(ثلاث أغانٍ إلى يانيس ريتسوس)
كانت حياة الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس (1909-1990) سلسلة من المرض والفقر والكوارث العائلية. فقد توفي أكبر أشقائه وأمه بمرض السل وهو في الثانية عشرة، ليغرق والده في حال من الجنون في قرية مونيمفاسيا البحرية حيث ولد يانيس، مما اضطر الطفل إلى العمل في مهنٍ يدوية عدة تحت وطأة الحاجة، إلى أن أصيب هو الآخر بالمرض في الثانية والعشرين.
تُعدّ أغلب قصائده انعكاساً للأحداث الدامية خلال النصف الأول من القرن العشرين، عندما كانت اليونان تمر باحتجاحات واضطرابات كبيرة بسبب الانهيار الاقتصادي والحربين العالميتين والنظام العسكري الموالي للنازية. ففي أيار 1934 كتب قصيدة طويلة، "أبيتافيوس"، إثر مقتل ثلاثين من عمال التبغ في مدينة تسالونيك خلال تظاهرة ضد نظام الحكم، وقد صادر النظام تلك القصيدة الطويلة وأحرقها أمام أعمدة معبد زوس، وفي عام 1967 سجن بسبب معارضته الانقلاب العسكري، وتنقل بين معسكرات عدة للاعتقال كان أحدها في جزيرة ليروس اليونانية، واستمرت معاناة ريتسوس واضطهاده حتى زوال الانقلاب وانتخاب حكومة الوحدة الوطنية عام 1974.
كان لا بد من التقديم الموجز السابق لعلاقته المباشرة بالقصائد المترجمة، لكن لا يعنينا هنا إيراد سيرة ذاتية لهذا الشاعر العابر للقارات، بل لغة ريتسوس الشعرية وكيف التقط الشاعر برونو دوسي ثيمات هذه اللغة فكتب بطريقة غير مألوفة في الشعر الفرنسي.
يحضر ريتسوس بشكل قوي في الشعر العربي مذ ترجم الشاعر سعدي يوسف مختارات من شعره عام 1979 تحت عنوان "إيماءات"، وكان لقصائده اليومية والإيروتيكية تأثير واضح في التجربة الشعرية العربية الحديثة، أما سبب هذا التأثير فالحسية والغنائية العالية التي اتسمت بها لغته، والتي تُعد من ركائز الشعر العربي أيضاً، أي أن قصائد ريتسوس وحتى نثرياته وشذراته مرتبطة بالذاكرة الجمعية للشعراء العرب، ولا سيما قصيدته الأشهر "سوناتا ضوء القمر" التي تطفح بغنائيتها وصورها الدرامية.
تلك الغنائية الفريدة غريبة عن الشعر الفرنسي الجديد، فالنقاد يؤرخون لانتهاء زمنها برحيل الشاعر لويس أراغون، لكن استلهام شاعر كريتسوس دفع برونو دوسي إلى غواية هذه الغنائية كما سنلاحظ في القصائد، ولا سيما في ما يتعلق بتكرار الكلمات والعبارات، الأمر الذي لا يحبذه الفرنسيون في لغتهم اليومية فضلاً عن الشعر، مما يُعدّ مغامرة قام بها الشاعر، لكن عنايته بالحذف اللغوي والتكثيف وبعض السرد وخصوصاً في قصيدة "تسالونيك"، يجعلها مستساغة لدى القارئ الفرنسي، كما يجعل ترجمتها غير غريبة عن القصيدة العربية.
برونو دوسي من مواليد 1961 في الجورا في الشمال الفرنسي، ترتبط تجربته الكتابية بالقضايا الكبرى والترحال، صدرت له روايات منها "فيكتور جارا ليس ديكتاتوراً" عام 2010، و"عبارات" عن الصحراء الجزائرية والطوارق، بالإضافة إلى الأنطولوجيات والدراسات حول الشعر مذ عمل كناشر في دار "سيغيرس"، ومن ثمّ أسس داراً للنشر باسمه، خاصة بالإصدارات الشعرية تلك التي تساهم بمزيد من التعايش بين مختلف الثقافات في فرنسا، أما القصائد المترجمة أدناه فقد نُشرت في ديوانه "إذا كان ثمة بلد" الصادر عام 2013 عن هذه الدار.
مونيمفاسيا 1909
يانيس
حين أكلمكَ يا يانيس
بلغتي النارية أكلِّم ريتسوس
الوقتُ الذي كنا حلماً له
كلما رماني على ضفتك
تدلى
فانكمشت ظلالُ الحصى
أنا أمامكَ
وفي الطريق إليك
أرتدي كلماتي
كغريقٍ يرتدي عريَه
أراقب اقتراب سفينة الطفولة
تحت أشرعتها الشاهقة مواسمُ البحر
مونيمفاسيا، هناك حيث لا سوني، جنوب بيلوبّونيس
حنجرةٌ هائلةٌ قلعةُ مولدك
هناك كان أبوكَ
وأبو أبيكَ
يُرضعانَ حرَّاثَ الآفاقِ تلك الحجارة الخالدة
يا أخا أول أيار:
هل تعلم أن الشعراء الحالمين بالولادة
هم زيارة أيار
لبيتٍ في قريةٍ
مبنيةٍ على شبه جزيرةٍ صغيرة؟
لكنكَ أنت!
الحياة: بغتةٌ موزونة
بطريركٌ مغتال على أراضيه
مغلاقٌ يتقافز
باعةٌ يهلوسون
لكنكَ أنت!
الأخُ مات
الأمُّ ماتت
أبوكَ صار ناراً
والخراب يهدّ حتى أسبابَ الحياة
ثمةَ بيتٌ ميتٌ مهيأ لعبور ظلال الليل
ثمة خلاصٌ في الكلمات التي تحضن القرابين على شفاهك
يانيس الذي يرقص
يانيس الذي يرقّص ريتسوس
خطوتان في الهاوية
وذراعان ممدودتان حتى النجوم.
تسالونيك
العمالُ
ومنتجاتُ التبغ
موكبٌ في المدينة
قضبانُ الاستبداد
على أعناق الحمام
مشطٌ فولاذي
أمٌّ
في منتصف الشارع
تبكي ابنها الساقط في المعركة
بعدَ يوم، أيها الشاعر، ستكتشف في الجريدة صورةَ الأم
منحنيةً على جثة ابنها
دموعها تحرقك
صرختها، صرختها اللابشرية
تنحت شكل الابن والأب والأخ والعاشق والرجل الذي بك
ستلتفّ كلماتكَ حول خدَّيها
كلماتُكَ اليوميَّة
في أحدِ الحدادِ على قبر الملائكة
أيةُ رقةٍ
أيُّ لطفٍ
ذلك الابنُ الذي تفقده جميع الأمهات؟
الابن الذي ارتدى الموتَ في أيار
كم يحبّه الربيع!
في المعبد
أمام الأعمدة
كتابكَ يحترق!
ليروس
رجلٌ
كلما قلنا إنه مات
يرفع النورُ أكفَّهُ فوق أكتافكم
جزيرةٌ
كلما قلنا بديعة
انتشر الشجنُ في الظلال
رجلٌ، جزيرة
قمرٌ يشبه الكتابة
كان ينزل كل ليلةٍ إلى النهر
أغنيتهُ حبٌّ في الحرب
أحزانه: عمَّال
رعبُهُ تزوّجَ آثارَ خطاه على الرمال
الرغبةُ بالحياة
خيطٌ سماويّ
في حصيرة النجوم
السجينُ الذي يرتجّ في سخم دخانِ همومِك
بهلوانٌ منبوذ
تحاول أحلامه أن تتوازن فوق خيطٍ مشدود
لأجلِكَ الأغنيةُ التي تتوّجها العصافير على ذرى الأشجار
بصوتٍ مبحوح أكلمكَ
في الغابة المحروسة بالروحِ المتحجرة
حين تسمعني
تجتاحني في التفاتةِ الريح قشعريرةُ الماء
الريحُ فوق المزراب الطافح مثل أسفلِ حلقٍ ملتهبٍ في الشتاء
كلماتُكَ السجينة
فوقها سماءٌ بلا قافية
مفتوحةٌ على اللاسبب
كلماتُكَ تسكُّعٌ تحت الجفون
يفكِّكُ براغي الليلِ
ليرميها في زوايا العالم الأربع
كلماتكَ تحفر الأخاديد تحت البحر
تحت الأرض
وفي صخور اللامبالاة
بينما كنتَ يوماً ما تواريها في جيبكَ المثقوبة
مثلما تواري كورنث أعنابَها
يا صيّاد الحرية:
قناني رياحكَ البحرية لا تزال في قاربِ الحب
أنتَ أخي يا يانيس
أخي الذي يمنح المستقبلَ موسمَهُ من الضوء.
النهار-5 نيسان 2014