لو أجزنا لأنفسنا ـ اصطلاحا ـ تقسيم الشعراء إلى أجيال، لبدا الشاعر الإيراني محمد علي سيبانلو (مواليد طهران العام 1940، والذي غيبه الموت قبل يومين) من آخر الجيل الستيني في الشعر الإيراني والذي أتى بعد جيل أحمد شاملو الذي أسس للحداثة الشعرية الكبيرة في ذاك الشعر.
سيبانلو واحد من كبار الوجوه البارزة في الحركة الشعرية الإيرانية المعاصرة، ويتمتع بشهرة واسعة في بلده حيث تقرأ أعماله كثيرا، وإن لم تبدأ شهرته في الخارج إلا مع بداية الثمانينيات حين نقلت بعض قصائده في البداية إلى لغات أوروبية عدة، لتنشر لاحقا في المجلات والانطولوجيات، قبل أن تصدر في كتب.
عديدة هي المجموعات التي نقلت له، لعل أبرزها «الزمن الحقيقي» وهي مجموعة حاز عنها في فرنسا «جائزة ماكس جاكوب»، لتفتح له أبواب شهرة متأخرة (عالميا) ولكنها مستحقة بالتأكيد. يستعيد الشاعر في قصائد مجموعته هذه جملة ألبير كامو من أن الفنان بالنسبة إليه ليس قاضيا بل هو جندي الإنسانية، ومن هذه الفكرة ينطلق سيبانلو ليتساءل: «لِمَ لا يكون الأمران معا»؟ بل أيضا لِمَ لا تكون له أدوار أخرى في هذه الحياة «فهو المحكوم والضحية وحامل الشعلة والناطق بصوت شعبه»، وكأنه بذلك يستعيد كل ما تعرض له زمن حكم الشاه. من هذا الفاصل قد نفهم شعر سيبانلو: أي أنه هذا الشعر الذي كان يواجه التاريخ، بالأحرى التواريخ الصغيرة التي تشكل تاريخ البلد الكبير. هل كتب شعرا ملتزما؟ قد تثير الكلمة اليوم الكثير من «المخاوف»، إذ يبدو أن عصرنا نسي أمرا سياسيا في الكتابة الشعرية وهو أن يحمل ذلك الألم الحقيقي، الداخلي، وصوت الإخاء الإنساني وأن يكتب شرطه المزدوج: الإنساني والتاريخي لحظة مروره على الأرض.
هذا ما كان الشعر عليه بالنسبة إلى سيبانلو، وخاصة أن الشعر يبدو وكأنه بمثابة «إيديولوجية» ما في الثقافة الفارسية والإيرانية المعاصرة، أي هو حاضر حضوراً كبيراً في قلبها. بالنسبة إلى الشاعر، «تبدأ القصيدة بحلم وتنتهي بتحرير» وبين البداية والنهاية، تستمر الكتابة في معركتها المزدوجة: معركة النفس البشرية كما معركتها مع الخارج. لا يفقد الشعر الإيراني وحده هذا الصوت الكبير، بل يخسر الشعر في العالم هذه الكلمة التي لا تزال تؤرقنا والتي تأخذنا إلى مسارات متعرجة لا تستقيم إلا في الشعر نفسه. هنا ترجمة (عن الفرنسية) لبعض قصائد سيبانلو. لنقل مجرد تحية صغيرة.
تفتح إلى الجانب الآخر من الصباح تنام امرأة
تعكس أهدابها نور العشب
يتحدث وجهها مع الشمس
عن كتفيها انزلق رداؤها
على جلدها القمحي اللون
رسمت الحمّالات خطاً
في جسدها مزيج التناقضات:
في أثناء صباح الشك هذا
حنين الملح والجرح
الطهر والنجاسة
نقطة لا معنى لها
في رحلة الحياة
في الجانب الآخر في الحديقة الضبابية
في الفجر المحمّر
على أسطح النعاس الثقيلة
تشرق الشمس
جسد الشابة
جعله الصباح امرأة
في سرير خريفي
يتفتح زرّ الورد.
(1987)
الحديقة الميتة
في حديقة الورود المتجمدة
يتأرجح مهد طفل
تحت الأشجار الكئيبة
تتأرجح وحدة لامتناهية
بدون تمايلات الأطفال
مئات الأراجيح
تهتز من ذكرى أغنية
يروي الهواء كل ما يقع
كلّ ما يذبل تحت مطر القذائف الربيعي..
أين هو المستقبل؟
نسير من دون هدنة
على هاوية الأيام يرتجف جسر
الحديقة هذه ورودها
مرآة صيف عقيم
طالما لم يعد
هذا الطفل الذي في الممر،
هذه الأرجوحة
وحدها في مشاغلها
ترقص
تحت مقاعد المدارس
وحدة الموت
تذكرنا بغياب أبدي..
(1988)
دفن الغصن الطري
وأنا،
دفنت
الغصن الطري
تحت قدم الشجرة العجوز
كان هِبتُكِ، استعيديها
قلت: يا شجرة عجوز
يا شجرة منتصرة على الموت!
أغصانك الخضراء والندية
تثب إلى الشمس
أراضي الظل
لغاية الحقائق الواضحة
في مقابل حدود العالم
وهب نفسه إلى العاصفة
في قلب الوعي
يصبح الوعي موتا.
يتحول الحب إلى هرّ صغير من اللفائف
يهدأ الدم في الشرايين
ويتجذر في الرصاص.
كان ذاك هبتكِ، استعيديها
لينمو غصن
أكثر نداوة
أيها الخالد، أيها الوطن.
غداً في إيران
غداً
يزهر الشجر
تمحو الشمس نجمة النعاس
العصفور
في اندهاش مرآته
يصبح ضوء القمر
إن جاء الغد ليكون
لا تنسَ أبداً هذا البلد الخيالي
الذي كتبناه في الحلم
في مسكنه
شبابنا، في أوج مجهد
سيجد فيه الراحة
لو كان الماضي رحلة
تجتاز الحاضر
الذي نتذكر منه
الانعكاس الكئيب على الزجاج
ولون مغيب الشمس الذي يلوّن الشاي
لأحببنا كثيراً أن نعيد تجديد مسكن الحب القديم
لو أن الوطن نظرة مدهوشة بسحر الطبيعة
لو أن الوطن لا يطوق في المخيلة إلا من بعيد
كم تصبح الشجرة الزهرة في البعيد جميلة
على أغصانها
ينسج عنكبوت المطر
خيوطه الحريرية
تعرف كيف تقطف
هذا العالم الحديث.
(1978)
رسالة، خبر سيئ
الشتاء. نور ما بعد الظهيرة. الحديقة الجافة.
عند مدخل النافذة الغيوم المجعلكة، رسائل غير مكتوبة
على طول جدران الغرفة الباردة
تهطل صور متعددة لجندي من رصاص
طفلان يبنيان قصرا من ورق الشدّة.
إلى جانب اليأس،
إلى جانب الرسائل الآتية من بعيد
على المدخنة، صورة طافية في أحلام اليقظة
تعود إلى نفسها
كما لو أنها – حين تثبت المرآة على الجدار –
كانت تصحح، للحظة، ابتسامتها الحزينة.
السفير- 15 -5 -2015