تشعّ من حولك
وأنت تتخبط في جوقة المجابهات
لستَ في جنون ولا ينتابك الوهم،
إنه هو، إنه هنا،
شخص يختزل التجربة
ماء باسل ينبثق من تحت أظافره
يؤثث الإسفلت بروايات الاغتيال المربكة.

ها أنتَ
في حضرة المواقد، ثلجة، في شرفتها تعبر المواكب.
نسمع في شرايينك رائحة الغسلين
مثل نفط يخلع نكهة الماء عن الطين والغصن
والمجابهات

ها أنتَ
ترى إلى المجابهات كأنها في الكوكب البعيد
وكلما طفر ماء الشهوة من ضفيرة
راح الطهاة يؤججون جمراتهم تحت سفود البهجة.
شخص يلذّ له أن يباغتك بتحولاته
من طبيعة الجثة إلى شبق الجنين
ويُتاح لك أن تسأل: جثة أم جنين
ويتاح للشرق أن يفقد عادة القتل
ويُقتل.
يخطئ الخطى
كأنه حنجرة البحر موشومة بملح الأقاصي
وأنت
كأنه هو

سمّوني صاحب الرأس
قنديل العرّافات. لم يعرف الخطأ إلاّ ليدفع الصواب إلى التهلكة. انتقل بي من أنين الدروب المغمورة بغبار الغياب إلى زنزانة الليل. من طنين الحنجرة المبحوحة إلى حانة المبارزات. قنديل، راق لهم أن يدفعوا به إلى الغيب والغياهب.

سموني صاحب الرأس
لئلا تنقض العذارى لهفتهن لعناق الفتية المخبولين بنطفة الملاك،
لئلا تستفرد الهاوية بأحفادي،

سموني، ولم أكن جديداً على الندم،
لئلا أقف على شفرة الرؤية لكنني فعلت
لئلا أتذكر أصغر الطغاة شأناً لكنني فعلت
لئلا أترك أثراً لخطواتي الهاذية لكنني فعلت

سموني صاحب الرأس
وكنتُ أجلس في وردة الوقت في كمين المدينة في وحشة الغريب في راحة المطارد في خديعة العشب في شرق الغروب في الرغبة:

أن أنجو من النار
أن أنجو من الجنة

في صلافة اللغم وهو يفتك بي لتبدأ الفتنة
في شهوة اللغز وهي تغوي كل ذي فطنة.

هذا هو صاحب الرأس
يخذلكم للمرة الأولى والأخيرة

ها أنتَ
كيف، من جبٍّ إلى جنازة إلى جبّانة
كيف، ترى إلى كتائب الضباع تقود الدواجن إلى التنور
وأنت
في شفير الرؤية
لا تمدّ ولا تميد
ويفيض النحل من مقلتيك.
ها أنت

في غيلان تتدافع، تتكاسر على جثة شاعرٍ تكاد تكون جثتك. ولحمك يتخلّع من العظم. ترى، وتسمع
العربات تصهل على أطرافك الثملة

ويقال أنك آت هل أنت؟
ويقال عنك الكلام هل أنت؟

سموني صاحب النخلة
لكنها ليست لي.
حلمت بأطفال موصولين بالماء والخشب. تنساهم الكتب وترأف بهم وحشة الدار.
وما إن أسعفتني الرؤية حتى خذلتني الكلمة
وفاجأني الوقت
أوشكت أن أعلن خاتمة النخل
اختلج في صدري حيوان الحزن
وفي أرداني الخجولة فاض النرجس

سموني صاحب النخلة
شامة في حدقة الكلام
لكنها ليست لي
لتشنّج الريح وهي تشحب
لنصل الأسئلة الضاري
للجروح، سيدة المكان
للتيه يقود الماء
للقمر في منزل المحاق
في المحو الأصفر يتراءى في صحن الناس
ليست لي.

ها أنت في جنة النسيان وتذكرُ
يدك المرضوضة في القيد وتذكرُ
تذكرُ ريح تشحب، والخشبة تغوص بك في النوء
تذكر كهرباء الأسئلة، لتنسى الجثة وتنكر المأتم
تذكر يمحوك المكان بقروح رمادها النفط والحجارة
تذكر تذهب إلى الشرق الغارب، تضيع وتبرأ

ها أنت
فتىً مسكون بالرؤى
مثل مسك الكتابة
قرين للجثة، حارس لها.

هل تسمع صوتاً نبياً يهمس بك:
"تشبث بجثتك"

9

أنظروا إليه،
هذا المتوقد الحدقتين مثل أفعى الأساطير
يندفع بي نحو الهذيان الدافئ،
كمن يذهب إلى حضن الأم الرؤوفة.
نترنح مثل ملوك الحانات، ويقول:

هذا يكفي
هذا جدير بنا، أنا وأنت
لسنا أقل
نحن العدد الهائل
أحدنا لم يمت
والآخر لا يموت

نتوغل. راقَ لنا أن نبرأ من خرافة المفؤودين
بفتوى السباع ومنطق الهوام.
لن تلتفت لسلالات تتناسل من جيفة اليقين التي تصعّر خدها لجلافة الأجوبة.
لن تلتفت لمخلوقات تزدوج في كل مرة يرفّ لها جفن، أو ينبض في عروقها دم.
دم يتعفن كلما ازدوجت.
لماذا تلتفت وأنت مليك حريتك:

تهذي وتهندس
تهدم وتهذي

لماذا إليهم، وأنت إلى سلطان الوحي الوحش
الذي انطلق بك من المخيّلة
لماذا إليهم، وأنت إلى الكوكب الغامض البعيد
يأخذك إلى اللانهائيات المتروكة من ملايين السنين،
لماذا إليهم، وأنت إلى مكبوتاتك الجميلة
تخبّ بك مثل خيل الرياح الخاطفة
لماذا إليهم، وأنت في حرية الثلج الهاطل الحنون
يمنحك دراريعه الأنيقة
تدسّ رأسك العارية في الأبيض المعصوف
لتتسرب حيوانات الجليد الصغيرة إلى غرف الرأس الملتهبة
فلا يزيدك إلاّ هياجاً وشبقاً.
كأن بالكيان الذي وضعت عليه أعضاءك العاطلة
يهوي بك إلى لذة تنتشل عناصرك الرخوة من غفلتها

لماذا إليهم،
وأنت إليك.

10

ها أنا في المتاهة، وهو يعبث بي.
يدي في أخمص النار
يدي في خندقٍ في خناق الخديعة
والمتاهة في تماد.

أيها الخلْد الخجول، خدين الينابيع، المستوحش في أعراس الناس، مروّض الحكايات.. سعت إليك الحباحب كي تسعف شيخوختك الماثلة في نحيبك المكتوم، والتفتت إليك الجنّية في ظهيرة النص كي لا تنال منك الغفوة.
تذكرها؟
صديقتنا الجنّية ذات الوبر المترف، التي ما إن ندْعَك جسدها بفحيح شبقنا، حتى تتفصّد الجنادب من تغضّنات لحمها المكتنز، ويتصاعد حريق الوبر من إبطيها متغلغلاً في حجرات القلب السرّية، فيتألق هياجنا ويرمينا الحدس والهجس بنبال الهلوسة تشعل فينا الحمّى الباذخة.

تذكرها؟
تلك الجنّية ذات الوبر الأزرق الذي يغري جوقة العناصر بفتنة الصراخ. يروق لها أن تسمع ذلك النداء كأنه يلامس خبيئتها الملكية، تنتظر خروجك من اختلاج المرتبك المهدّد بالإغماء. تنتظر البراكين المكتومة. وينتابها الشبق الشاهق وهي ملهوجة تبحث فينا عن ملاكٍ شرس تمنحه تاج الخباء، ذلك الجرح الوحيد.

ما من أحد يجلس في حاشيتها إلا وينال من ذهبها الشامخ.
تذكر؟
قلت لي: أية صداقة هذه التي تذهب بنا إلى التهلكة!
وكانت كل الأبعاد محروسة بها.
قلت: حين أصل ذروة الهذيان
سيكون الدم العاهل دليلي.

صدّقينا أيتها الجنّية المشتهاة، إننا لم نترك بوابة من مداخل جسدك إلا وحاولنا اقتحامها. كل بواباتك على الإطلاق، سرّية كانت أو مباحة. وكنت المحصنة بشكيمة الأعداء وغفلة الأصدقاء وتخاذل السعاة.
ممنوعة علينا، بعد أن كنا حاشيتك الرافلة في أهدابك.. نحن عشاقك المولعين بك منذ الهديل الأول لهذا الجسد. عرفناك وريداً وريداً وخليّة خليّة. لم يكن يمرّ علينا يوم دون أن نلامس مسامك الملتهبة بأطراف أصابعنا الجائعة.

آه، أيتها الجنيّة التي ليست مثل النساء.
منذ أن وقعتِ في يقظة الرقباء، وصرنا في الانتظار، لم يكن لنا شغل سوى إطلاق العنان لمخيلتنا ترسم لنا مشهد اللقاء المنتظر. من المنافي رصدنا جسدك الذي يفتن أحلامنا.
حفظنا حركته نأمة نأمة. ولم ننس لحظةً تلك التفاصيل لكل بوابة من بواباتك الخمس:

نضع أيدينا على وردة الفتنة النائمة فينتفض
جلدك مثل مهرة اجتاحتها كهرباء الجنس.
ينتفض ليكسر أعمدة الهيكل، ويفجّر فسيفساء
الأسقف المجوّفة، ويقذف بجموع المصلين
والنائحين وسدنة الغزو. يقذف بسعاة الأمل،
خوذات الليل، مهدهدي الجنازات، ساسة
الاصطبل، مهاجري الخنادق، أحفاد الهدهد،
خادعي الآلهة، مضللي البوصلات، غربان
الجيفة، مادحي الصوالج، مزركشي الرصاص،
محرضي طوائف الأمس.

فنرى الهيكل يتطوّح كالخشب المتسوّس على رؤوس محنية تعبر قوس الهزيمة بلا غطاء.
أنظري يا صديقتنا التي من الجحيم
ها نحن، لم نزل، نتشبث بأعضائنا المشحوذة على بشرتك الثلجية، مستعدين للامتحان الفاتن، حين تنادي مداخلك أنفاسنا لساعة اللقيا.. حيث البداءة الضارية.

أجلسني أمام الورقة
قال لي:
الفتنة نائمة، أيقظها.
وكنت شغوفاً بالأبيض الماكر،
أكاد أن أسأل: مَنْ منا سيغوي الآخر
وهو يصرخ بي من خلف قرمزه المستتر:
أيقظها.
هذه الباهرة المجبولة بحليب الغموض. ما إن أضع عليها رحيق الثمرة المحرّمة حتى ترتعش وتخضل أطرافها، ومن كبدها ينبعث ذلك الزفير المثير
ينهرني:
أيقظها
كمن يدفع أشلائي إلى هاوية العناصر التي تنحدر من الكهوف نحو اشتباك العواصم.

اختبار الكتابة في غفلة اللغة
هذا هو النص
ها أنت الآن، أمامك الفتنة:

جسد
بياض
خريطة
إغواء

تهفو للملامسة
تقدم وأيقظها.
مَن ْ أنت حتى تكشف عن الشباك التي أتوارى في سديمها؟
مَنْ أنت لتجسّ حديد القلب وتبذله لفضول الطهاة والصيادين؟
مَنْ أنت يا من تضع الطريق أمام خطواتي وتسمّي الورقة
خطيئة الصمت؟
دعني
دع الصخرة المشتعلة تلتهم أحشائي
ولا تسأل عن هندسة الذهاب إلى ماء المعنى
دع لي الجلوس أمام بياض السفر
أهذي ويعصف بي تيه الرفقة الذين يقذفونني بالأحصنة من خلف متاريس الغربة، ويقذفونني بمفاتيح سجونهم لئلا أغفل عن البياض

هكذا هو:
تستحوذ عليه غيبوبة النص ويمضي مثل كبش مقصوف الأظلاف، يسعى إلى اجتياز الأعالي ليصل إلى شهق الجبل، ليقف هناك ويشير بإصبعه النحيلة:

انظر،
هنا يكمن عسل اللغة وخبزها
خذ قصعتك ولا تخذل رفقة
ينتظرون صوتك

يحلو له دوماً أن يهندس ويهندم ويجترح الخارق
ولا أقوى على شكيمة ذهابه المجنون
أضطرب، أهمس له بوجل:
لكنه الخوف
فيثق أكثر:

جميل الكتابة أنها تجعل القلب يرجف مثل
موجة خائفة تحت وطأة الريح المنبعثة من
جحيم الأعماق.
تشبث بخوفك،
ولا تدع الفتنة نائمة
هيّا،
القتل هناك أقل موتاً.

كلما سهوت عن النص، تسللت إليه الغزالة المصابة بالخبل، متخفية في زيّ غزالة مثلها. تفرّ من شباك الصيادين الوسيمين، تركض نحو داري المثقلة بالتخاريم والنمنمات، تجلس في هدوء خبيث لترقب فجور الحمّى في ليالٍ لا تنتهي.
تتحيّن غفلتي كي تتسرب مع الحبر والحروف والجُمل (يحدث كثيراً أن يختلط عليّ شكل الكلمات مع مخلوقات وعناصر لا تحصى) وغزالة مأخوذة كهذه، تقدر على تقمّص الأشياء والحالات، تستعصي على الوصف والأسر بفعل ما ينتابها من هياج، لكنها تحاول اقتحام تخوم النص ببسالة.

صديقي الخلْد يواري ابتسامته الماجنة ويُسمعني سخريته المكتومة:
كيف ستتصرف هذه المرة. إنها تدخل مصيدة النص، وسرعان ما تتخبط بين براثن الدلالات وأخلاط العناصر، حيث المعاني اللامتناهية.
ها هي معجونة بالوجل، لن تتوقف عن الأسئلة، ولن يطالها اليقين.
ماذا ستفعل لها أيها الضبع الأرقط؟

صديقي الخلد يتقن اقتناص اللحظات الباهرة ببراعة. يتمتع بغريزة الصقر وموهبة الأصداف. وسوف يداري ابتسامته الماجنة دوماً فيما يتأمل الغزالة وهي تتوغّل في أدغال النص، مفتونة بالهذيان ولا أحد يحسن استدراج غزالة مخبولة مثل خلد ماجن.

لكنني سأقتسم معه سرير الملكة ونستغرق في إغماءة لذيذة بداخلها نتيح للمخيلة حرية الفتك بنص يفقد جواشنه في مجابهة اجتياح باسل.

ماذا تريدين منا أيتها الغزالة المرنة؟ تركنا لك حرية مراقبة المشهد، صبرنا على سهرك جالسة على حافة الميدان تلملمين الشظايا التي تخلّفها الكواكب ومبعوث السديم، فيما كنا نتبادل العراك.. أنا وصديقي الخلد.
قلنا لك عن فزع النصال ولهب الصلصال
حذّرناك من الشهوة الجارفة
التي تفتك بالغريب في الليل
وأنتِ وحدك.. وحيدة
أنظري ماذا فعلت بنفسك
ها أنت عرضة لمزاج الطهاة
وهدفاً لقناصين يبدأون تمارينهم للتّو.

من الذي غررّ بالصبيّة؟
يسأل صديقي الخلد، وهو الذي يهندس الشراك لقدميها الغامضتين منذ أن تعلمتا حركة الطريق.
يسأل، وهو الذي يمتلك بصيرة السعاة. هو الذي كان يصفّ لها أقداح الخمر على حافة المسالك.
يتقمّص حكمة الذئب ويؤرجح رخام البستان لينشد التهويدات وتراتيل العربدة.
الآن يسأل!
كأنه لم يطلق جياده المخبولة لتخبط بحوافرها المـتآكلة عنفوان الصبيّة وهي تكتشف الجنس. كانت الأسوار عالية والصبيّة تجهش في صخب المجازفات. وكأنه لم يسدّ عليها الباب ليحتقن جسدها المذعور بين ساعديه.
يسأل، صديقي الخلد، وهو خدين الفراشات، هاتك أعراض العذارى، منظم رحلات الصيد الملكية، ملك الغواية.

شخصٌ يتقدم في ابتكار أقنعة الساحر. يتميز بمواهب الحاوي ويقظة البهلوان. ما إن يضع أنامله على كتف الصبيّة حتى ينتابها جنون المغامرة، حيث لجسدها اشتعالات الملاك وهو يبطش بعناصره، فلا تكاد تلتقي برجل حتى تجذبه إلى عشب الغابة وهو في الضرام، تفرك أنحاءه بالوحل حتى تتصاعد رائحة الأخلاط وهي تتمازج.
ذلك الممسوس يخرج من جحيم الرؤيا، تستغيث به مخلوقات مصابة بشهوة الفقد.
حين يدفع بها في تخاريم اللذة، يختلج جسده كأنه سيموت
هذا الذي ليس للموت
لكنه يسأل عن الذي غرّر بالصبيّة.

كانت محاطة بورع الأوّز وخفَر الحدآت. مشغولة عن مكامن الولع في كيانها بتطريز العباءات لنساءٍ يحلو لهنّ الذهاب إلى الحزن بأردية مشغولة بالقصب.
كانت، عندما تغتسل عن حيضها، تتجمّع عوانس الحي وعواقره، يركعن ليلمسن بأطراف أنوفهن ذلك الرحيق القرمزي، وروحهن مفعمة برجاء المباركة.
كانت لا تلتفت إلى جهة إلا لتتفادى نظرة رجل يتخابث.
تبرأ بنفسها من صهوة الفتنة فتصاب بغفوة الرعشة.
كانت. تلك الصبيّة التي كانت،
سيملك هذا الخلد الفاتك أن يسأل عمن غرّر بها.. الآن.

يا صديقي الخلد
ها أنت تتخبط بين أجمل طرائدك، بين أخلاط العناصر القادرة على البطش بمخلوقات تخلقها وتغدر بها.
ها أنت تطاردني بشبق الناسك،
تخدعني بالكتابة، وتخدع الكتابة بي.

هكذا. نتكاسر مثل نمرين على حمَل مذعور.
من أين لي أن أدفع بأشلائي في النص وأنت تكتظ به
كوكباً ينتحب، تضيق به حدود المجرّة.

تسأل، والصبيّة تجهش بكلينا.
وعندما يحين وقت الموت
لا نجد أحداً يموت معنا.

العاصمة الرابعة

1

هكذا تجرجر، هكذا يا شعب الجهات تجرجر دمك المشعّ، الأنقى من ماء الورد، وترجّ في مسيرتك العظيمة طمأنينة جيوش أيقنت منذ زمن أنك اندحرت وانك اندثرت وصرت صنو الغبار، لكن ها هي تستنفر آلية العنف في معسكراتها وتنتظر مرورك بشبق لا يوصف.

إيه يا الدم العادل،
توزّع رائحتك بالتساوي ـ قطرةً قطرةً ـ عند مشارف عواصم شرهة تزخرف قبابها بأردية الاغتيال. ولك الحظوة دائماً. من وكْر إلى وكْر تمشي وحولك تطفو براقع الغدر مخبئة أجناسها السفّاحة تحت الجلد. ما من متراس إلا وصان بعضاً منك وهدر بعضاً منك. وفي الهشيم كنت. نذكر ذلك جيداً. كنت تكبح الدمعة لئلا يسمع رنينها ذلك الطفل الجالس على مصطبة، ملتفعاً بخرقة بالية، يرنو إلى تشنجات الحربة المنغرزة فيك، ويرقب ـ باسماً ـ موتك أو بعثك. لكن، من معصمك، كان النشيج يطفر خلسة وينتحر من فرط الخجل.

إيه يا الدم العاهل،
ما كان ينبغي أن تتواضع إلى هذا الحد، وتساوم الممالك الهشة من أجل زقاق تجري فيه بلا رادع ولا ذل. كان الأجدر بك أن تنتزع أحشاء المدن، بما اشتهرت به من بأس وأنفة، وترميها بإهمال في صحن بلاطك قرب فهودك الحمراء ذات الأعين البرونزية. آنذاك ستأتيك تباعاً وفود الممالك مادةً أعناقها، صاغرة، ممتثلة لأوامرك. لكنك آثرت التظاهر بالوداعة، وحسبت أن الأغماد ـ التي لا ترتوي إلا بك ـ سوف تتنحى جانباً وتلتمس المغفرة.
ما احترست، أيها العاهل الحليم، بل صالحت وصافحت ذاك الذي لا يرتوي إلا بك. ماذا ستقول للمرأة الجالسة على مصطبة، مغطية وجهها بوشاح الذهول، وهي تصيخ بقلب راجف إلى هجرتك الضوئية من كثيب إلى كثيب؟ أية ذرائع ستتلو هذه المرة؟

في صخب الجثة كنت تركع خاشعاً وتصلي،
بدأ يُصفّر. الشاب (الذي سوف يُقتل بعد قليل) بدأ يصفّر. لم يكن يعزف لحناً، إنما هي إشارات خاصة لا يفهمها أحد سوى حبيبته (التي سوف تُقتل بعد قليل) والتي تقذف بالكتاب جانباً وتهرع نحو الشرفة لتطل منها بلهفة ووَله. إنهما الآن يتناجيان بلغة خرساء لكنها مترعة بهديل الغزل، مرهونة إلى الحب وحده.

نظرات ثملة، بالغة الشرود، تتوجس تارةً، وتهيم تارةً في فضاء المتعة المحرّمة، يبلّلها عسل الحلم وحده. تطل الحبيبة فيتضوع المكان كله بأريج لا مثيل له. ليس أزكى من رائحة العاشقة.. يقول الشاب الواقف تحت شجرة شربين (سوف تُقتل بعد قليل) فيما يتأمل جمال الكون المنطبع على وجه حبيبته.
من يجرؤ على تدنيس هذه اللحظة الحميمة غير الجارة النمّامة (التي سوف تُقتل بعد قليل) والتي تتباطأ ـ أثناء مرورها ـ مختلسة النظر إليها ثم تسرع لنشر النبأ في الأرجاء، وحتماً سوف تصل الأقاويل ـ مع إضافات لابد منها تبتكرها المخيّلة الخصبة ـ إلى أسماع أبيها (الذي سوف يُقتل بعد قليل) والذي يندفع بقوة منقضاً عليها ويكيل لها الضربات وهو يهدر ويتوعد، بينما الأم (التي سوف تُقتل بعد قليل) تحاول أن تتدخل لحماية ابنتها لكن دون جدوى. أما الجيران (الذين سوف يُقتلون بعد قليل) فيضربون كفاً بكف ويهزّون رؤوسهم أسفاً على السلوك المشين.

قتلى هنا وهناك، يهندسون مشيئة الموت. ما أجملهم!
للجرح الفاغر رائحة النعناع،
للجرح الزاحف في احتضار الأسلحة باب الجنة.
ماذا كان يفعل الرجل العنيف، الموغل في بدائيته، لو لم تكن هناك ضحية تلهم القسوة وتفتتح المطاردة.. أو ربما المجزرة؟
لو لم يكن هناك طاغية يتوسّد مصالحه ويخطط للمحنة.. أو ربما يرتجل الفتنة؟

العقبان، التي دارت دورتين، غضّت ثم نأت، فقد كان الله ـ وقتذاك ـ يحتضن دموع القتلى. كان يحرس المعاصم التي يتناثر منها هتاف غامض. كما لو أن الضحية ترفض أن تغادر هذا العالم دون كلمة، دون أن تعلن للملأ أنها ـ منذ البدء ـ النموذج الذي يُحتذى والذي يتكرر كلما أسفر القتل عن وجهه.

كان الحجر ـ وقتذاك ـ يضحك. للبيوت محاجر وأفواه. في أجوافها تحتشد الأشلاء. لم تعد المساكن آهلة بالأحاديث الودّية والوشوشات الحميمة والصياح الأليف. صارت الأجساد تتلاطم عند مداخل الملاجئ راغبة في الاحتماء من قبضة الحديد. أما الطيور المحظوظة فقد حطّت على التلال المجاورة مشرئبة إلى خشونة المشهد اليومي:
معدن يحاصر الحجر.

حصار كالوأد.
ثمة ظلال تخرج من المرآة. عجائز حاسرات إلا من نمش الفجيعة، يحملن دلاء فارغة، ويرتقين السلالم الليفية المؤدية إلى أرياف سماوية. هناك كانت الينابيع المرحة، المحفوفة بأعشاب تشعّ كالذهب، ترشّ الساحرات الجميلات، الأكثر طراوة من بشرة الفجر، بمياه متلألئة بالغة العذوبة.

ماء لأولادنا!
آه لو نظرتم إلى تشققات الشفاه. كنا ننحني على أحداقهم الشاحبة فنلمح عنادل يابسة تتساقط وتنكسر. نلمح أجسامنا الهشة تعدو صارخة وفي أطراف ثيابنا يشبّ الظمأ.

بالله عليكم انحنوا لتروا ما نرى!
في أنحاء أزقة غير حصينة، مكسوة بالعويل، يتمدّد أولادنا كالخرق بأعضاء مضمومة كأنها تصلي، أو كأنها تعود أجنّة بريئة لم يسكرها الضوء بعد. لا الحلم تآلف مع روحهم ولا النعيم. فقد تبرأت منهم الحياة وعصفت بهم المناجل.
ونحن، اللائي فقدن مصابيحهن في جمجمة مساء غارب، نتعلق بأذيال المأساة ومن آباطنا يتدحرج الالتماس، وحيناً نجسّ التربة بعكاكيزنا بحثاً عن ماء.
ماء لأولادنا الذين يموتون قبل أن يعيشوا!

العجائز المتوسلات، في مثولهن الخاشع أمام ينابيع منصتة بلا اكتراث، لم ينتبهن إلى صخب أطفال مجنّحين كانوا ينطلقون في حبور خلف كرات مضيئة. صار الفضاء ملعباً، والغيوم حدائق. هنا، لا جوع ولا ظمأ. الملائكة أخذت تصغي باهتمام إلى فضاء يحتدم بالجلبة.
كان حصاراً كالوأد.
إيه يا الدم الفاخر،
كيف نكتبك ـ نحن المختارون للكتابة ـ وأنت تموّه مجراك ولا تترك لنا علامة أو أمارة ترشدنا إليك. تقوّض رصانة العالم وبجرأة تقتحم محفّة الطمأنينة.
بك تتعرّى الأرض وتكشف عن آثامها،
بك يتجرّد الوجه من قناعه ويسفر عن همجيته.

قل لنا، أيها الفاضح، أين ستكون في المرة المقبلة؟
نعرف أنك صاهرت شعب الجهات،
تقتفي آثارهم تارة وتسبقهم إلى المهالك تارة..
لكننا أيضاً نراك في ألف شكل، وفي كل مكان،
فمن أنت؟

2

تجلسين في هدوء، مثل إعصار يعبث برعاياه،
بين يديك تتدرّب الريح وتفقد الغيوم تيجانها.
مَنْ أنتِ حتى تكابري بكل هذه السكينة الفاتكة، تتخفين في صوتك، ترقبين المشهد، وتنتخبين الكارثة.

رعاياك في سلطة الزوبعة. تبذلين الدروب كلها لهاوية واحدة. ولما يسألك الضالون، تومئين بشالك الملطخ بضريبة التيه ناحية أرض تتناوشها عربات الرماة وتقرضها سناجب السوق.
لم يبق إلا أن تسمعي نحيب ليل يشغف بكائناته.
نساء ينتحبن بجلال
نساء رعاياك المغرمات بسراويل المطر وغبطة السلال
كأن عبثك الوحشي يدفعهن إلى هاوية الطرقات كلها.
استمعي
لعلك، آن يجتاحك النحيب ترأفين
وتكترثين
وتدورين بهيكلك المتخلّع نحو أقرب نهر للاغتسال
باحثة عن طهارتك المهدورة.

يأتيك قنصل الخراب كأنه
النواقيس، الخرافة، سلالة القصف، كلام الجنازة، جواز النهب، وهدة الشواهق، هزّة الشبق، مكتوم الوجع، هجوم الباشق، عندلة الأكباد، جنة الجرح، جبّانة العرس، تهويدة الوأد، فضيحة الكحول، سديم الضوء، خطيئة اللغة، اندحار الحواس، جلجلة الجرس

يأتيك
يأتيك
يضع الصوت عليك

ـ نحن المخبولات بقصعة الصلصال المتروك، مفتوك
بنا، كأننا تميمة الوقت. تلتفت نحونا خطاياك
متكفلة بسحق الزغب الذي ما إن يعلن نواياه حتى
تطأه انتباهة القذيفة.
ـ مخمورات بك، وحيدات النار والبحيرة، يا قرينة
الحانات. يا من تحرسها المصادفات. إننا نشحذ
الخيط من شالك المترف بفتوى الضواري، المتهدل
مثل هودج التعب. خيط لا يكفي لنسج ملجأ.
ـ إناث السبي الذهبي نحن.
ـ أيتها المبجلة اللعوب، يذهب رجالنا إليك مدججين
بخبيئة الانتظار فتشيحين عنهم ليعودوا مرضوضي
الأحشاء، مهدوري الرؤى.

ها نحن النائحات نرجمك باللعنة
ترين إلينا من الأعالي
أعناقنا تحت مقصلة الوقت. وأنتِ صعيدٌ له رائحة الطلع.
قيل لنا إنه لنا. يصل بنا الشك أننا لك. إذ لا أحد لنا سواك.
هل نحن أقل كفاءة من الريح وتيجان الغيم؟
ها نحن الآن في حلٍّ من الانتظار
نحنو على جراح رجالنا ونغويهم لخطيئة ليست للمغفرة. نريهم مكامن اللذّة في أجسادنا.
تلك الذخائر التي تحصنت بعفاف مكبوت، حتى أوشك التبتّل أن يفتك ببقايا تاريخ الأجساد.

لقد سئمنا موازاة الجنة بالجنازة
الجنة بالجحيم
الجنة بك
سندفع رجالنا المخذولين إلى هزيمة الأمل
سنجرعهم اليأس قدحاً قدحاً
ونذهب في خلاعة الماء
لنكون الفضيحة الباسلة.

3

تقدمي
أيتها الفرس المصابة في كعبيها النحيلتين. تعالي تعجن أحقادنا بآلات حرب متروكة على حواف الشطآن. أحقادنا التي ورثناها من أسلافٍ كانوا يصنعون التوابيت من جلود القنافذ.
تجهشين منذ هواء الكهف. أيتها الكائنة المنسولة من تعب البروق وتهتّك المذنّبات. حبسوك في انتظار الخرافة. وأعطوا كاهلي طرقات محفوفة بآلات حرب تتفاقم كي تؤجل الهزيمة والنصر.
لأحقادنا نكهة احتقان الثمرة بعسلها. ما إن نزدردها حتى تصرخ جدران الحنجرة كمن يفرك الغرانيت بعظمة القلب.
سينال منا ذلك الماموث الهجين، الذي ظل يتولانا بعاجه الباطش فيما كنا نتدثر بذعر الرحيل الأول في ذلك الليل الذي لم تجد البراثن غرفاً غير أطرافنا المسحوبة مثل خرقة.
ليس للنسيان ذلك الرحيل.
جندٌ مهجنون يطاردون فتية خرجوا تواً من النص. سهام تعبث بنوارس تباغت المشهد بشغب يائس وتذهب إلى الجهات.

تقدمي
لترقبي مآل هؤلاء الفتية وهم يترنحون نشوة بنبيذ التجربة. يلقنون الذاكرة شهوة المخيلة حيث اللهب والشظايا ومعادن الفيزياء تقود حيوانات القرى لتفسد وليمة الليل.
معك
أيتها الفرس القرمزية الكاحلين، من فرط العراك، تقدر هذه الأحقاد على الذهاب عميقاً في ماء المعنى.
وإلا فكيف لهذا الجرح الفاغر
أن يسهو عن الدم الذي يشخب
ويمنح المشهد لونه وطبيعته
تحت أجراس خطواتك يوقظ الطين المذعور مخلوقاته، ويبدأ سدنة الخراج في مراجعة خرائطهم المرصودة لضريبة الكرّ والفرّ.

تقدمي
بفرس مثلك ـ مجبولة من نار الجهات ـ يمكن أن تنطلق الكمائن لتروي أساطيرها لجيل أوشك على تبادل أنخابه مع الرماد والريح. جيل يترنح ويحلو له أن يهذي.
ليس أمامنا إلا أن نصدق خوفنا ونتماسك مثل الحلزونات الماكرة لنخدع أكثر الأسماك خبثاً وخبرة.
نتماسك مأخوذين:

أنت بوهم القدح
وأنا بحقيقة الخمر

ليست حروباً تلك التي تدافعنا في شباكها، مرة بالمناكب المطعونة ومرات كثيرة بحشيشة الوهم.
ليست إلا حيلة الحنين.
لم تكن إلا عفناً يتصاعد من فعل الحكّ المتحكم في أشلائنا المعطوبة بحوافر النحيب

تقدمي، تقدمي
لتري بنفسك كيف تقود البغال كوكبة المقاتلين في غيبة الفرس الشقراء ذات العرف الملكي.
لتري الأتان وهي تسلك، مع أكثر الكائنات جمالاً، منعطفات الشراك نحو سكينة الحظائر، سرعة لساعة الذبح، حيث
المجزرة

لستُ واهباً المباغتة لك. سوف أمسك بعرفك الطائش، سليل البروق والذهب، وأقودك إلى مكان فيه يفترّ ثغرك عن نشيد في مديح الفارس قبل أن ينسى عادة المجابهات:
جنون الهجم.

تقدمي هكذا،
منتورةً على كعبيك الرشيقتين
تلوّحين برقبتك الملكية
وتدفقين حليبة الدم في نسغ شعبٍ
آن له أن يخرج على حكمة
النص

4

... وأيلول
كان له ثلج ينال زرقته من بهجة الجرح
نقف في منعطفات الأمم
لم نكن لنحصي سعة الهواء
عندنا رئات وأكباد وأفئدة
وعلينا حرس.

كان لأيلول
فتنة الأفعوان. يلهب الأحصنة مثل سائس نفد صبره في واد لا يكفّ عن التماهي مع مرايا السراب

قيل لنا،
أيتها الضائعات في غيمة المسالك
قراصنة تكمن لكنّ في همس المغازل

قيل لنا،
في كل قرميدة محطة تشفّ عن أدلّاء ومسافرين، والعربات تتدافع كما في وداع الموتى وهم يؤدون طقس الاستهانة بآخر الأسرّة ونهايات الطين.

كان لأيلول
موهبة الانتقال من زرقة الربيع إلى صفرة الشتاء، حتى الدرك الأخير من رماد الصيف. وما إن يندفق رذاذ الأكباد على زجاج النوافذ
حتى تمطر الأشجار ثماراً في شكل قناديل سوداء.

قيل لنا،
أيتها البادئات في ليل الشهوة
أشفقن على بصيرة الفأل
ها رجال في غيبوبة العطش ويستنشقون
بخور أجسادكن.
اسفحن الشعر الطويل،
الشعر الأسود الطويل كالعشاء
ليعبر الرجال فوقه إلى النهر.
قيل لنا،

يهتاج أيلول
له يد تحسن قرع الجرس في عرين الصمت
وعندما يفيض السبي
تركض النساء عاريات في أروقة الأمم
نهتف من بعيد:
تعالي أيتها الشاردات من الأسر
ادخلن إلى النص الذي سوف
يرأف بعزلة أحلامكن مثل حصن
ادخلن
لأنين النهدين الشرفة والحديقة وبياض الشهيق
هناك حرية الزورق ونعمة النزهة
هناك مطر ينتظر ليضوّع أذرعكن بالزعفران

أيتها الخائفات من الهتك
الخارجات من غمد اللعنة
لسرير النهدين حرية تتمرّغن
في وحلها
تتوحّلن وتتحوّلن

مثل أيلول.. مثل أيلول.

5

صار لجسدي تاريخ يحرس الذاكرة.
تلك الإرهابية الفاتنة. أجمل الإرهابيات اللواتي صادفتهن في ثلج الظهيرة. لويت ذراعها الزبرجدية، ورحت أفكّ أزرار ثوبها التي هي مثل نجوم منسية على سديم الأفق. من الرقبة حتى القدمين. أكثر استحكامات شاهدتها على جسد امرأة.

تهتز بعنف تحت أنفاسي وأنا أفكّ زراً وأقطع آخر. نتوءات الجسد تطفر مثل أرانب مهتاجة، حتى أن الحلمة كادت أن تخترق صدغي وأنا أحاول السيطرة على اندفاع الشهيق المنبعث من بئر الروح مقتحماً هيكل الاشتباك. وعندما وضعت نصلي على بشرة الثمرة المرتعشة صاحت بي مثل نمرة ملتاعة أن لا أتوقف عن إرسال الحديد إلى حيث يندّ فم الوردة.

أية إرهابية فاتنة تلك التي:
مثل فضاءٍ وتحتدم في أفق الجسد
ولم يكن جسدي لينسى تاريخه الجميل.

6

لعلك أشبه بالهودج: حين يهتز، ينثر رسائل تعلن أن معسكراً في مكانٍ ما يفسد هيبة المنطق ويكسر القاعدة.
لعلك المنذور لرائحة فرو محروق، كانت التيوس تهبه لعريكة الجبال.
من أين لك هدأة الذاكرة،
وكل هذه الفوانيس التي تغرّر بالنهار وتدفع الليل نحو حدود الهلوسة؟
هذه الوحشة التي تؤنس الغريب؟
هذا الجرح المغرور الذي يمنح تاجه لصرخة الانتشاء ومجد اللعنة؟

قلت لك: لنمح غفلة المشهد ونفتح البحيرة أمام أطفال محبوسين بين موتين.
قلت لك والقتلى يذرعون البهو، وأنت في شرفة المشهد تهفو لعنقك النصال وتتبادل
صورك المشانق:
توغلت، توغلت كثيراً في مجرى المؤامرة.

إلى أين أنت ذاهب؟
الأشجار مرصودة لك، الأبواب تتلاطم أمام عينيك.
لا.. لم يكن ذلك هتافاً
جريمة أكثر، أمل أقل.

جرحك، قلت مرة، واهب الحرائق لغزاة الجسد.
الآن، لم يعد الكلام كافياً ولا الليل
في كل منعطف أسمع لجرحك صريخاً مثل شبق العناصر وشغف الراهب لئلا يموت قبل الحب.

يا لك
كلما وضعت يدي عليك غاصت كأنها في زئبق السديم
تجهل الأفلاك جهاتك ولا تطالك جاذبية الماء.

آه يا للجرح:

مفتوح مثل أشداق المغفرة
مثل باب الجحيم الحميم
مفتوح على آخره.

وها أنا في برزخ الظن والاحتمال،
أكتب جرحك العاهل.

7

قيل له:

ابتعد عن هذا البراق
شكيمته الضارية ستفتك بك
ستصير أضلاعك مداساً لحوافره
إذهب إلى المكان الآمن
هذا البراق ليس لك

قيل له:

تميّز بحكمة الجبان
لست للقتال. سايسْ أمرك

قيل له:

وفتحوا أمام مواطئه مسارب إلى التهلكة.
أنت المليك وهي الملكة

هامَ على هاوية
مترعاً بحِداد الأقاصي. مثل صخور كثيرة تتساقط على مرآة الطريق، لتطير الشظايا مذعورة وتنغرس في أنحاء الجسد الماثل كقنفذ الشمس.
مترعاً يترنّح، عبّ شراب قلبه
جسد التقت عليه جيوش كساحة حرب مباحة.

قيل له:

إنها حربك
عليك أن تحتمل.
لكن البراق..لا،

من أين لهم كل هذه السطوة لنهبه،
من أين لهم كل هذا الجبروت لدفعه إلى الأقاصي.

8

اليد الحانية تقتل أحياناً
وأحياناً يفتحون لك الجغرافيا لتضيع
وأحياناً تبرد أطرافك بفعل الوحشة
وأحياناً يختلج قنديل المعنى، والمعنى يهيم في السديم.

وأنت.. وحدك في كهف،
تقرأ لئلا يستفرد بك كابوس الشرائع.
وأنت.. تتشبّح في المنعطفات
تتدافع في زفير رمل ينثال عن جدث
تنظر إلى جثتك في كيمياء المجرزة.
وأنت.. توأم الجرح
غريزة الفقد
نسل الطرائد
تنسى أحياناً
تنسى عدسة المعنى
وأحياناً تتبادلك مباحثات الوسطاء
وشورى القواميس
والرحيل اللانهائي.
.. وكلما فتحت شرفة على آنية المخيم تكاسرت حيوانات اللغة وتصاعدت في بكاء الكبد المهتوك.
هذا أنت،

ترى في كل نأمةٍ أملاً.
نرميك بالكارثة،
فتقاوم الأبجدية كاملة وتمعن في غواية حيوانات اللغة.
ذاكرة أم زجاجة دمع؟
تحصّن تاريخك بنسيان الكتب.

هذا أنت،

تخرج على كل خروج
تضع جسدك في مواقع العجلات
وكل عربة تسميها صديقة التجربة.

يرمّمون آلة القصل بشحمك الجائع. تتقمص العاصفة البطيئة لتصدّ عطش الملجأ ربيع كل موسم، كأنك في الحقل الأخير. وكلما ترنّحت الهياكل الدامية سميتها السنابل وهي تشاغب الريح.

مكتشفون يكمنون لك في منعطف الظهيرة. من رآك تيقّن أنك مصاب بالرحيل أيضاً.

9

هاكم آلهات تعطّر الوسطاء بالحكمة، والرائين بالأجنحة، لكنها تواري أقنعتها كي لا يلمح أحد جنوح النزوة بين خصلاتها. في ومضةٍ تطلق مدائح نفيسة لرعايا مدججين بفطنة الوهم. في ومضةٍ أيضاً، تسيّج المسالك بتقنية العنكبوت. تداري كتائبها لئلا تفقد تاج الحياد وهيبة القناع.
مبلّلات بالكآبة آلهات المحنة. يزخرفن الأهداب بوجع الخليقة.
لا عجب إن سمعنا يوماً آهةً تصدر من عين مفقوءة.

يا للرعب!
أ لم يفوّض البحر جلاده ليجزّ بالسنان المائي أرواحاً تلهو في راحات آلهاتنا الزائلات؟

عند سلالم البحيرة تجلس الشامخات وتمشط رؤاها غير مبالية بنشيد شعبٍ يتنزّه في حمم الوقيعة، ونشيج أرامل ينثرن الأرز ليلاً ليستدرجن المواطئ الميتة نحو مخابئ الحليب.
هاكم عبيداً يبالغون في الانحناء، وينكحون الأغلال في شبق لا يوصف.

سلالة الوثن
مشورة السوط
شهوانية الغياب
أكثر الطغاة خنوعاً وفكاهة
من أين لهم كل هذا المرح الباطش؟

هاكم تراثاً أوشك على نسيان عادة اللهو. يسلبنا المهد ويرضعنا اللحد. يؤرّخ لتعاقبات المعادن المطفأة. كلما اهترأ جلد سيد إرتجل له جلداً سيداً وأسرف في شريعة القرابين.

هاكم الأرض الهابطة في هاوية السماء
خذوا التركة ذاتها
الميراث ذاته
هاكم طبيعة الأفعوان
قلنسوة المهرج
ضلالة النداء
أسمال العري.
هاكم حشيشة التمني
هاكم طينة مصابة بالسفر
هاكم جنس الذبيحة الضارع، وما تشتهون من سلاسل.

واعطوني أن أنقذ الآلهات من بلهنية العبيد
أعطوني أن أكنس قبو الكنيسة من تفجع القهرمانات اللائي فقدن خطاياهن السريّة
أعطوني هذيان العناصر، ذخيرة المخيّلة.
أعطوني بيتاً أبنيه، وأغادره عنوةً

لكني وحدي أذهب إلى الهدم
الهدم الهدم الهدم الهدم
ضد كل شيء. لست البريء. زعفران العافية لمسائي الأخير
وكنت أهذي بزفير الكرسي

الكرسي:
ليس خشباً. هلام يتماهى في حالة قفص. حيناً يأخذ شكل سرطان برؤوس ليس لها عد. يبدو ظلاً لمقصلة أو شرفة لسقوط الحكمة. وكثيراً ما خلعت عليه السماء كسوتها. لكنه لم يكن يوماً مكاناً للراحة. وله أية في الكتاب.

10

نحكي الحكاية التي بلا معنى

رجل وامرأة يكتنفهما الدوار والشحوب والنسيان والحب المستحيل. يضيئهما مذنّب طائش يخترق سماء الكوخ بين لحظة وأخرى.
ثمة حلم يندلق من المصباح الوحيد الذي يحصى شرائح الضوء ثم ينخرط في بكاء غامض. على الطاولة الصغيرة مقص وعنقود عنب وأزهار كاميليا ذابلة. ظلال تعْبر. خطوات غير مرئية تكسر إيقاع الصيف الوابل. همسات تحتدم في الجدار. والليل النمّام يفشي للزواحف سرّ الكائن الأعزل.
هكذا.. هكذا يتجزأ الطريق، في الخارج، كل حمحمةٍ.

هو:
كان قد عاد لتوّه من البحر بلا غيمة ولا خرافة. يرمي شبكته الخاوية جانباً، يخطو ـ عابساً، متعباً، خائباً ـ نحو السرير الذي يستقبل هيكله بأنين خافت.
هي:
لم تُعدّ الحساء بعد، لم ترتّق السروال بعد. جالسة على الكرسي الهزّاز في سكون مرعب، كأنها لا ترى ولا تحس. مع حركة جسمها، الذي يميل إلى الأمام وإلى الوراء في إيقاع منتظم ورتيب، تتأرجح الأشياء والأفكار والتداعيات.

من بعيد يصل ضجيج الخبز، ثغاء الماء، تثاؤب الحارس، صدى الملل، قهقهة الأعنّة، نشيج العجلات، دبيب المضاجعة، حفيف الدسائس، شخير الرواة، هبوب المراوح..
ثم فجأة، تخبو الأصوات ويجثم صمت مخيف، يأخذ شكل جرح أو شكل موت. صمت لا أحد يقدر على احتماله.

بعد قليل يقول:
"تُرى ماذا يفعل الآن هناك؟ أما يزال يطارد فراشات عمياء تنبجس من جبينه كلما شهق لمرآى أميرة تستحم في البحيرة؟ أما يزال يغرّر بصبايا سمراوات يخضّبن نهودهن بالريحان ويدخلن مملكته الحريرية بلا خجل؟ أما يزال يتأبط كتباً تبلبل وهو الذي لا ينبس إلا لماماً؟
أما يزال يدشّن بمخيلته الجامحة مجتمعات في صفاء البلور؟
أذكر كبرياءه واعتداده بنفسه. كان يحب الأناقة. كان يغفو تحت الصفصاف ويشبك أحلامه على هيئة إكليل يضعه برفق على حلمة النهر ويتأمله بينما يطفو متجهاً صوب نوتيين كانوا حينذاك يحتسون الشاي.
آه، يا لوسامة روحه آن يجسّ بأنامله أهداب حلمي وتغرورق عيناه بالضحك. وإذ ينحني ليشمّ رفقاء الطفولة، أراه الأجمل والأنقى."

بعد قليل، يقول:
"كلما رميت شباكي في أعماق أرخبيل، باغتني الأخطبوط الساخر وأطبق على جذعي بأذرعه الطويلة، أذرعه المائة الملساء والقوية، وفحّ في أذني هامساً: أينما رميت شباكك يدرك الموت.
حتى القواقع لا تسعفني في العثور على ملاّح مقدام يخلصني من هذه البليّة.
لكني أحبه ذلك البحر، الواسع كشهقة امرأة تلمح لوهلةٍ عري رجل، الشفاف كعين طفل، الأزرق الأزرق، الساكن مثل سجادة. رغم كل هذا، يطعنني اليأس.
أيها المرشد، أيها الفنار المرشد، أينبغي أن أتوسل عالياً كي ترأف بي؟ دروب الأرض شائكة وليس من يألف خطاي غير البحر، فدلّني إلى رحم الخليج أو دعني أمر ّ."

ـ ماذا يفعل هناك، لماذا لا يأتي؟ عندما انتزعوه من حضني قالوا ساعةً ونعيده إليك، لكن
مضت شهور ولم أره.
ـ أنا أيضاً لا أحتمل غيابه. أشعر بالخواء.
ـ إذن لماذا تركتهم يأخذونه؟
ـ وماذا كان بوسعي أن أفعل؟
ـ أن ترفض. أن تصرخ. لكنك آثرت السكوت، انتحيت جانباً وتركت الأمور تسير كما يشتهون.
ـ أنت جاهلة، لا تفهمين..
ـ نعم، أنا لا أفهم، لا أفهم ما تفهمه، لكنني على الأقل فعلت شيئاً. بصقت في وجه
أحدهم.
ـ وماذا كانت النتيجة، لطمك على صدغك وطرحك أرضاً.
ـ ليكن.. غير أنني عندما حدّقت في عينيه رأيت خوفاً. كان خائفاً مني. لم يلحظ أحد ذلك.
حتى هو نفسه اعتقد بأنه غير خائف. أنا الوحيدة التي أدركت. وكان ذلك يكفي كي
أشعر بشيء من الزهو.
ـ هكذا أنتِ دائماً، تنظرين إلى نفسك كمثال للشجاعة والبطولة، أما الآخرون فهم أقل
شجاعة ونبالة. أحياناً أشعر أنك تكرهينني..
ـ لا، لا أستطيع أن أكرهك، لكني أيضاً لا أستطيع أن أغفر لك.
ـ هل جننت؟! كيف تعتبرينني مذنباً أو متواطئاً. هو ابني أيضاً، أم أنك نسيت ذلك؟
ـ صحيح، لا يجب أن أفعل ذلك. لا يحق لي أن أوبّخك. فقد كنت تحبه مثلي. كنت تعرف
مدى رهافة قلبه مثلي. عندما كان صغيراً، كنا نخرج معاً. تذكر؟
ـ نعم، نعم.. كنت أحمله على كتفي، وكنتِ تحملين سلة التفاح والمشمش..
ـ نعم. كنا نلهو ونتسلى، نمشط المنتزه بضحكاتنا. كنت تحمله عالياً، فخوراً به. وكنت
أنظر إليكما وأقول لنفسي: ها هما أحبّ الناس إلى قلبي..
ـ في آخر الليل ألتصق بالجدار وأناديه. تعال يا ولدنا. لا أحد غيرك يضيء روحينا. وعندما
يثقل الحزن كاهلي، أميل صوبك وألثم جبينك.
ـ كنت تظن أني نائمة، لكنني كنت أستنشق أنفاسك وأنت تنحني فوقي، فترتعش
أعصابي وأهمس في داخلي: أحبك.
ـ فأعرف أننا جسد واحد. لا أحد منا يقدر أن ينسلخ عن الآخر.
ـ وعندما تلتصق بي أنزلق في خدر لذيذ، وأشعر بالعرق المشعشع يصهر أعضاءنا الطريّة،
آنذاك أهمس: خذني..
ـ فأغطيك بصاريتي وأشرعتي وآخذك إلى التيه، إلى جُزر دائخة من فرط اكتنازها
بالرخويات، وهناك أدهن فخذيك بزبَد الصيف ونرقب في جذل ولادة الأعياد فينا.
ـ غير أنه لم يأت بعد؟
ـ من؟
ـ ذلك الغريب الذي مرّ من هنا، والذي من أجله لطمني ذلك الوغد. مرّ كالخدْش، بذر في
أحشائي لوعة العشق ثم مضى في لمحةٍ.. بلا علامة ولا ميعاد.
ـ انسيه يا ابنتي، أحزن عندما أرى روحك مريضة.
ـ وقف أمامي شامخاً، بهياً، تطفر الإشراقة من أجفانه كلما شهقت عيناه. أومأ إليّ كي
أقترب، فاقتربت. وضع راحتيه على صدغيّ وقبّل شفتيّ ثم تمتم: لن أكون لأحد سواك.
ـ لا تذهبي بعيداً في الهذيان، إنه يحرق. عودي كما كنتِ يا طفلتي المدلّلة، يا صديقة
النسمة. أشفقي على شيخوختي أيتها المحمومة.
ـ عندما فتحت النافذة، أبصرت الثعالب الخضراء محتشدة، ممدودة الأعناق، وتعوي.
أخبرني يا أبي، هل قتلته؟
ـ لكي أحميك، كان ينبغي أن أقتله، لكنني لم أفعل. طلبت منه أن يرحل فحسب.
ـ آه، وتركني وحيدة مع أشباحي، أنبش الذاكرة بأحداقي، فلا أجد غير الهباء.
ـ كفى أيتها العجوز المسكينة، صراخك أيقظ البلابل المريضة.
ـ قريباً سوف تستيقظ كل البراكين الخاملة، وعندئذ لن يبق للبشر مجد.
ـ دعيني أقودك أيتها الضريرة عبر هذه الأدغال، رغم أنني لا أعرف من أنت؟
ـ أنا العرّافة أيها الغرّ، يا دليلاً بلا وجه. خذني إلى مسقط المصابيح. ها شلالات تعدو لاهية. كهف يومض في أعين فهود تتعارك. نساء حبلى بحيوانات صغيرة. عساكر مريّشون يتدافعون في فم الموت. الغبار الحارس يخطّ على الصخرة وصاياه الكاذبة. هذا يكفي، هذا يكفي، لم أعد أر شيئاً!

(رجل وامرأة يجلسان هكذا كل ليلة، صامتين، لا
يتبادلان أية إشارة.. مثل كائنين غريبين لا يجمع
بينهما غير الحوار الأخرس..
ويبدآن في تقمص الأدوار)

11

نحكي الحكاية الحافلة بالمعنى

جُند كانوا يحتلون المشهد.
الآن تدخل غزالة لها نكهة الغيم. تحك قرنيها الصغيرين بحدبة نيزك مجذوم اجترحته الليالي القديمة.
يفرغ الجند تواً من غسل أسلحتهم العتيقة بعد حفلة قتل الصبايا ذوات التنانير الخضراء.
إنهم عرضة للغفلة. يتجرعون الجعة المخلوطة بنخالة الخبز. على ستراتهم رذاذ نافر من أرجوان الأجساد الفتية.

هكذا كل مساء
تصير الغزالة، الطريدة الخالدة، المرشوشة بعنبر الغابات الفانية، جزءاً من الطقس. وحيدة إلا من رفقة نيزك شاحب يسلّم أطرافه الخجولة لنشوة الاحتكاك العذب، للرعشة المحمومة، للفيض المنوي.

عندما يصاب صاحب الجند بفجيعة الرؤية، ينهر الحرس: ما هذا؟
الجند لا يخرجون من بغتة المشهد، كمن يتخبط في غفلة القرون الساحقة.
النيزك ينمو كشجرة هائمة ويحكم سطوته على المداخل، كأن المدينة له، له وحده.
الغزالة ترى إليه يزدهر ويتألق.
الجند لا يعثرون على جواب لسؤال قائدهم الذاهل.
لا أحد يعرف من أين جاءت الغزالة، من أين جاء النيزك.
للمرة الأولى، ربما، يرون إلى حجر يترعرع مثل الأطفال. ما كان ينبغي أن يخلدوا إلى الاستهانة:
غزالة هشة، وحجر متروك.
وسوف ينتاب الكائنات الحبيسة انتعاشة غامضة. الوجوه والأعين تسد المنافذ وفتحات القضبان مثل سلالة عباد الشمس. تلك الكائنات وجدت في الغزالة والنيزك حدثها الأثير. الحدث المبجّل.

يختلط المشهد.
للمدينة طبيعة الحبس الشاسع. لها عادة الهذيان. مدينة تهذي بمخلوقاتها. الغزالة والنيزك يحتلان المشهد. ويصير للسجن بوابات لا تحصى، محاصرة بالمباغتات.
تأتي الصبايا القتيلات ويمرّغن أجسادهن الدامية في وحل البوابات، بين أنظار ساكني الزنازن، المصلوبين على النوافذ والأسوار، وبين الغزالة وهي ترمق السائل الأرجواني يرونق الأجساد النحيلة التي في القتل، فيما هي تحك قرنيها بحنان في شفرة النيزك فيصدر رنين من شجن حنون ينتقل مثل الحب إلى شغاف المخلوقات المكبوتة، فتتصاعد التأوهات مثل أجراس مهمَلة.
الصبايا القتيلات يعفّرن أشلاءهن المدهونة بعسل البقاء فيصطخب المشهد. فيما يقف الجند نافري العضلات، موتوري الأسلحة، يتفرّسون في تغضنات أشلاء في القتل ولا تموت، غير مصدقين أنها ذات الأجساد التي تعرضت لضراوة حرابهم في الليلة الأخيرة.

هكذا كل مساء
تتحول الساحة إلى عرس دموي تتبادل فيه كائنات الألم والقتل والغزالة والنيزك أنخاب الحوار الأخرس، الأكثر فصاحة، والذي لا يقدر الجند، بكافة نبال الشراسة والحقد، أن يكتشفوا كنهه، ولا سبل التفاهم معه.
حوار يعصف بأبجديات الكلام.

إنها الحكاية الحافلة بالمعنى
هكذا.. يتصاعد المشهد لينال أطراف الأفق.
تتقاطر حيوانات الغابات المجاورة، وذوات الريش الداجنة التي طابت لها أسقف الأكواخ.
تتقافز أسماك الموانئ القريبة، وتطل الأمهات الثواكل اللواتي وزّعن أبناءهن بين الذبح والقيد والنأي. وعندما طال انتظارهن جئن يضمّدن صبرهن بعرس يدشّن بحزن أليف.
في بعض الأحيان يُقبل المروّض العجوز وهو يقود عربةً مكتظة بشظايا الأطفال الذين لم يذعنوا لتعنّت المربيات العوانس أو جلافة المدرسين الجهلة. يجئ بهم ليكلّل الحضور بأكثر المخلوقات جرأة. وما إن يشرف على الساحة حتى يطلق حصانه الصهيل المميز ليفسح الجمع الطريق كي يستدير بعربته دورة كاملة بحيث يتيح للأطفال رؤية الغزالة وهي تداعب النيزك، وملامسة الضوء الباهر الذي يرسله هذا الحجر الغريب الذي أصبح يحكم المدينة.

آنذاك،
صار لدى سكان الساحة والزنازن والقرى والغابات وعمال الموانئ ومشردي الأفاق وجوّابي الأبعاد، ما يشغلهم عن النوم.
في كل مساء يتوجه الجميع، في جسارة، ناحية المداخل التي تتسع للجميع وتضيق على الجند.

هكذا،
تحك الغزالة قرنيها الذهبيتين بالنيزك الجهنمي.
ساكنو الزنازن يتبادلون الأنخاب كأنهم في الحانة العظيمة
المخلوقات تتألق في قفطاناتها الليلكية
الصبايا يغزلن بدمهن الصقيل طائرات ورقية.

تلك حكاية ترفل بالمعنى
حكاية صادفتها الخريطة
فيما كان المشهد يذهب إلى النسيان..
غزالة رسولية وحجر يقدح الذهب.

12

آويت ساحرات الحقول، لأخدع بهن النمر وذات الجرس وبنات آوى الجميلات.
آويتهن: مشرقات المحيّا، مضيئات الخُصل، حسيرات الصدور، شغوفات، شاخصات في التيه.
عندما تبطش بهن الغفوة، تدخل الطيور الطنّانة مهبل أحلامهن.
آويتهن، بعد أن ضاقت بهن الأقاصي.

يطارد الرعاة، بمزاميرهم المخيفة، أصداء عويلهن الليلي،
تحرق عواقر القرية الأغصان اليابسة وتحلّ وثاق الآبار كي يفتك بهن العطش،
يرشق الصبْية المشاكسون شقرة أطيافهن بالضفادع كلما اقتربن من حدود الخمائل باحثات عن دفء أو أريج،
توصد في وجوههن الكوى وتُقطع عليهن السبل،
كل هذا يحدث
يقبلن به بلا تذمر ولا دفاع
ولا تخطر ببالهن المغادرة.

تُروى عنهن الحكايات:
قيل من سلالة الوطاويط التي لعقت دم المسيح المسفوك على الصليب بعد إنزاله، ومع مرور الزمن تحوّلن إلى كائنات أكثر ألفة لمن يجهل الحكاية.
ساحرات صغيرات يخلبن أفئدة الأغرار وهواة المغامرة. لسن من الجنّ ولا يرحّب بهن البشر مخافة عبوس الكاهن الكامن في دورق الخطايا، ومجون الراهب الراقص في لهب الممسوسين.
لكنني، ذات مرة، صادفت الساحرات في الغابة، صادقتهن وآويتهن مأخوذاً كالصباح الغريب.
في كوخي الموغل بين أشجار الجوْز، ذلك الذي ألجأ إليه أوان السيول واشتداد القصف، وهرباً من فروض الآحاد والجُمع، هيأت الطقس الرائب والخلوة الفاخرة، ومعاً أسّسنا الراحة والطمأنينة. كنا نتبادل ـ أحياناً ـ الصمت الطاعن ونتمرن على ضروب العبث الماجن.. لكننا غنمنا الألفة.

عندما أغيب في فرو الأودية، أسمع نحيب شقيقات العزلة ينبعث متشققاً من سبّابة الغابة، يناديني مثل وحش مثخن بالوجع يستغيث بمن سوف لن يسعفه. وما إن أعود حتى تترامى أنفاسهن على أنحائي، يلثمن ويلعقن جلدي المغبرّ.
في المرة الأخيرة، أخفقتُ في تفادي القصف، فاخترقت كتفي شظية راكضة في العويل، وفيما كنت أترنح دائخاً صوب الكوخ، مستدركاً نزيفي، امتلكني الوهن وخارت قواي، وإذا بالساحرات يهبطن من أعالي الأشجار، ويبسطن أجنحة الفراشات فراشاً لي ودفئاً.
داخل الكوخ ضمدن الجرح الغائر برضاب القُبل، ومن أرديتهن السوداء قصصن شرائح غطّين بها الجرح، ثم شرعن في ترديد الأغاني الغريبة فيما كنت أخوض متثاقلاً بساط الوسن.
لما صحوت كنت وحيداً، وأنداء ضوضائهن كانت ما تزال عالقة في ثنايا الفضاء الصغير. رأيت بقربي دورق نبيذ وقطعة من خبز الشعير المحروق وبقايا من مزق أردية ربطن بها كتفي. وحين لمست موضع الجرح وجدته بارئاً كأنه لم يكن، وليس هناك غير بقع الدم المتخثرة على القميص، فأصابتني رجفة الذهول.
أمضيت أياماً في الرهبة والوسوسة، متردداً في إخبار أحد بما جرى لي. وعندما حكيت لأمي اتهمتني بالخبل وقلة الإيمان، قائلة: ألم نقل لك أنهن ساحرات من نسل الوطاويط؟ لقد لعقن دمك مثلما فعلن بالمسيح. ينبغي أن تطلب المغفرة.
أدركت يومها أن أحداً لن يفهم، ولم أهتم.
صرن ساحراتي الأثيرات
آويتهن: أليفات، حنونات، صائمات عن الأذى والإثم، أكثر رأفة من البشر.

أترك المدينة في قتالها والقرية في وجلها، وأجوب ممرات الغابة حتى ينهمر التعب من مسامي، ثم أجلس أمام كوخي.. أغفو واستسلم لسلطان السبات.
حين أصحو أستنشق بهاء الرموش المُحبّة فيما يتحلّقن حولي هادئات، باسمات في خجل، يسوّرن وجهي بالتأمل. عندئذ تبدأ واحدة بالحديث عن شكل أنفاسي وهي تتصاعد أثناء نومي مثل بخار الزئبق وكيف أنها أحياناً تلبس هيئة هداهد زرقاء. وتصف الأخرى الكائنات العجيبة التي تتخلق بفعل أنفاسي في فضاء الغابة.

قلن:
كيف تحتفظ بكل هذه الأشباح المخيفة في داخلك. مخلوقات أصابها المسخ. أشكال بشرية ترتدي رؤوس السعالي، وبعضها مختومة الأطراف بالطحالب والفُطر، وبعضها مثقوبة الصدر من كل ثغرة يطلع جرو شرس وهندباء سامة، وبعضها مجزورة بنصال لا تزال ترتعش في اللحم الطري.
ثمة طيور عمياء مكسوّة بجلود تماسيح تتواثب ومن مناقيرها الخشبية تتدلى أمعاء طفل تقطر دماً يشبه القطران. وفي خلفية المنظر تحبو ضفائر الدخان الكث المشوبة بصفرة الكركم.
أما أنت فينتابك فزع خفيّ وتبدو كمن يفرّغ أحشاءه بلا توقف.
كيف تقدر أن تحتفظ بكل هذا في داخلك؟

في كل مرة لا أعرف كيف أخبرهن بأن ما يحكين عنه ضرب من الجنون أو الهلوسة. وأنني مسكون بالوهن.
يتضاحكن، ويأخذن في مداعبتي بأجراس الأزهار الجافة ليحرّرن روحي من الذنب.
صارت ساحراتي تنتظر الزوادة التي اعتدت حملها إليها. هناك أفتح الكيس المصنوع من فرو دب أبيض لا تخطئه العين، أخرج محتويات الكيس، وأصفّ المائدة:
مؤونة أسبوع.. النبيذ ـ أفخاذ أرانب مقدّدة ـ حشوات من عجين الخبز ـ حبات البصل الأبيض.
ومعاً نستغرق في مأدبة تبدأ هادئة مشوبة بالخجل والتمنّع، وسرعان ما تصطخب بالمرح والمداعبات، ويتفشى بيننا سُكْر عابث.
للساحرات طرق جذابة للاستمتاع بسهرة القصْف، سهرة قيامة الأشياء وتحوّلاتها.. لذا أترك لهن قيادي يأخذنني إلى حيث يشأن.
ذات ليلة نفد النبيذ، وكنا في منتصف السهرة. بقيت رشفة واحدة في القصعة الخزفية. اقترحت إحداهن: يتعين على كل منا أن يروي أصل ومصدر النبيذ. والحكاية الأكثر سبكاً وإقناعاً وجمالاً ستؤهل صاحبها للفوز بتلك الرشفة المجيدة.

قالت الأولى:
إنه الكرز الذي نسيه نوح في أدراج سفينته طوال رحلته القديمة

قالت الثانية:
الثمرة التي أغوت بها حواء آدم لم تكن تفاحة، إنما هي نوع نادر من الرمان استطاعت حواء أن تخمّر منه قدحاً تجرّعه آدم ولم يفق منه أبداً.

قالت الثالثة:
إنه المطر الأول والمطر الآخر. عندما غضب الله على آدم وأخرجه من الجنة،أسقطه إلى الأرض وصبّ عليه سائلاً أحمر اللون صارخاً به:

اذهب أيها المنبوذ.
وكتب عليه أن تكون ساعة قيامته يوم تفيض الأرض بالدم الذي يهدره البشر من أجسادهم في اقتتال هائل. ومن يومها لم تتوقف الحروب، ولم يكفّ الإنسان عن النبيذ لئلا تغيب عنهم لعنة الله.

وأشارت الرابعة :
إلى أن أصل كلمة نبيذ عربية منذ البدء، مستشهدة بسورة مريم عندما انتبذت لها مكاناً قصيّاً، زاعمة أن لاستخدام كلمة النبذ بالذات دلالات رمزية تكاد تصبح ضرباً من خداع الرؤيا اللغوية. فمريم أخذت الرطب وذهبت به إلى مكان منعزل غير مكشوف، حيث بمقدورها أن تخرج من ذلك الرطب الناضج سائلاً جديداً كان هو أول ما جرى في فم عيسى قبل أن يجري الحليب في صدر مريم.

وتتالت الساحرات يتسابقن في ابتكار الحكايات، فيما كنت أصغي وأنا في دهشة لقدرتهن على محاصرتي. وربما تعمّدن منحي الامتياز بسرد الحكاية الأخيرة، الأمر الذي يشفّ عن رغبة حميمة في أن تكون الرشفة الأخيرة من نصيبي.
عندما فرغن من رواياتهن، تحلّقن حولي وهن في ذروة تألق النشوة، يمطرنني بالقبلات ويتناهبن القميص المبلل برحيق الحكايات، ويلثمن كتفي وشعري مردّدات في غنج:
ـ وأنت، ما هي حكايتك؟

كان يجب أن أقول الحكاية التي أعرفها. اتخذت وضع من ينوي أن يبوح بالسرّ الأعظم، متيقناً أنها الحقيقة. تلك الحكاية التي سمعتها مئات المرات، والتي يتمثلها الجميع في آحاد عمرهم القديم، حيث أضحت نوعاً من الشعائر مثل حقيقة مطلقة ينسخها الأحفاد عن الأسلاف.
رشفة النبيذ الأخيرة من نصيبي لا محالة.
هدأت الساحرات، ولبثن شاخصات الأبصار إلى الشفتين اللتين احمرّتا بفعل النبيذ والقُبل.
قلت بصوت الحكمة:
هذا النبيذ الذي نتكاسر عليه الآن ليس سوى دم المسيح..
بغتةً انتفضت أجساد المتحلقات حولي كمن فُصل رأسه بضربة خاطفة. انتفاضة وحشية كأنها الموت. انتصبن منتورات على أطراف أصابعهن في حركة واحدة.
شعرت أنني أهوي في قاع القبر لوطأة الصمت الذي أمسك كل الفضاء من حولنا.
الغابة برمتها أجفلت مكتومة الأنفاس، مخنوقة بجميع مخلوقاتها الراجفة، ولم يعد لأوراق الشجر حفيف يُسمع.
اكتست الوجوه الفاتنة المرحة سحنة الجثث. وراحت كل جثة تتقهقر إلى الوراء ببطء شديد كأنها تمتثل لهيبة صمت لا ينبغي خدشه بأية إيماءة أو نأمة.
عندما ابتعدن قليلاً، استدارت كل واحدة على عقبيها وبسطت ذراعيها بالرداء الأسود المرخي ثم طارت إلى أعالي الأشجار مختفية عن الأنظار، مخلّفة وراءها سياجاً من الغبار الرمادي أشبه بالنمش على صفحة الفضاء، وأنا في ذهولي عاجز عن الفهم.

ساحراتي الجميلات
أية خطيئة ارتكبت!
أنا الذي فديتهن بفتنة الحرب، بخشوع المحراب الذي يهدي القطيع إلى مثواه، بأشباحي المكبوتة حيث لا خلاص منها إلا بفتوى الكوخ وخلاعة الغابات،
أنا الذي لمست فيهن الحياة التي أفقدها..
أفقدهن أيضاً؟!
ماذا أفعل إذن برشفة النبيذ الأخيرة
جميعنا قال حكايته
هن صدرن عن المخيلة
وأنا صدرت عن المعرفة

المعرفة!!

آه، ماذا فعلت بهن
ماذا فعلت بنفسي!

من جديد ستبدأ الانشقاقات في روحي.

13

وأخيراً، إلى مشارف البحر، تصل المسيرة العظيمة، المسيرة الدائمة المطعونة بوقع الغبار ونفحة اليأس.
بطيئاً يرفع شعب الجهات بخار الحلبات لتشهد الجُزر الصفراء حركة الثواكل في اصطخاب الإثم الليلي.

يا بحر يا واهب الحضن الباطل،
إيّاك نلوذ وإيّاك نبتهل!

حاذينا المساءات الألف وخواصرنا مزروعة بطحالب تنزلق كما الأفاعي لتسوّر جحيمنا.
جئنا إليك، ونحن نعرف أنك لست المطاف الأخير،
لترمينا بالإهانة الأخيرة.
جئنا لتشتت مسرحنا،
لنعلّق مجازرنا كالأوبئة في نسغ العواصم،
لنقتل بعضنا ونعانق بعضنا،

جئنا ولا نملك غير الدم الدليل.

14

ها أنت تقف أمام الماء الهائل، تبصر دخاناً يتصاعد من مرآة الموج ويرتقي عتبات الريح الحجرية مثل كوكبة من الكهنة الذين يؤرجحون عباءاتهم فترتطم بذبال الشموع المصفوفة بإتقان على حواف المسالك التي تصل آخر دار مهدومة بأول شراع تزيّنه تخاريم الريح.
ها أنت ترى: لا ظل للبحر.

تذرع المشهد بمحاجر ملتهبة وتسأل: هل هذا هو البهاء أم الهباء؟
لكنك تسمع الحيتان تنتحب مثل الكراكي مستجيرة من وحشة اللجّ، حيث الحبس العميق الذي منذ الأزل.
عندئذ يستبدّ بك رنين تحسبه أجراس النيلوفر، بينما هو أنين حشدٍ من الثواكل يرسلنه إلى مدرّجات الشفاعة لعل الذي في صحبة الصارية يسمع ويأتي به الحنين.

15

هذا هو البحر إذن:

فتى مراوغ، حقيبة ساحر، أقنعة صعلوك
ضمير أمّة تخون مراراً
نزهة في النوم

مَنْ يقدر أن يبصر مواقعه في زئبق النوم؟
مَنْ يصدّق حياد الماء؟

نخرج من نار المدينة،
أصابعنا ملتهبة بليلة عرس أبدية،
كل هذا الماء الهائل لإطفاء جحيمنا؟!

مرةً، كانت زجاجة الماء تتأرجح مثل ملاك مخذول،
الملاك ارتعش حين أصاخ لبكاء الدلافين وأدرك أنه في مقبرة القواقع.
مرةً، أرخينا القياد لمزاج الموج فنالنا من السبي ما شئنا،
وعرفنا أن الموجة تخطئ المرافئ كثيراً.

آه،
أعطيناهم كل يأسنا وزادنا ووحشة نسائنا وشهقة أعراسنا وساعات أدلائنا،
فماذا أعطونا؟
حيل البحر وكابوس السواحل وأشباح المدى.

كنا عندما نضيء، بجسد واحدٍ منا، مشعل الفتنة،
تركض المدينة عاريةً نحو حتفها.

هذا هو البحر إذن،
ينتظر كالحاوي. الحاوي يقود السفينة من حيزومها ويدفعنا إلى متاهة الجهات.
ليس سفراً،
إنها ضحكة التيه تأسرنا،
تضلّل أحداقنا،
تموّه أحلام اليقظة.
حتى أننا لم نعد نسمع أنين تلك التي رفعت قميصها كغيمة ولوّحت لنا مستغيثة فيما كنا نحسب أنها تودّعنا مغتبطة. قيل لنا أن سفّاحاً باغتها في هدنة الهجم ومزّق وجهها الحلو.

هل تذكرونها تلك الفتاة العذبة التي كانت تمسح الكآبة عن جباهنا ثم تدخل أحلامنا بلا مشقة لتطهّر الكراهية فينا؟ تلك التي كانت تحتمي بنا كلما اعترض سبيلها وحش الخرافة؟

عندما يرتفع الشراع تزدهر الوحشة.
الريح تحنو حيناً، تحقد حيناً
تكتب غزواً رغداً لفرسان العرس
واليأس يجهش في يأسه:

لا الصارية حدّ
لا الشاطئ سدّ
لنا شفرة اللج
لنا مرارة الأضرحة
لنا مشيئة الهباء

"بذلنا لرؤوسكم المصابة أجمل أكتافنا"
قالت زوجاتنا الغريقات
"فرشنا صدورنا العامرة وسائد لزوبعة التعب فيكم"
قالت زوجاتنا الأسيرات
همسنا، قلن، وأنتم في قوس العطش
لا كل ماء يروي
ولا كل سفر يسعف
همسنا، قلن، وأنتم في وتر الجوع
نطهو لكم نواة الورد
نسرج لكم لباس الضفّة
لكن بالله لا تتركونا وحيدات.

لم نصغ.
عقدنا رباط الأحلاف حول أرساغنا وخضنا المراوغة،
رفعنا الأعباء كالمظلات، وهدهدنا حدْس النسوة،
دون أن ننتبه إلى انزلاق الجوقة المرتزقة نحو تلافيف الضاحية..
والنسوة كنّ أول ضحايا الحدس.

16

آنذاك خلعنا دروعنا
قلنا لابد أن نختم اللسان بوداع لا تغسله مياه
وليس في البحر نجاة لنا.

سكبتُ لك الخمرة
انتخبتِ لي الضلالة
وتعاركنا بشفاه تترنح بفعلين:

الحرب والخمر
كنا كمن يرتاض بين الموت والآخر
تضمّدين هزائمي وأرمّم لك العناصر المختلجة.
جسدك كان متألقاً مثل بهجة الناسك
وهو يكتشف عذوبة الملامسة.

آنذاك،
والدروع تتحدّر من جسدينا
تتصاعد أنفاسك لتطلّي منها
على ما يشبه النوم وما يحاذي الحلم
وكنتُ هناك
في غابة الزغب الذهبية التي تكلّل جحيمك المكنون، حيث تضطرم الأفلاك وتحتدم مصبّات القمر، والكواكب تلبس أشكالها مثلما تمنح المليكة ذهبها الأشهب للفرسان العائدين من المعارك مشوشي البال. لا هم في هزيمةٍ ولا هم في انتصار.

آنذاك،
لم نكن لنعرف من الفارس من الفريسة
مَن الجرح ومَن الطعن
كلانا العراك
وكلانا يشحذ الصواري في الميناء
ليشحنوا بنا المراكب في صباح كئيب.

كلما صهلت،
تسامقت رائحة فروك الأشقر مثل أحادي القرن
يصدّ نار الغابة عن أنثاه.
تتوغلين في جحيمك
تفركين ذخيرتك بزنادي
فأتفجر في براعم وفي رغوة فضيّة الريش والجناح.
تتفتحين مثل وردة الماء فأهوي أكثر وأكثر
صدرك في ريح الثلج
وفخذاك العظيمتان تدكان كسفودين رماد الهيكل
مثل غجرية تضرب الرمل وهي في يقين الرؤيا
نبوءة الساحر
مغفرة الكاهن

كلما غرزت مهاميزي في مكامن صهبائك، أنشبت براثنك في خاصرتي حتى يطفر الدم.
وعندها تسمع كائنات الخندق رجع الصوت الذي من الشهق والهديل.

آنذاك،
يكون عراكنا قد بلغ شرفة المدّ
يكون علينا أن نتبادل الأسلحة:

تلملمين أقراطك
أجمع أوراقي
أنت إلى البحر
وأنا إلى الصحراء
أراك تغادرين ملطخة بي
يدي في الحديد
تلوّحين بعرفك الأشقر الذي لي
قلتِ لي بأنه لن يكون لأحدٍ سواي.

ها أنت،
يذهبون بك
ويغيبك ماء لا نجاة منه.

17

لذّ لكَ الغياب
كأنك في جبّ الأساطير
نفي أنت أم في المنفى؟

بحر مبذول لديباجك المغادر. تتغضّن أطرافك بفعل البرد والنوّ. تنبت الطحالب خلسةً على عظامك الناشزة. تتماهى الحراشف في ثنايا الأصابع والآباط والأوداج وزغب المصادفات. تتناوش أسماك القرش جسمك الرهيف حتى تصير صديقة لك وتحميك من حيوانات الأعماق.
وكلما وضعت خاصرتك المنهوكة على شاطئ، باحثاً عن كوخ وشمس وكسرة خبز، لدغتك السواحل. في ليل النأي لا يعرفك المكان وليس لقدمك درب سالك. عندما تتنكر في هيئة كروان وجلباب يحمور، وتسأل عن دفء مؤقت، يكتشفك الرماة ويتبارون لتتويج من يتقن الرمي.
ما من طينة للهجعة، لا وسادة للغريب.

يلذّ لك وأنت في فيزياء الجهات، في غيبوبة السفر.
يغيّبك الماء في الرمل، والرمل في شقوق مثل أشداق المساءلات:

من أين جئت إلى أين حيث لا مكان لك سعة فيه
ولا يحتمل عبئك حيزاً
في خرقة الجغرافيا.

تضرب في نحاس الخرائط ذات الأجراس.
قمصانك مختومة بثلج شرس.
يد على الجوع ويد تسند رأساً مثقلة بإرثٍ رثٍّ.
تذكر؟ تتذكر. تطلق خيول المخيّلة لتمتد مثل برزخ بين المكان والوقت.

قالت لي:
أيها الطفل الذي ولدته. كان البيت الذي تخلّقت فيه وسكنته تسعةً هو المكان الأخير، ثم لا شيء. أيها الطفل. كأن الفجوة التي الآن أسمع أنين حجارتها، لن يطيب لك قرار فيها ولا سكن. ماذا أفعل لك. ها أنت غريب في مرابط الأغراب. وضعوا جباهم على جدار يذرف أكثر المياه خديعة وخبثاً. جدار تملّست صخوره لفرط ما تزاحموا على تصديق الوهم فيه. حتى إذا صحونا لكي نعلّق على تلك الصخور أسماءنا الأولى التي ندّخر ونباهي، انزلقت أعضاؤنا وصار للغة شكل السنانير. ماذا أفعل لك أيها الطفل الذي ولدته. ها أنت وحيد يتناوب عليك الأغراب ويتبادلون معك المكان والوقت. أرى إلى مهدك يصير مهوى الحافر والخفّ. وأطوي أيامك في حضانة دمي لعلك تتبرعم بلا شائبة.

قالوا لي:
كنا نراك. في قدميك الذعر وهما تقولان رعشتهما الأولى للزقاق. كان عليها أن تقفز إلى الركض مثل وحش الواحات. كنا نرقب لك الشكل ونستدرج المعنى. وما إن وضعت عناصرك خارج النص حتى أخذك الهباء بطقوسه وتضاريسه. بمغازلنا نسجنا لقدميك الوحيدتين أكياس الصوف لتصد عنك صلافة الثلج. نحن من يحوك الحنطة، نحزم المدينة بالقرى الحنونة ونرأف بالمخلوقات الفارّة. لأصابعنا موهبة الكيمياء. نقيس حناجرنا بصوتك. وكنا نراك، كلما وضعت قدمك في حانة لكي تطلق لطفولتك حرية اللهو، نبتت تحتها عوسجة مسنونة. كلما تقمصت بهجة المناسبة، اجتاحك القنوط لهول حيطان تتناسل مثل السراطين. أظافرنا في النول ونراك، تهجهج في فضاء ضيق تهوي سماء الكلام على أرض قيل إنها لك. وكنا نراك. نمنح جسدك الضئيل صوفه أيامنا، ونصبّرك بهدايا موهومة لئلا تيأس سريعاً، لئلا تأمن لخديعة تظنها الخلاص. وكنا نراك، تطوقك براثن الهجير كأنها الأذرع الرؤوم. تقول لك، بلثغتها الضحوك، ذخائر المستقبل فصلاً بعد فصل. تسمع إليها فينتابك ما يصيب الأطفال عندما تصعقهم رؤية الجثام في النوم. يوم جئتنا حاملاً عباءة أمك لنرفوها، بهرتنا الفتنة المنبعثة من أردان تلك العباءة. أجلسناك في أحضاننا نلاعبك بالخيط والمغزل. وعندما سألناك فهمنا أن من ولدتك قد أنهت حكاياتها في ألفٍ من الأيام والليالي، وراحت تجمع أشياءها الحميمة وتصلح الحاجيات لئلا تصاب بالبلى، وتتبادل مع ظلال الأشياء حديثاً مشحوناً بشجن خفي، وصارت تمضي معظم وقتها في ملامسة الجدران والأواني، وتداعب تعرّجات الأثاث الذي ازدان به ألف من الأيام والليالي. تسهر طويلاً في بهو الحديقة المكشوفة الشجيرات، تنكش التربة تحت الشتائل، وتقوّم ما أعوجّ من سيقان النارنج، وتدفق ماءً رهيفاً تحت الخضرة الشاحبة. ترفع رأسها نحو البخار المتثاقل ربما لتسأله أن يغسل وحشة نباتاتها قبل موسم اللون. وعندما يأخذ منها التعب، تنظر إليك كأنها تبحث فيك عن شيء مفقود، وشيء عرضة للفقد. فتناديك فيما تتجه إلى المطبخ. تضع أكبر الأواني على الأرضية، وتسكب ماءً شفيفاً يكفي لأن تشعر به مثل ريش يدغدغ حجابك الحاجز. وتبدأ في دعك جسدك الفتيّ مفتونة بلمعانه وبتوهجاته. كانت كمن يهيئ جسداً لعرس. نصغي إليك، نفهم منك، فيما تختلج كلماتك في فمك المفترّ عن شقرةٍ في اللغة، فيما تتذكر الكلمات اللائقة، فيما تتخبط أصابعك في الشراك التي تبتكرها الخيوط الماجنة وهي تهتاج في مغازلنا. نراك ويأخذنا الذهول بينما تغادرنا متأبطاً العباءة ذات الأردان الموغلة في اللذّة. تبتعد عن مراصدنا لتحْدق بك المحاجر وتتخطفك أقواس المنعطفات. وكلما ابتعدت صرت مزيجاً من الفراشات وغيمة الدقيق ورائحة الفراديس.

قالت لي:
أنت ذريعة الظلال التي تجهش محتضنة بكاءك كلما ركضت إليّ متفادياً الصخب الصادر عن سكنة الهيكل وهم يوبخونك حيناً ويعصفون بك حيناً لأنك وهبت قميصك الجديد لصديق وجدته أكثر عرياً منك. لا يفهمون، فترتاب في ملكيتك، تركض إليّ في احتقان الوجه ورعب الساقين. تسند ظلك المرتعش إلى صدري فألمس قلبك الواجف مثل قطرة طلّ، وعندما تهدأ تطلق تنهيدة عميقة تليق برجل لكي أعرف أنك تمالكت جأشك معلناً جرسك الخرافي كمن يقول تحية متأخرة، آه يا زيتونتي، لن يفهمني أحد. فأفهم أنك ستذهب إلى غيّك، تضيع عنهم وتضلّل كل من سيبحث عنك. وعندما تغادر ستفقد الظلال كل الذرائع لاحتضان جسد مثلك، وسيعبر تحت هذه الأغصان سرب من الكراكي المخبولة. وما إن يوشك مَنْ ينسى على النسيان، حتى تتصاعد من اسمك المحفور في الخشب القديم كوكبة من الملائك الخائفة. وربما لن تعرف نوماً آمناً بعد ذلك. ففي مستقبل المكان والوقت تصاب بذاكرة الفريسة. كلما صادفت زيتونة ستقع تحت وطأة هيمنة الخشب القديم والعري البدئي للروح.

قلن لي:
هتكتَ أسرارنا الحصينة، فقد كنت تعرف عشاقنا واحداً واحداً، وترشّ أهدابنا بالدمع كلما وضعت وردتك الذابلة على شفا أجسادنا. ما إن نشهق إليها لننعشها بشهوتنا المكبوتة، حتى تجلجل ضحكتك مثل جرس عابث وأنت تبتعد ناحية المنعطف المؤدي إلى الجنة الجانحة، لنعرف أنك تفضح رغباتنا في انتخاب هدية تليق بعشيق ماثل. نغتاظ لفتوتك المبكرة، فالأطفال لا يفعلون ذلك إذا كانوا من مبعوثي حوريات القطن. نغتاظ ونتوعّدك وسرعان ما نذعن لعبثك ونعتقد ببراءته. أنت أنت الوحيد المؤهل لأن تصير وسيطاً جميلاً نتبادل به كتابة العشق. عشاق تعرفهم واحداً واحداً، فنذهب لنخترع الأعذار أمام أمك من أجل السماح لك بالخروج معنا في نزهة اللبلاب مثل فارس يحمي كتيبة من الراهبات الشبقات. نلهو بفتوتك، نداعبك بكل هزّة عصب فينا، وكل منا ترى فيك صورة المعشوق النائي. كنت توأم العاشق، وكنا نتبادلك مثل سنجاب شقي. أما الآن فقد اختلج المعشوق النائي. كنت توأم العاشق، وكنا نتبادلك مثل سنجاب شقي. أما الآن فقد اختلج كيانك الباهر الذي تمرّغنا في رضابه. لقد غدرت بأجمل أوهامنا. في الرسائل الأخيرة التي حملتها إلينا، رأينا عشاقنا في أفق الهباء يلوّحون لنا مودّعين وعلى أطراف أصابعهم يتوهج عنف الغياب.

قال لي:
لعينيك بريق يخطف الروح وجسدك الصغير تضيق به الأقاصي. كأنك كتاب مفتوح أمامي، أقلّبك ورقة ورقة وأقرأ. فويلٌ لك إن صدقّت وتهاونت وهادنت ومالأت وماريت وكاشفت وحاورت وأرخيت وسايست وسلّمت وغادرت..
وويلٌ لك إن مُتَّ.

18

ما الذي نصادفه في ليل الأغوار؟
نحن الذين تركنا داراً لنا في ملتقى الأطياب
دافئة مثل إبط النسر
استنشقنا في غوطة البيلسان رذاذ الشراك.. حموضة الاغتصاب
ونجونا من زهو المراصد المسلحة لتغيثنا نزوة العشيرة المجرمة
وكنا تميمة الفقراء، شغف الحواجز، غبطة الحرام
كنا نخبة من أمراء النهار
لا. لا أحد يسهر في مصير شامخ مثلنا
لكن
ما الذي يمكن أن نصادفه في شجرة الأغوار،

غير نشارة الثلج التي يرشّ بها الله كرته الثلجية، وذلك الكوخ الذاهل، المشجّر بزانيات طيّبات ومعمّرين لهم رائحة الضجر، الراكض في مهب الإعصار بحثاً عن تخوم صديقةٍ لا ترجم القابلات بالحقد والتشهير. وذلك القميص الراعش، المنسوج من ألياف بلدة رائبة يتقاذفها فرسان متجهمون لهم مذاق التوت، الهائم في حلم رجل عاص التجأ إلى قلعة حلمه ولم يخرج بعد. وذلك المسافر السرمدي، المرقّش بالطلْع ولدغات الخفافيش، الحامل في جيبه حفنة من وطن غامض يمتدح مقابره ليلاً وينتحب ـ ليلاً أيضاً ـ في ظل الطاحونة المخبولة.

غير خنازير برية شبقة تتناسل من رمّانة مشدوخة يتناثر خيرها القرمزي فتزداد الفصيلة وتنمو. ينمو الناب المثلّم. ينمو الافتراس. وتحتشد مثل جيش من البرابرة عند ممرات المزرعة الوثنية التي تدحرج ـ آنذاك ـ أرتال البطيخ من فوق المنحدرات لتدهس القرى الزائفة، الطريّة كوجه غيمة، وتهشّم جرار الشعائر. كل هذا التوحش، كل هذه الوشاية، من أجل فتى باسم يتدلى من فوق منكبيه نثار العُلّيق ورماد الحانات، ويمشي ـ في سهل غير مطروق ـ مع موته الفتيّ، متشابكي الأيدي، مثل توأمين لم يلتقيا منذ عهد بعيد، وها هما الآن يستحضران ذكريات مرنة ويتحدثان همساً.

غير كتائب الأسماك الانتحارية التي يقودها فرس البحر القانط، الخائن لميثاق الصحبة، الرافع شوائبه مثل صولجان، والذي يطمس بقوائمه آثار البشر المدهونة على سبائب الموج كي يبلبل الأهداف. وعندما لا تجد الأسماك، المأخوذة بالانتحار، موقعاً ثميناً تنسفه بحراشفها الملغومة، تتجه فوراً إلى الركائز الخشبية للمرفأ القريب، المهجور حتى من قِبل مهرّبي الشاي، وتضرب برؤوسها المدبّبة المسامير الناتئة حتى تتفتت أدمغتها، حينئذٍ تسمع الشطآن الهتاف المخيف لكتيبة أخرى، مأخوذة بالانتحار، تطوّق العالم بحزام كبريتي وتبدأ العدّ التنازلي.

غير براميل القمامة الهائلة عامرةً بنياشين جنرالات لم تزل متشبثة ببراثن الحكم وأردية الحكمة، متهيئة للوثب على صهوات المؤامرات الجديدة، فيما ينتفض الجسد الغضّ تحت وطأة الجماع الفاحش.

غير جنس الصيارفة وهم يرأفون بكسرة الخبز
لئلا تكسرها شفة يابسة
غير القتل الأقل رحمة من الموت
غير تشعبات الطرق اللانهائية دون أن يتاح للقدم
معرفة سر الحركة
غير الغيلان والسعالي وبنات البراكين
ما الذي يمكن أن نصادفه في جحيم الأغوار
غير كل هذا.. وأكثر.

19

لماذا دخلنا هذا النفق الجهنمي.

ليس ثمة ضوء،
لا همس ولا محادثة
الأسطورة تنام هنا.

طوينا الأسلحة كالعباءات،
بعد مسافات من التمائم
خضنا أشداق الوهم
كمن أسكرتهم شهوة النهايات.
كان رحيلنا فاحشاً.

العاصمة الخامسة

من فوهة الكهف يخرج الرماد مخفوراً بالدخان محفوفاً بعصف الأحجار.
عصف مزلزل لكن مهيب تخشع له معادن الأرض ومنابر الآبار، تخضع له كائنات استوحشت، وكل منحوتات الريح في هذا الموقع الأجرد تصيخ برهبة لهدير في طور التكوّن ينشد الانعتاق.

هناك، في الداخل، في قعر الكهف تتشكّل عناصر الخرافة الآسرة. أروقة مبلّلة يذهب لم يمسّه مغامر أو قرصان، أروقة تقوّست من فرط الوحشة والانتظار، ها هي تفتّت شذرات من هيكلها العاجيّ انتشاء بهذه اللحظة البهيجة: فبعد قليل ستشهد البعث الجليل، بعث الكائن الجميل الذي ظل زمناً بين أغشية النسيان.

"مهلاً، مهلاً، لا تسرعي يا ذرّات لئلا يفقد الرماد بعضاً من زغبه، أحيطي به مثلما تفعل الأمهات البشريات ووفّري له الحماية. وأنت يا فلزات، احذري من الهواء المتهور لئلا يخطف شيئاً من بهائه."

هناك، في الداخل، متخمة الأطراف بنداءات الخلق:
صيحات بدائية لا توصف، هتافات جهورية لا تحصى، عواء وعويل، فرح صاخب، حجرٌ يهدل حديدٌ يصهل. وما من مخلوق بقادر على تمييز هذا التداخل غير الذي تآلفت روحه مع روح الأحجار وامتزجت أنفاسه بأنفاس الأسطورة.

يفتح الكهف كفه ليمشي بين ممراته الرماد المزهو بولادته وعرسه في آن، يصاحبه الدخان الفارد أبواقه ويجاوره العصف الذي يعلن جهاراً فرادة الحدث.

مأخوذةً، أرسلت السماء رسُلها: لبوءات مجنّحة تحمل الهدايا، نساء سماويات داخل مركبات من صنع الكواكب ينثرن قرنفلات الشمس، أقمار بشوشة تحملها غيوم حبلى بنبيذ الفردوس، وفي محفات أبنوسية مزدانة بالعقيق يمكن مشاهدة البروج التوائم وهي تطلسم طوالع المنجمين كي لا يعرف الإنس مجاهل الرحلة.

التربة أيضاً أوفدت سفراءها أسراباً أسراباً: زواحف تحمل سبائك الفُطر، جداول مرشوشة بالنعناع والزيزفون تقودها حيوانات مضيئة من مختلف الفصائل، أشجار متبرّجة فوق أفنانها تشرئب الطيور البرمائية، وفي مؤخرة الموكب تعدو بنات عِرْس رافعة فراء السمامير كالبيارق.

حتى البحر المكابر بعث بوصيفاته، المتوّجات بعاج من اللازورد والمضمخات بعبير الموج، ليمجّدن الكائن الجميل وليهزجن بأناشيد سيدها البحر الذي بدأ ـ في تلك اللحظة ـ يأوي إلى برجه المنمنم بالأسماك الصغيرة متطلعاً بانبهار ناحية الصخور المرجانية المترامية عند شواطئه حيث سيبدأ الخلق.

الجميع جاء يحتفي
والجميع يهفو إلى المصاهرة.

انتصبت الأعمدة البرونزية حول الموقع الذي لم يطأه مغامر أو قرصان، وفي الأرجاء احتشدت الكائنات تنظر وتنتظر مخبئة قشعريرتها بين المقل. إنها تمد أبصارها في لهفة وفضول نحو الكهف والذي ينبعث منه الرماد الوابل متكوماً على الصخرة الهائلة. يتكاثر الرماد، يعلو حتى يكاد يخترق حجاب الفضاء. والأبصار ترتفع مع هذا النمو والتضخم الخارقين.

فجأة، ينطلق نفير صاخب، فتبدأ الهضاب المجاورة بقرع أجراسها الجامحة، ويهتز الموقع. عندئذ يجفل الحشد المتحلّق ويرتد قليلاً إلى الوراء، غير أنه لا يغادر المكان. فما حدث أمامهم قد خلب اللبّ وشلّ الأطراف، ولم يأبهوا للزلزلة والعصف.. إنهم الآن يشهدون النهوض العظيم، التحوّل الساحر.

من الرماد يتطاير شرر يرصّع الموقع بضوء مشعّ، ضوء حريري ينسج هيكلاً جباراً لكائن جميل يتشكل شيئاً فشيئاً. يتسربل بريش غزير لاهب مبقّع بشعل الشمس، وينقش في مقدمة رأسه الكبير منقاراً مقوّساً حاداً كسيف البرق، وعينين مستديرتين تخترقان المدى فتغور في البؤبؤ كل الشواطئ والحقول والمدن.

أخيراً، أخيراً ينبجس من جنبيه الجناحان: سرّ قوته، سرّ عظمته، جناحان مغسولان بالجرأة والهتك، يفردهما في شموخ وهو يدير بصره الثاقب هنا وهناك، متطلعاً في أنفة وكبرياء إلى الحشد الذي يهتف مبهوراً:
"ما أبهاه، ما أجمله"

أنفاسه رياح فسفورية تلهب البقاع. خفقات جناحيه حكايات خرافية تتناسل في دهاليز القرون دون أن يكتشفها أحد.
يطلق الدويّ الفريد الذي به تكتمل الولادة، وفيه تدّخر الطبيعة خصوبة العناصر.

ويحلّق طاوياً تحت الريش سنوات حافلة بالتناسخات، مثقلة بالهجرة، وفي الرئة غبار المطاردة وطعنات الآلهة. يعبر المدائن والأنقاض والسهول والجسور والأبراج والمنارات. يعلو ويهبط، ملك عرشه الفضاء، صولجانه ذاكرة تحوم.. تسترجع جذور الأمس، تستقبل أبناء الريح الثرثارة.
يمد بسعة الأفق جناحيه. يتلفت حواليه. يحزم المرئيات جهةً جهةً ويكسوها بالومض الساطع.

لا يفشي سره لأحد
لا يفصح عن مساره لأحد
يهيم
مائدته المحيط
سريره أشكال الحجارة.

أنجز هذا النص في 1989

أقرأ أيضاً: