في الموسوعة الشعرية الجديدة (قصائد إيروتيكية صينية) الصادرة بالإنكليزية عن دار إيفري مانز ليبرري، 2008، بترجمة وتحرير الشاعرين توني بارنستون وتشاو بينغ، يلمس القارئ كيف أنّ الشّعرَ الصيني الإباحي يميل بطبعه إلى التلميح والإيجاز، وإلى تكثيف الوقفة الغزلية، وصقلها من الداخل، محقّقاً معادلة السّهل الممتنع أو البساطة الصعبة. وتذهب هذه القصائد في معظمها إلى الرّعوي والغنائي، وتستَمدّ رهافتها من الإحالات الكثيرة إلى نصوص فلسفية وشعرية قديمة، عرفانية وإيروتيكية معاً. إذ إنّ أجيالاً متعاقبة من الكتّاب الصينيين تعلّمت فنّ الشّعر من (كتاب الأغاني)، 600 ق.م، الذي يُعتبر أقدم موسوعة في الشعر الغزلي الصيني، ويضمّ أكثر من ثلاث مئة قصيدة موزونة ومقفّاة، وتقول الأسطورة إنّ كونفوشيوس نفسه هو الذي أعدّها وجمعها. ويدين هذا الشعر أيضاً إلى كتاب (أغاني الجنوب)، الزّاخر بالنصوص الشّعرية، العاطفية والإباحية.
ويسودُ الاعتقادُ بأنّ الإمبراطور الصّيني الأصفر، هوانغ دي، الذي حَكَمَ قبل أربعة آلاف وخمس مئة سنة، ويُعتبر المؤسّس للعرق الصّيني، يعودُ إليه الفضلُ في تأليف أوّل كتيّب عن الجنس، يستندُ إلى مبادئ الطب الصّيني التقليدي. وفكرةُ أنّ الجنسَ يمثّل انعكاساً للحياة الرّوحية والطبية، تضربُ عميقاً في هوية الشّعب الصّيني.
في إحدى منتخبات كونفوشيوس نقرأ العبارة التالية: «قال المعلّم، لم أقابل إنساناً قطّ يحبّ الأخلاق أكثر مما يحبّ الجنس». ويشترك التقليدان، الكونفوشيوسي Confucian والدّاوي Daoist في الإيمان بأنّ الجنس يوحّد العشّاق بالكون، ما يدلّ على أنّ الموقف التقليدي الصّيني من الجنس كان دائماً إيجابياً. ويندرجُ الإرثُ الإيروتيكي الصّيني في سياق تقليدٍ فكري عريض، يتسمُ بالقداسة، حيث يُنظر إليه كحالة علاجية، روحية وطبّية معاً.
وتحتلّ الأفكار «الدّاوية» عن احتباس السّائل المنوي جوهرَ الأدب الصّيني الإيروتيكي. ووفقاً للنظرية الطبية «الدّاوية» فإنّ الجسد يختزن في فلكه الدّافع الجوهري للكون chi المؤلّفَ من المبدأ الذَكَري yang والمبدأ الأنثوي Yin . وتتركّزُ قوّةُ الطاقة الكلّية في الشّكل المطلق، المسمّى Jing الذي يفيض عن الجسد، أثناء الرّعشة الجنسية. والرّجل الذي يفتقر، في جسده، إلى التوازن الصحّي بين الذّكورة والأنوثة يمكن له أن يمتصّ قوّةَ الحياة من شريكتِهِ، خلال العملية الجنسية، إذا وصلت المرأةُ الرّعشةَ، وكبح، هو، رعشتَه.
ويشير بول راكيتا غولدن في كتابه (ثقافة الجنس في الصّين القديمة) إلى أنّ الكتب الصينية التي تُعنى بالجنس، تركّز على الكيفية التي تجعلُ النساءَ تصلُ الرّعشةَ الجنسيةَ، وهي لا تفيدُ النساء بقدر ما تعلّم الرّجالَ كيف «يلامسون جوهرَ الحياة عند النسوة الغافلات». ففي كتب الجنس الدّاوية يوصفُ الفعل الجنسي، غالباً، بفنّ عسكري، مرتبط بفنون القتال، مملوء بالكرّ والفرّ، حيث يجمعُ الرّجلُ المنتصرُ، في نهايته، غنائمَ المعركة، لكي يزيدَ من دورةِ حياته.
ويستنتج ر. ه. فان غوليك بأنّ المعتقدات والممارسات الدّاوية، «تركت ، أثراً إيجابياً في تطوّر العلاقات الجنسية.» وفي التطبيق، ينبغي على الرّجل «أن يتعلّم كيف يطيلُ أمدَ الجماع، قدر الإمكان، من دون أن يصل الرّعشةَ»، لكنه يجب أن يجهد، في الوقت ذاته، كي يجعل المرأةَ تصلُ تلك الذّروة. علاوةً على ذلك، يسري الاعتقادُ بأنّ مخزونَ الرّجل من الطاقة الكلّية yang محدودٌ، وبالتالي فإنّ الاستمناء أو القذف، خلال ممارسة الجنس، يمكن أن يُضعِفَ قوّةَ الحياة في الرّجل، بينما يُعتقد بأنّ النسوة يملكن طاقة لامحدودة من المبدأ الأنثوي yin الذي يستطيع أن يشحنَ طاقةَ الرّجل الحيوية، والجنسُ عاملُ صحّة للمرأة، لأنه يحرّكُ ويقوّي جوهرَها الحيويّ. هذه الرؤى مستوحاة، جزئياً، من العرف الصيني في تعدّد الزّوجات، بما أنّ «رجل المنزل يمكن أن يشبعَ الحاجات الجنسية لزوجاته وخليلاته، من دون أن يؤذي صحّته وفتوّته».
القبول الحسي
ورغم أنّ الكونفوشية قدّمت الثقافة الصينية مرتديةً قناع اللّياقة والنظام الاجتماعي، لكن، وكما يكتب جون بايرون في كتابه (صورة الفردوس الصيني)، «خلف هذا القناع، ثمة قبولٌ حسّي جارف بالمتعة الجنسية»، وصلَ ذروتَه في تقليدِ تعدّد الزّوجات، ولاحقاً، في عادةِ ربط القدم، وهو من «دستور المنبّهات الجنسية»، فضلاً عن انتشار البغاء. والحقّ أنّ ارتياد المواخير، الذي وُضِع حدّ له خلال حكم سلالة مينغ وما تلاها، ظلّ يُعتبر ممارسةً مفيدةً، لأنّ العاهرات، كما يُعتقد، تمنحُ الزّبونَ الذي يحتفظ بسائله المنوي، الطاقةَ الكلّيةَ yang المُستَجْمَعة من زبائن آخرين.
وتُستَمدّ الرّهافة في الشعر الصيني الإباحي من حقيقة الإحالات التي تشترك بها النخبةُ الصينيةُ المثقّفةُ. ومنذ أن تأسّس النظامُ الكونفوشي في التعليم، خلال القرن الثاني قبل الميلاد، عمد الصينيون إلى استظهار تقليد أدبي كامل من الكتب الكلاسيكية. وهكذا، فإنّ الكتّاب الصينيين يتوقّعون من قرّائهم الإحاطة بتلك الإحالات، التي تحمل أصداء كتب كلاسيكية. هذه المعرفةُ الأدبيةُ المشتركةُ، والشعورُ بأنّ محاكاةَ الجهابذة الأوائل أفضلُ بكثير من الإبداع الصرف، منحَ الكتّاب الصينيين الفرصةَ لتعميق ثقافتهم الإيروتيكية. يقول لو جي (261-303): «إنّ تعلّمَ الكتابةِ من الأعمال الكلاسيكية، يشبهُ رسمَ قبضةِ فأسٍ بواسطةِ فأس- النّموذجُ موجودٌ في يدِكَ».
ومن أعظم شعراء القصيدة الإباحية في التقليد الأدبي الصيني هو الشّاعر لي يو (937-978)، آخر إمبراطور في سلالة التانغ الجنوبية. ويعود إليه الفضل في إدخال تقليد ربط القدم إلى الصّين. هذا الإجراء القاسي، الذي انتشرَ على نطاقٍ واسع، وتمّ منعه عام 1911، صعّد الانبهارَ برمزية القدم، التي تغلغلت في أدب الإباحية الصّينية. وكما يشيرُ فان غوليك، فإنّ «القدمَ الصغيرةَ للمرأة... باتت ترمزُ للإغراء الجنسي.» ولأنّ تسليط الضّوء على الأقدام بات من المحرّمات، فإنّ إيروتيكا هائلة نشأت حولها. فإذا حدَثَ ولامسَ رجلٌ ربطةَ قَدمِ امرأة، ولم تبدِ هي اعتراضاً، فُسّر ذلك كدعوةٍ لممارسة الجنس. وهكذا فإنّ التركيز على «قدم زهرة اللوتس الذهبية» التي تطرّزُ معظم كتيّبات الجنس، وألبومات الصور الإباحية، لم يعد مسألة وثن إيروتيكي، بل استعارة تصيبُ كبدَ الجنسانية في الصّين، بدءاً من القرون الوسطى.
وتبرهن القصائد التالية، المنسوبة إلى شعراء مجهولين، وتعود جميعها إلى ما قبل الميلاد، أنّ الشعر الإيروتيكي في الأدب الصيني يضربُ جذوره عميقاً في التّاريخ الصيني القديم، ويعكس بجلاء رؤيا مشرقية جديدة لعلاقة الرجل بالمرأة، تتأرجح بين الإفراط في الحسّية، والمبالغة في المثالية، فالشعر هنا عرفاني وسحري في فلسفته، ومعقّد وبسيط في لغته، وعقلاني وشهواني في لمسته، ومأسوي وساخر في نبرته. وفيما يلي مختارات من هذه القصائد:
في البريةِ أنثى
أيّلِ النهرِ ميتةٌ
في البريةِ أنثى أيّلِ النهرِ ميتةٌ.
اهتزازاتٌ بيضاء تدثّرها.
سيّدةٌ تتوقُ للقاءِ عزيزٍ.
رجلٌ وسيمٌ يغويها.
في الغاباتِ أغصانٌ متشابكةٌ،
وفي البرّيةِ ترقدُ أنثى أيّلِ النهرِ ميتةً،
متدثّرةً باهتزازاتٍ بيضاء.
سيّدةٌ جميلةٌ مثل مهرة.
آهٍ! مهلكَ، لا تكن عنيفاً،
لا تفكّ زنّارَ ثوبي.
لا تتكلّم! سوف تجعلُ الكلبَ ينبحُ.
ضفةُ النهر
قرب ضفّةِ النهرِ العاليةِ
أقطعُ الأغصانَ والفروعَ الصغيرةَ.
حين لا أجدُ حبيبي
أشعرُ بتوقٍ صباحيٍ عارمٍ.
قربَ ضفّة النهرِ العاليةِ
أقطعُ الأغصانَ والفروعَ الصغيرةَ.
ها إنيّ أقابلُ حبيبي
ولن أدعَهُ يذهبُ.
ذيلُ السّمكةِ أحمر.
غرفتي الملكيةُ تتأجّجُ ناراً.
أعرفُ أنهّا تحترقُ …
جنادب وجرادٌ صغير
جنادب تغنّي،
وجرادٌ صغيرٌ يقفزُ،
قبل أن أرى حبيبي
يخفقُ قلبي اضطراباً،
لكننا نلتقي الآن،
ونمارسُ الحبّ،
وقلبي يستسلمُ.
أتسلّقُ الجبلَ الجنوبي
لأجمعَ السّرخس،
قبل أن أرى حبيبي
قلبي يرتعشُ حزناً
لكننا نلتقي الآن
ونمارسُ الحبَّ
وقلبي يطيرُ نشوةً.
أتسلّقُ الجبلَ الجنوبي
لأجمعَ السّرخسَ،
قبل أن أرى حبيبي
قلبي يتشقّقُ ألماً
لكننّا نلتقي الآن
ونمارسُ الحبّ:
قلبي يصيرُ سلاماً.
اشتياق
إذا كنتَ تشتاقُ لي،
اخلعْ ملابَسَكَ
وخضْ في نهرِ «زهين»، سابحاً إليّ،
وإذا كنتَ لا تشتاقُ لي،
ثمة فتيان كُثُرٌ في الجوار.
أيها الفتى المتوحّشُ، لا تكن متوحّشاً جدّاً!
إذا كنتَ تشتاقُ لي
اخلعْ ملابَسَكَ
وخضْ في نهرِ «وي»، سابحاً إليّ،
وإذا كنتَ لا تشتاقُ لي،
ثمة فتيانٌ كُثُرٌ في الجوار.
أيها الفتى المتوحّشُ، لا تكن متوحّشاً جدّاً!
طلوعُ قمرٍ أبيض
القمرُ الأبيضُ الطالعُ
هو جمالُكِ البهيّ
يأسرني باللّعناتِ،
ممزّقاً قلبي.
القمرُ الخفيفُ يحلّقُ
متلألئاً مثل سيّدتي،
يقيّدني بأغلالِ الضّوءِ
حتىّ يتمزّقَ قلبي.
قمرٌ متلفّعٌ بمجدٍ أبيض
أنتِ الجميلةُ وحدكِ،
ووحدكِ من يجرحني،
حتىّ يتمزّقَ قلبي.
أعشابٌ طويلةٌ في الحقول
في الحقولِ أعشابٌ طويلةٌ
تتلألأُ بالندى.
ها قد أتتْ فتاةٌ مدهشةٌ
عيناها كالنّبعِ الصّافي.
أقابلُها كأنّما مصادفةً،
مثلما كنتُ أخطّطُ تماماً.
في الحقولِ أعشابٌ طويلةٌ
تتوهّجُ بالنّدى.
هاهي الفتاةُ الجميلةُ،
أقابلُها كأنمّا مصادفةً.
«دعنا نختبئُ كي لا يرانا أحدٌ».
أتوسلُ إليكَ، زهونغزي،
أتوسّلُ إليكَ، زهونغزي،
لا تأتي إلى حيّنا،
لا تكسرْ غُصيناتِ الصّفصاف.
أنا لستُ خائفةً على الصّفصافِ،
أنا خائفةٌ من أهلي.
أشتاقُ إليكَ
لكنّني خائفةٌ
من لومِ أهلي.
أتوسّلُ إليكَ، زهونغزي،
لا تتسلّقْ حائط بيتنا،
لا تكسرْ أغصانَ شجرةِ التوت.
أنا لستُ خائفةً على شَجَرِ التّوتِ،
أنا خائفةٌ من أخوتي.
أشتاقُ إليكَ
لكننّي خائفةٌ،
من كلماتِ أخوتي.
أتوسّلُ إليكَ، زهونغزي،
لا تدخلْ كرمَنا،
لا تكسرْ أغصانَ شجرةِ الصّندل،
أنا لستُ خائفةً على شَجَرِ الصّندلِ
أنا خائفةٌ من الشّائعات.
أشتاقُ إليكَ
لكنني خائفةٌ
من نميمةِ النّاس.
(كاتب سوري)
السفير
5 يونيو 2009