تقديم:
نجهل الكثير عن الشعر الإسكندنافي، ونكاد نقف فقط عند أعلام مشهورين مثل المسرحي هنريك إبسن وحالياً الشاعر السويدي توماس ترانسترومر، وما عدا ذلك يبدو حضوره بالعربية شبه معدوم. وحتى على المستوى الأوروبي يكاد لا يحظى بالاهتمام الذي يستحقّه برغم الجوار والانتماء. وبالإضافة إلى عامل اللغة، فإنّ الشعر الإسكندنافي رغم التواريخ المشتركة والأصول الموحدة (قبائل الفايكنغ) هو متعدد الأشكال والملامح إلى حدّ التعقيد، فإذا كانت بلدان السويد والنروج والدنمارك متجانسة إلى حدّ ما لتقارب لغاتها والسهولة النسبية للانتقال من الواحدة إلى الأخرى، فإنّ الفنلندية والآيسلندية تبدوان متباعدتين جدّاً. ما يعزّز القول بأن مفهوم الشعر الإسكندنافي هو ذو صبغة جغرافية أكثر من أيّ شيء آخر. من هذا المنطلق نقدّم تجارب شعرية لعلّها تمثّل الروح الإسكندنافية مع الإحساس القوي بأنّنا في ضيافة شعراء حفدة الفايكنغ.
Knut Odegard: "الأشياء تأخذ شكلها المعروف"
شاعر نروجي ولد سنة 1945 درس الفلسفة والإلهيات في جامعة لأسلو، مترجم وناقد ورئيس المهرجان الأدبي النروجي الدولي، من أهم أعماله: "يهوذا الأسخريوطي وقصائد أخرى"
موجودون نحن.
موجودون نحن.
جدّي يدير هذه الضيعة
لأكثر من تسعين سنة،
بعدها لفّ حبل تجفيف الكلأ
ودخل عبر البوابة الشاحبة.
في هذا المساء كان أبي بجوار الطواحين،
متكئاً على المذراة
لوهلة
قبل أن يستأنف إيقاعه المنتظم.
الأمر الآن، يتعلّق بالإفادة من بقايا
ضوء النهار.
موجودون نحن.
إنّه زمن حصاد الكلأ، أطيب فترة
نبدأ في الصباح، نستفيق
عندما يتدفق الضوء الرمادي من خلال الكوة الصغيرة
وعندما
الأشياء على مهل، تأخذ شكلها المعروف.
لو كنتِ بالقرب منّي...
لو كنتِ بالقرب منّي الآن
بمقدوري ربّما، أن أبكي
عزلتي
في حضنكِ
كما تتصدّع زخّات المطر
في البحر.
... بمقدوري ربّما، أن أحضنكِ بين ذراعيّ
كما تعانق الشجرة
عبء المساء
... أبمقدوري ربّما، أن أهبكِ
نجومي، غاباتي
وبحري؟
لكنّكِ رحلت بعيداً...
والعاصفة
مسحت آثارك على الثلج.
STEINN STEINARR: "في حلم كلّ إنسان تختبئ هاويته"
شاعر آيسلندي اسمه الحقيقي Aðalsteinn Kristmundsson ولد سنة 1908 من أهمّ شعراء بلاده، يعدّ مرجعاً أساسياً في الشعر الآيسلاندي هو من أصول قروية. غادر مقاعد الدرس مبكّراً، اشتغل في مهن شاقة عاملاً وصياداً برغم يده اليسرى المشلولة. اكتشف موهبته الشعرية بحسب ما ذكره هو نفسه لمّا اشتغل حارساً لفنار ما دفعه إلى إرسال قصائده إلى مجلة Lögrétta والتحاقه بالحزب الشيوعي. لكن زيارته إلى الاتحاد السوفياتي سنة 1956 وعودته منه دفعتاه إلى الانفصال عنه والتعبير عن كرهه الشديد بتسميته "النظام الاجتماعي الفاشي" يعتبر ديوانه "الزمن والماء" سنة 1948 حدثاً شعرياً في إيسلندا تناولته أقلام النقاد بالاحتفاء والإشادة بوقعه الجديد والمختلف، وصفه الناقد الإيسلندي Jón Óskar: "في الوقت والماء، نحن لسنا في حاجة إلى التعاطف مع أنفسنا ولا مع الآخرين، ليس ثمّة أيّ وصف، أو حتّى إيهام بالوصف. إنّه ديوان لا يبكي أو يضحك، لا يظهر الفرح أو الأسى بل الجمال كما لم يسبق لك معرفته من قبل". لقد أقام Steinarr عالماً شعرياً أساسه الرؤية العدمية مع البساطة في التعبير والاستعارة الخاطفة على طريقة شعراء الهايكو، تتنازعه مشاعر الفشل واليأس والامتلاء بالفراغ كما لو كان عابراً في ليل إيسلندي مدلهم.. لم يكن Steinarr سعيداً بالمجد وحياة الرفاه النسبي في المرحلة الأخيرة من حياته، إذ سرعان ما عاجله مرض السرطان الذي لم يمهله كثيراً فتوفي سنة 1958.
من أعماله: "حمراء تحترق الشعلة" (1934) "آثار على الرمل" (1940) "سفر دون وعد" (1942)، "الزمن والماء" (1948)
الطريق المرصوف
تحت مئات الدوابر المصفّحة بالحديد
حلمت بكِ أنتِ
التي تمشين ذات مساء خريفيّ
بألم صامت
بخطو خفيف مثل الدبيب
عبر الدرب المعتم
بخطو خفيف مثل الدبيب عبر الطريق الأبعد
عارفة أنّي أحبكِ.
ثمّة وجه ينظر
في وعيك ثمة وجه ينظر
وجه لا أحد يراه، وينبغي ألّا يعثر على أي مكان
نظرته هي الحلم المظلم والملتهب
الذي يتخفّى تحت ظلال مشاعرك.
لا يخطئ طريقه، وفائق العناية بنفسه،
يطمر نفسه في الظل الحميم والعميق.
ويروح متخفياً، هذا الوجه
عبر الخبايا الأكثر صمتاً في روحك.
ولا شيء أكثر خفاءً في عمق الأرض،
ستمكث طويلاً وعن بعد، ضعيفاً ومستضعفاً
ملتمسك لا جدوى منه،
فهذا الوجه الذي هو أنت، لم يعد موجوداً.
Vilhelm Ekelund
(1880-1949): "الذاكرة لا تقرأ رسائل الآخرين"
شاعر سويدي عاش حياة مضطربة، غادر بلاده إلى ألمانيا والدنمارك، عرف شهرة كبيرة في السويد باعتباره من الشعراء المجددين، لكنه سرعان ما تخلى عن الشعر واكتفى بكتابة شذرات متفرقة. تأثر بنيتشيه وهولدرلين، موضوعاته المفضلة تدور حول ضياع الإنسان وافتقاده لمعنى الوجود في فترة شهدت فيها السويد تحولات كبرى مع اتساع حياة المدينة وتغير العلاقات الإنسانية، من نصوصه وشذراته:
لا أغنّي من أجل أحد.
لا أغنّي من أجل أحد
بل من أجل الريح التي راحت
ومن أجل المطر المنخرط في البكاء:
أغنيتي هي مثل النسيم
وهمسة تعبر
في الليل البهيم للخريف
تناجي الأرض
والليل، والمطر.
شذرات:
* "لا نتذكر حقاً إلّا ما كان مقدراً لنا، فالذاكرة لا تقرأ رسائل الآخرين".
* "يمكن للكراهية أن تكون نافذة البصيرة، لكن ليس بالمعنى الأوسع. الحب وحده من يملك أفقاً"
* "العزلة فن"
* "هل ينبغي للمرء أن يخون مثاله الأعلى، متى أدرك أنه ليس بالإمكان معايشته".
* "أولئك الذين يتحدثون بازدراء عن الفلسفة والحياة في غرفة، ليس لديهم أي حسّ بما تعنيه الجرأة والمخاطرة"
*"مبدأ الرهبان هو الانسحاب والتواري عن العالم من أجل التحكم فيه، وهو في كثير من الأحيان مبدأ الجنّ والعفاريت".
Benny Andersen: "هل لدينا علم بما تعنيه الرؤية؟"
شاعر دنماركي ولد سنة 1929 في كوبنهاغن من عائلة عمالية، اضطر إلى العمل مبكراً واللجوء إلى الدروس الليلية. حاز شهرة كبيرة بفضل ديوانه الأوّل "L’anguille musicale سنة 1960". تميزت كتاباته الشعرية والقصصية بروح الدعابة والسخرية في شخص رجل عادي يكاد يفقد ثقته بنفسه، مع رؤية عميقة للأشياء وللوجود، كما هو الحال في قصيدته التالية:
بصّاص
أن نرى!!
وهل لدينا علم، حقيقة، بما يعنيه
أن نرى الأشجار، والطيور، والوجوه في الشارع
وفي القطارات؟
أهذه هي الرؤية
حينما يتّخذ الجميع الوضع المناسب
من أجل الصورة؟
بيد أنّ الرؤية
هي أن تترصّد موضوعك
دون أن يشكّ بشيء.
هأنذا، جاثْ على ركبتيّ أمام فتحة القفل
وأرى:
سيّدة الطابق الرابع تتوقّف
من أجل أن تتنفّس الصعداء.
من غيري أنا
يراها تقرّ بسمنتها؟
وساعي البريد يحكّ مؤخرته على بابي
شاباً قلقاً
ودون أن يتوقّف يمسح بلا جدوى
يديه بكميه.
والمبتهج بالعيد، بالنظرة الثابتة
يضع يده على قلبه.
والمتسوّل الذي يهزأ
نازلاً عبر السلالم.
والسيّد الثمل وهو يتهاوى
المثير للشفقة، وهو يحاول النهوض.
إنّي أرى
أرى للمرّة الأولى
جاثيا ًعلى ركبتيّ أمام محرابي الصغير
من خلال فتحة قفلي حيث تعبر
النسمة الباردة للحقيقة.
أخيراً أتنفّس
أخيراً أرى بحقّ الآن
بأنّه لا أحد
يراني.
P. MUSTAPÄÄ
(1899-1973): "لا أحد يعزيني"
شاعر فنلندي اسمه الحقيقي Martti Haavio. اهتمّ بالتراث الشعبي ويعدّ متخصصاً في الفولكور الفنلندي، وتبرز في قصيدته التالية قدرته على توظيف الحكي الشعبي انطلاقاً من ذاكرة سارد يعود إلى طفولته ويتذكّر الخادمة بريجيت ذات العين الزجاجية والدميمة والتي تقدم على الانتحار بسبب زميلها الخادم الذي كان يتلاعب بعواطفها، والقصيدة تستعيد ذكراها بكلّ ما في ذلك من جمال وألم.
عين من زجاج.
كانت دميمة، وتنظر
إليّ بعين وحيدة
مكان الأخرى، التي كان المحيا كلّه
يشي بحضورها.
ولم تكن ثمّة سوى هذه الكريّة الزرقاء والفظيعة
التي ما زلت أراها
عندما على رمل قبرها، يا ما نسيناه
كتبت اسمها:
بريجيت.
مع ذلك كانت طيّبة، وبيدٍ حنون
كانت ترشدني.
دائماً كانت تلهو، وتعزّيني
عندما كنت أبكي.
في ظلام البحيرة غابت ذات مساء.
يدها المبتلّة، ما زلت أراها
عندما على رمل قبرها، يا ما نسيناه
كتبت اسمها:
بريجيت.
في الصباح، عثروا عليها غريقة.
الشمس الذهبية سعيدة تلهو فوق الجسر.
كلّ ذلك رأيته.
(فيما بعد حين صرت راشداً، أخبروني
أنّها كانت تحبّ خادمنا الذي كان يستخفّ بها)
لا أحد أتى ليعزّيني، ما زلت أتذكّر
عندما كتبت على رمل قبرها، يا ما نسيناه
كتبت اسمها:
بريجيت،
بريجيت.
السفير-21-10-2016 12:08 AM