تحية شكر
تحية شكر وتقدير إلى جميع المستعربين اليابانيين الذين ساهموا في إنجاز هذا المشروع بما قدموه من آراء واقتراحات أثناء الحوار وأثناء ترجمة القصائد.
تحية شكر إلى الشاعرة اليابانية كورا- روميكو التي لولاها لما تحقق هذا المشروع. فهي التي قامت مشكورة باختيار القصائد وترتيب أكثر من لقاء مع شعراء الحداثة اليابانيين وبالتالي كانت هذه الحوارات وهذه المختارات.
كما أخصُّ بالشكر المستعربة الصديقة كاورو- ياما موتو التي ساهمت مساهمة أساسية في الترجمة الأولية لغالبية هذه المختارات.
***
مقدمة
ماكوتو - أووكا
4516 قصيدة
للشعر المكتوب باليابان تاريخ طويل يمتد على أكثر من ثلاثة عشر قرناً وتعود الأعمال الشعرية لأول شاعر ياباني- كاكي نوموتو هيتومارو- إلى العقدين الأخيرين من القرن السابع الميلادي.
بمقدورنا أن نجد هذه الأعمال وأعمال شعراء آخرين معروفين وغير معروفين مجموعة في كتاب (مانيوشو) (معناه ديوان الألف صفحة) وهو عبارة عن مختارات تضم 4516 قصيدة لا تزال مقروءة ومدروسة لحد الآن. في كل عام يظهر حول هذا الكتاب حوالي اثني عشر مؤلفاً هاماً: تفسيراً وشرحاً وتعليقاً، ويباع بعض هذه المؤلفات بشكل مثير.
كم عدد البلدان الأخرى التي نستطيع أن نجد فيها صيغة شعرية ناضجة منذ أكثر من ألف سنة ولا تزال تشكل موضوع بحوث متخصصة جداً ويقرؤها الناس من جميع الأوساط بحماسة شديدة حتى الآن؟ لا شك أن هذه الظاهرة تعكس ملمحاً هاماً من ملامح الثقافة اليابانية في مجموعها. فيابان اليوم نتاج مصالحات بارعة من جميع الأنواع والأشكال بين القديم والحديث سواء في الفن والسياسة أو على الصعيد الاجتماعي. مثلاً عندما تقرر شركة إلكترونية كبرى في قمة التقدم التكنولوجي بناء مصنعٍ جديد، فإن مراسم وضع حجر الأساس يترأسها كاهن شنتوي (نسبة إلى دين الشنتو- وهو دين اليابان الأقدم وإليه تنتمي العائلة الإمبراطورية) ينشد التعازيم والعبارات السحرية الموكل إليها تطهير الموقع الذي تمّ اختياره. إن هذا التجاور المماثل للقديم والحديث موجود قي كثير من مجالات الحياة السائدة باليابان، وهو من الكثرة بحيث أن اليابانيين أنفسهم لا يعونه.
كانت العائلة الإمبراطورية نفسها وراء قيام طبقة الكهنة المتميزين الذين ينتمون إلى المرتبة الأرفع التي ترأس عادة احتفالات الدولة.
وكان البلاط الإمبراطوري ولا يزال، المكان الذي يحفظ فيه بعناية فائقة أكبر قدر من الطقوس حتى وإن كانت قد تعرضت لإعادة النظر والتغير بشكل ملحوظ.
والواقع، إن تاريخ الواكا (أقدم شكل شعري باليابان) التي كانت خلال قرون الشكل الأساسي لشعر البلاط، لا يمكن أن ينفصل عن تاريخ سلسلة من مختارات البلاط الرائعة: مختارات متعددة نشرت كل واحدة منها باسم إمبراطور الفترة المعينة وأول هذه المختارات الإمبراطورية يحمل عنوان كوكينشو (أي: ديوان القديم والحديث) وقد جمعت حوالي سنة 905 ميلادية. عشرون مختارات أخرى جاءت في القرون الخمسة التالية ولقد بلغت جميعها- ولا سيما المختارات الأولى ومختارات أخرى سنة 1206 بعنوان: شينكو كينشو، أي الديوان الجديد القديم والحديث- درجة عالية من الشفافية والذوق، وكلن لها ولا يزال تأثير على الثقافة اليابانية.
انتهت تقاليد البلاط، ومثل جميع التقاليد إلى فقدان صرامتها وأصالتها، وعندما بدأت اليابان مسيرتها السريعة على طريق الغرب، حوالي نهاية القرن التاسع عشر فإن الواكا(التي نسميها وبشكل عام"تانكا" أو قصيدة قصيرة قد تعرضت هي الأخرى لتحولات سريعة وجذرية: هجرت وإلى الأبد عالم البلاط لتصبح عمل الناس العاديين الذين يستخدمونها للتعبير عن الأفكار والأحاسيس الجديدة داخل أشكال جديدة تماماً.
إذن، تم تحديث شكل التانكا ولم يهجر، ومن الأزمة جاءت النهضة.
مليون شاعر
الرائع حقاً هو أن أقدم صيغ التانكا استخدمه عدد من أكبر الشعراء الحديثين بكثير من البراعة والغِنى التعبيري. إن شعبية هذا الشكل الشعري تزداد يوماً بعد يوم. ويوجد حالياً حوالي مليون ياباني على الأقل يمارسونه. فقصر التانكا يجعلها
تناسب وبشكل خاص، شعر ظرف ما لقول الانفعالات الخاطفة السريعة، الحية أيضاً، انفعالات الحياة اليومية. إن حيوية وتجدد التانكا يفسران استمرار القراء والشعراء اليابانيين في شغفهم وحبهم للمختارات القديمة.
عشاق الصمت
تحتوي التانكا الكلاسيكية على 31 مقطعاً صوتياً فقط تنتظم في خمس وحدات إيقاعية أو "أبيات" (5-7-5-7-7-). لكن يوجد شكل آخر أكثر إيجازاً أيضاً من التانكا، وكان اسمه "هايكاي" واليوم نسميه "هايكو". في العصر الوسيط، صارت الأبيات الثلاثة الأولى من التانكا شكلاً مستقلاً: 17 مقطعاً صوتياً في ثلاثة أبيات (5-7-5). كانت قصائد الهايكو في الأساس، مترابطة فيما بينها، وكانت تشكل متتاليات. لكن صارت في نهاية القرن التاسع عشر مثل التانكا، موضوع تجارب وتحولات ذات إلهام، غربي وأصبحت قصائد مستقلة بسرعة. أدت نهضة الهايكو هذه إلى أن هذا الشكل الشعري صار اليوم شعبياً مثل التانكا الحديثة، كما أنه يثير الإعجاب بسبب قصره الشديد الذي يدعو إلى الإيحاء أكثر مما يدعو إلى التعبير.
هاوي الهايكو هو أيضاً هاوي صمت.
ولإعطاء القراء الأجانب فكرة عن هذين الشكلين التقليدين أود الاستشهاد بقصيدة تانكا وقصيدة هايكو للشاعر ماسا أوكا- شيكي (1867- 1902) الذي لعب دوراً حاسماً في تحديثهما ومع أنه توفي في الخامسة والثلاثين من العمر، فإن نظرياته الملهمة وقصائده بالذات تشكل أهم مساهمة فردية في تحول الشعر الياباني.
لقد حافظ على طاقته الإبداعية سليمة مع أنه بقي مسَمّراً في فراشه خلال السنوات الست الأخيرة من حياته إذ كان مصاباً بسل النخاع الشوكي. فيما عدا التانكا والهايكو كتب شيكي يوميات سنواته الأخيرة وهي من بين أهم الأعمال التي عرفها النثر الياباني الحديث.
ذات يوم شتائي سمع شيكي الناس يصرخون بأن السماء تثلج وهذا منظر شبه نادر. وعندما لم يكن بإمكانه النهوض للخروج والتمتع بمنظر الثلج، فقد كتب ذلك قصيدة هايكو:
أيضاً وباستمرار
أسأل
كم من الثلج
إن الإحساس الشخصي للشاعر لا يعبر عنه عموماً في قصائد الهايكو. وهذه حالة الشاعر هنا. لكن القارئ الياباني يدرك في أعماقٍ هذه القصيدة المحتشمة جداً فضولية الشاعر اليائسة ورغبته القوية جداً في أن يرى تساقط الثلج كما يتذوق هذا القارئ بانفعال ثلجاً يغزو ويغمر قلب شيكي.
وفي يوم آخر كان شيكي يشاهد من فراشه أزهار الصيف الأولى في حديقته الصغيرة: مستشفاً موته القريب، كتب عشر قصائد تانكا من أجل الزهور كما لو أنه كان يستأذن كل واحدة منها. هي ذي قصيدة:
تويجات السوسن
تتفتح الآن
انتهى تقريباً
ربيع حياتي
الأخير
إن قصيدة التانكا، وبسبب شكلها الأوسع قليلاً من شكل الهايكو، تتيح للشاعر أن يعبر عن شعور ما أو أن يصف إحساساً ما: إنها غنائية إيقاعية بالدرجة الأولى. في هذه القصيدة يخلق تفتح زهرة صغيرة في حديقة الشاعر مفارقة حادة مع الشعور بأن الموت يقترب. حبه للزهرة يجعل الحياة أثمن في نظره.
ظهور البيت الحر
عاصفة من النظريات كانت تنزل على اليابان في نهاية القرن التاسع عشر وأثناء تلك العاصفة ظهر شكل شعري جديد لا علاقة له بالتانكا ولا بالهايكو: إنه البيت الحر في لغة متكلمة. آنذاك بدأ عدد من الشعراء ذوي الأهمية بالكلام على أشياء وموضوعات لا مكان لها في الأشكال التقليدية القصيرة. عندما أطيح بالعائلة الحاكمة- شوكون توكوغاوا- سنة 1868 والتي حكمت قرنين ونيفا. كان أول أعمال النظام الجديد- نظام ميجي- هو وضع حد نهائي لإغلاق البلد أمام العالم الخارجي- إغلاق استمر منذ سنة 1635 واندفع الحكام الجدد القلقون من توسع البلدان الأوروبية والولايات المتحدة وروسيا في تنفيذ برنامج سريع يقوم على غربنة اليابان (جعلها مثل الغرب) وذلك احتراساً من أن تصبح بدورها مستعمرة من مستعمرات القوى الغربية.
لكن سخرية القدر قادت حكام اليابان في جهودهم [للحاق] بالغرب إلى إقامة نظام استبدادي شبيه بأي نظام أوروبي آنذاك. وهكذا كانت اليابان في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين خليطاً انفجارياً من المحاكاة السريعة للنماذج الأوروبية ومن الوطنية الرجعية (التي وصلت إلى حد استعمار المناطق المجاورة في آسيا).
الشعر هو الآخر أيضاً، كان موزعاً بين تيارات متعددة لكن البيت الحر قاوم كل هذا: وفيما كانت تتزايد ترجمات الشعراء الغربيين كمّاً ونوعاً، كان الشعراء الشباب يزدادون أيضاً ويتبنون البيت الحرّ، كما كان جمهور هذا الأخير يزداد بالتدريج، لأن الهايكو والتانكا لم يعد بإمكانهما تلبية الحاجات.
هكذا قام الجيل الأوّل بتمهيد الطريق أمام جيل شعري جديد آخر سيتبنى وبشكل كبير هذه الصيغة الجديدة. لكن نميّز عادة بين البيت الحرّ قبل الحرب الكونية الثانية والبيت الحرّ بعد سنة 1945.
لقد كان للهزيمة العسكرية اليابانية انعكاسات هائلة على جميع مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية. والشعر الياباني بعد الحرب يختلف أو يتميز جذرياً عنه قبل الحرب. فالشعر الحرُّ المكتوب بين سنة 1945 وسنة 1960 يُسمّى عادة "شعر ما بعد الحرب"، ولكن إذا نظرنا إلى البيت الحرّ مقارنة بالتانكا والهايكو، فإن الشعر المكتوب بين سنة 1945 واليوم نسميه بشكل عام "الشعر الحديث".
منذ البداية تأخر البيت الحرّ- وقد دخل اليابان منذ أكثر من قرن- وبطرق مختلفة بالحركات الغربية آنذاك انطلاقاً من رومانسية ورمزية القرن التاسع عشر وصولاً إلى دادئية وسوريالية القرن العشرين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى النقد الياباني الذي خضع للتأثيرات ذاتها: يستحيل الكلام على هذا النقد دون الإشارة إلى علاقاته مع النظرية الرمزية الفرنسية، وروابط الشعر الياباني بهذه الأخيرة أشدّ وأقوى.
تأثيرات
لكن كثيراً من هذه التأثيرات لن تمرّ دون بعض الغموض. لأنه عندما تدخل ثقافة متطورة، كما حدث دوماً، على ثقافة أقل على الصعيدين الفكري والروحي، فإن اللقاء يثير اضطرابات شكلية ونوعية، لأنه على الثقافة الأقل تطوراً أن تدمج التأثيرات الأجنبية بتقاليدها وبآفاق مستقبلها الخاصة. مثلاً، كان الشعراء والباحثون في اليابان القديمة يقدسون الحضارة الصينية ويجهدون أنفسهم لفهمها وإدراكها وتبنيها. لكنهم كانوا يختارون بعناية فائقة ما يأخذون، كما كانوا يهتمون كثيراً بطريقة توطينه وأقلمته. وهكذا لم يكن شعراء عصر"تانغ" الكبار (ليبو، توفو) معروفين كثيراً في اليابان لأنهم كانوا يعبّرون غالباً عن سخطهم على الوضع السياسي وعلى ظروفهم الخاصّة، كما كانوا يهاجمون جميع الشخصيات السياسية البارزة وكثيراً من الموضوعات التي لم تكن تروق للبلاط الياباني في القرنين العاشر والحادي عشر. والشاعر الصيني الذي أصبح أكثر شهرة واتساعاً في اليابان هو (بوتشوي) الأقل حدّة. كان جانبه الحنيني وتأملاته في جمال الطبيعة الأشياء التي صارت شعبية، أما قصائده السياسية المليئة بالسخط والتي وجهها إلى وزير العدل فقد تمت تنحيتها بعناية فائقة من الطبعات اليابانية. ولم يُفهم الشاعران ليبو وتوفو، وبالتالي لم يمارسا تأثيراً عميقاً إلا بدءاً من القرن السابع عشر حيث كان آنذاك الشاعر "ماتسو باشو" يكتب قصائد الهايكو. لأن حياة وأعمال باشو كانت تجعل من الممكن لا بل من الضروري أن يهتم بهذا الجانب المهمل لمدة طويلة في الشعر الصيني.
تكررت حالة مشابهة إلى حد ما عندما اصطدم الشعر الياباني بالشعر الغربي وعندما باشرت اليابان عملية الغربنة. ولهذا السبب تعتبر سنة 1945 منعطفاً رئيسياً.
1945
إن سنة 1945 بالنسبة لليابانيين هي سنة الاكتشافات العديدة.
فهي أولاً سنة أوّل تجربة هزيمة بالنسبة إلى اليابان كقومية، ثانياً، هي هيروشيما وناغازاكي، ثالثاً هي سنة السحق العسكري لنزعتي التعصب القومي والعسكراوية اللتين كانتا تحكمان اليابان منذ بداية الثلاثينيات، وهي أيضاً سنة الإيديولوجية الوطنية المغالية التي كانت تساند النظام العسكري، رابعاً، هي سنة احتلال الحلفاء لليابان وإقامة ديمقراطية وفق النموذج الأمريكي، مما أدى إلى تغيرات عميقة في المنظومة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتجسدت هذه الديمقراطية بوضع دستور جديد.
إنّ إعادة ترتيب النظام التربوي الياباني تحت الاحتلال الأمريكي مثال صارخ لقلب قواعد المجتمع الياباني التقليدي، خامساً، هي سنة المدن الخربة، سنة الجوع، والسوق السوداء، سنة الأطفال الضائعين بلا مأوى، سنة جرحى الحرب وسنة الآلام بجميع أشكالها.
ولم تتحسن هذه الحالة إلاّ عندما بدأ الاقتصاد الياباني يتحسن خلال الحرب الكورية. هكذا كانت "الأرض الخراب" لـ.ت.س. إليوت و "زمن القلق" لـ. أودن Auden بالنسبة إلى الكثير من اليابانيين عناوين توجز حالة بلادهم آنذاك. إلى جانب كل هذا كانت الحروب مشتعلة في الصين وكوريا والجزائر وهنغاريا وكوبا….
في سنة 1945 كان عمري أربعة عشر عاماً. لا أزال أذكر جيداً أنه خلال السنوات التي تلت كان لدى الكثير من بيننا- نحن جيل القلق- شعور بأنهم يعيشون، ليس مرحلة ما بعد الحرب، بل مرحلة ما قبيل الحرب العالمية الثالثة. جميع القصائد التي كتبتها في سن العشرين، وحتى قصائد الحب، كانت تتعلق بهذا الألم، عالم "ما قبل الحرب" ولم أكن في ذلك الوحيد.
هذه بعض العناصر التي تلازم الشعر الياباني بعد الحرب. معاناة الحرب والجوع والقنابل النووية وأشياء أخرى كثيرة محفورة في أذهان الشعراء وكانت تجعل من الموت صورة حاضرة باستمرار.
لكن الشعراء اليابانيين بعد أن عرفوا الحرب الكلية والتدمير النووي، تعلموا إدراك البعد الشمولي للمآسي الفردية، وهو البعد الذي لم يستطع بلوغه شعراء ما قبل الحرب العالمية الثانية.
كان عليهم- أرادوا ذلك أم لا- أن ينظروا إلى ما وراء مصائرهم الفردية وأن يكتشفوا مصير القرن العشرين بالكامل. بعد تلك الحرب فقط، استطاع الشعر الياباني أن يقتنع ويتشبع بالحركات الأوروبية: الدادائية، السوريالية، الانطباعية، الوجودية.
كانت هذه الحركات قد دخلت، في أغلبها، إلى اليابان بعد الحرب الكونية الأولى وفي العشرينات والثلاثينات، لكنّ اليابانيين لم يستوعبوا القوة الخفية لهذه الحركات إلاّ بعد أن عاشوا الحرب النووية والأنقاض والجوع.
وكانت هذه الصيرورة شبيهة بصيرورة قصائد ليبو، توفو، بوتشوي، لكن فارق الزمن هذه المرة أقصر وبعد الحرب العالمية الثانية فقط، استطعنا في اليابان أن نفهم جيداً المواقف والمفاهيم التي عبر عنها نقد فاليري، وأن نحسّ جيداً أيضاً بأعمال برتون، وسوبو، وإيلوار وجميع الأعمال المشابهة.
عودة الكلية
كان وراء هذا الفهم والتعاطف مع هذه الأعمال يقين جديد بأن الشعر قادر، أكثر من العلم والدين، على الصمود في وجه اليأس والخرابات والمجازر الجماعية التي هي نصيب هذا العالم الحديث. حتى وإن كان هذا اليقين يبدو تفاؤلياً الآن، فإنّ الشعر الياباني بعد الحرب لم يكن بمقدوره الانطلاق والتحليق من دون تلك الحرب، لأن اليابانيين وبعد انفجارين نوويين عاشوا رمزياً تجربة رؤية الآخرة التي لم يكن فيها أي حضور إلهي. ولهذا كانت جميع التيارات والجماعات الشعرية بيابان ما بعد الحرب، وحتى السبعينات على الأقل، تتفق على ضرورة "أن الكلية تعود عبر الشعر".
أصبح شعر ما بعد الحرب، على الصعيد التقني، أكثر وعياً لذاته وأخذ يرفع الإحساس إلى مستوى الفكر ويجعل الفكر مادياً ومجسداً. على مستوى الإحساس صار الشاعر يعير انتباهاً أكثر للاستعارة والكناية. لكن هذا الاهتمام بالتقنية هو قبل كلّ شيء مظهر من مظاهر، تعود الكلية عبر توسيط الشعر. إضافة إلى الذكريات الحادة عن أهوال الحرب وفظائعها - سواء في القارة الآسيوية أو في الباسفيك الجنوبي أو في اليابان بالذات - كان على الشعراء أن يكافحوا ضد الفقر والجوع في حياتهم اليومية. الأمر الذي كان يعزّز رغبتهم بأن يجدوا في الشعر نوعاً من الخلاص الروحي، وبأن يوكلوا إلى الشعر مهمة التعبير عن حلمهم بالكلية. من هنا هذا الخليط الخصب من النقد الاجتماعي الحاد ومن الصور السوريالية الذي نجده عند أفضل شعراء ما بعد الحرب. ومن هنا أيضاً التكاتف القوي بين النزعة الغنائية والنقد الثقافي. بعبارة أخرى، وجب على الشاعر أن يكون أيضاً ناقداً بارعاً.
وفي تاريخ الشعر الياباني، منذ القديم وحتى نهاية القرن التاسع عشر كان جميع الشعراء الكبار تقريباً نقَّاداً كباراً أيضاً. وكان لا بدّ من انتظار العشرينات 1920 كي نعتبر، وخلال فترة قصيرة، أن بين الشعر والنقد تنافراً وعداء.
لكن بعد أن حل الشعر محل العلم والدين، أوكل إليه أن يعيد إلى فكر وأعمال النّاس وحدةً وكليةً أساسيتين. هذا ما كان يطمح إليه شعر يابان ما بعد الحرب. بالنسبة إلى الشعر ما هو العصر الحديث؟
وبالنسبة إلى عصرنا ما معنى الشعر؟
من المؤكد أن الجواب على هذين السؤالين صعب جداً ولا سيما أنهما يتداخلان بشكل قوي وغريب. ومع ذلك، هما السؤالان اللذان لا بدّ أن يطرحهما الشعراء على أنفسهم في جميع لحظات حياتهم كشعراء.
إن التقدم الهائل للعلم الحديث والتحولات الاجتماعية العنيفة التي يسببها والتي تؤثر على أدق تفاصيل حياتنا اليومية، تجعل الإجابة أكثر صعوبة أيضاً.
العلم. هذا السلاح الرائع لمحاربة الفقر، الجهل، الخرافة والألم، العلم الذي انتشر وامتدّ كطليعة في وجه الاستبدادية والطغيان والاضطهاد، هذا العلم الذي انتشر وامتدّ كطليعة في وجه الاستبدادية والطغيان والاضطهاد، هذا العلم هو الذي يثب اليوم بجرأة ليس فقط على صعيد الالتمام والانشطار النوويين، لكن أيضاً على صعيد الاستخدام التوليدي والتحويل الاصطناعي لخلايا الدماغ. وكثير من التجارب التي يمكن أن تنقلب ضد أسس الحياة الإنسانية وتقضي عليها. إن التباس العلم وتناقضاته الداخلية ترمز إلى المعضلة الأساسية التي تغرق فيها اليوم الإنسانية بكاملها. ومع ذلك يستحيل تصور أي مستقبل من دون العلم ولا يستطيع ألا يأخذ هذا بعين الاعتبار.
الناس كلمات
خلال السبعينات 1970 حمل العلم إلى اليابان، والى بلدان أخرى، تكنولوجيات إلكترونية جديدة، بدءاً من آلة النسخ والفيديو إلى آلات التوزيع والمطاعم السريعة.. تكنولوجيات تجعل ممكناً الإنتاج المباشر والتوزيع الكبير لشيء كان، ولوقت قصير جداً، "أصيلاً". ولا يستطيع الشعر أن يتجنب التأثر بهذا التطور التاريخي، إن ما نسميه باليابان "حضارة النسخ" أو "مجتمع إعادة الإنتاج" يأخذ من الشاعر قصائد مكتوبة في حقل تجربة غير إنتاجي ويوزعها بشكل لا اصطفاء فيه في جميع الاتجاهات بطريقة متزامنة إلى حد كبير. وينتج عن هذا تصحّر وإفقار لا مفرّ منهما. إن مفهوم الأصالة نفسه، والذي يعتبر منبع الكثير من الأساطير الشعرية، يجب وبسرعة أن يعاد التفكير فيه من جديد.
لكن يظل هناك أمل بالنسبة إلى الشعر الحديث لأن عصرنا معقد ومركب، لأن الناس يملكون اللغة، يعيشون بفضل الكلمات، من الكلمات، ولأنهم هم أنفسهم كلمات. وطالما أن الكلمات هي الرابط العميق الذي يوحد ويجعل ممكناً التاريخ والمجتمع، فإن الشعر، الموجود أصلاً للبحث عن الوظائف والاستخدامات الأعمق للكلمات، يجد في الأزمة السبب الرئيسي والأهم كي يذهب بعيداً وإلى أبعد من ذاته تحديداً وكي يعيش كما لم يعش أبداً في السابق.
أقرأ أيضاً: