يعرف جميع قراء الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا أنه لم يكتب يوما ما اصطلح على تسميته، بلغة الأدب، »بالشذرة«، إذ أن »الاختصار« كان ضد طبيعة الشاعر، بالأحرى كان يُعدّه ضد الطبيعة البشرية، على الأقل إذا كان يكتب نثرا. ألم يقل في »كتاب اللادعة«، وبسخرية: »لم يتراءَ لي البتة أنه بين نقطتين أ. و ب. كان الخط المستقيم أقصر الطرق«. من هنا شكل الاختصار بالنسبة إليه أمرا أسوأ من اللامعنى أو من غيابه.
ومع ذلك، أقدم هنا، »مختارات من الأفكار المختصرة العائدة لبيسوا التي كان قد رماها صدفة على الأوراق (التي أصبحت كتبا في ما بعد) وبشكل متفرق، ما يتيح لنا، في نهاية الأمر، أن نتعرف على ما يمكن تسميته »الفكر الفلسفي« لهذا الشاعر.
بهذا المعنى، يمكن لنا أن نقول إن بيسوا مثله أوسكار وايلد أو مثل برنارد شو، كان يتحكم بالسخرية بحرفنة كبيرة وإن جاءت بحجم مختلف. فما كان يتراءى لهذين الكاتبين البريطانيين بمثابة نزوة أو نتوء، كان يشكل عند بيسوا تجربة خاماً، ومن دون أي استعداد، لفكر مرير، أليم في أغلب الأحيان، مولود من تجربة طويلة في التوحد والانعزال. هو توحد عاطفي، إذا جاز التعبير، لكنه أيضا توحد هذه الروح العليا التي ترغب في أن »تقتل« هذه التفاهة المسيطرة على كلّ شيء.
هذا الانعزال الموسوم بالقسوة، أو بالأحرى بعزة النفس المتطلبة، هو ما يشكل السمة المسيطرة على هذه التأملات والشذرات المتـــناقضة، التي أترجــمها هنا والتي اقتطعها من قصائد ونصوص متفرقة.
وسيتعرف قراء بيسوا بالتأكيد على الموضوعات التي يقترب منها والتي جاءت عبر بيسوا نفسه كما عبر بدلائه وبخاصة برناردو شواريش أو ألفارو دو كامبوش أو حتى البارون دو تيف. شذرات تخبرنا عن مكانة الإنسان في هذا الكون، عن مسألة وجود الله، مواجهة الوعي البشري مع الفن أو مع الحب... بالإضافة إلى العديد من الموضوعات التي سبق له أن عالجها وتحدث عنها في كتبه السابقة. كل بيسوا الفكري هنا، لكنه »باختصار«. ومع ذلك، اختصار يحدثنا بالكثير الكثير.
(١)
حين أعتبر كم هو واقعي وحقيقي، بالنسبة إلى المجنون، محتوى جنونه، فأنا لا أستطيع إلا أن أوافق على جوهر تصريح بروتاغوراس هذا: »الإنسان هو قياس كل شيء«.
(٢)
لا وجود للمعايير. البشر بأسرهم هم استثناء لقاعدة غير موجودة.
(٣)
علينا الانطلاق من الكائن الفرد دائما، حتى وإن توجب أن نهجره في ما بعد.
(٤)
كان ديوجين (بقنديله المشتعل في وضح النهار) يبحث عن إنسان؛ أما أفلاطون فلم يكن يبحث عن شيء.
(٥)
الآلهة هم التجسيد لما لا يمكن لنا أن نكونه أبدا.
(٦)
أن لا يكون هناك رب، فهذا رب بدوره.
(٧)
الله هو أن نكــون موجودين، وأن كـل شــيء لا يحــال إلى ذلك بأسره.
(٨)
الطبيعة، هي الاختلاف ما بين الروح والله.
(٩)
كن بأكملك في كلّ شيء، لأن كونك كاملا في كلّ شيء، هو الطريقة المثلى للتصرف. كل الطرق تؤدي إلى المكان ذاته.
(١٠)
يحدث أن تسوطني تطلعاتي وأفكاري بالخوف والدهشة: حينذاك أتبين كم أن جزءا قليلا مني يظهر لي حقا.
(١١)
ما من أحد يفهم أحدا. كل شيء صُدفة، فجوة، لكنهم جميعا يتناغمون بتكامل.
(١٢)
كل ما يعرضه الإنسان، يعبر عنه، ليس سوى ملاحظة إلى هامش نص ممحو بالكامل. يمكننا، إلى حد ما، ووفقا لمعنى الملاحظة، أن نستنتج ما يمكن أن يكون عليه معنى النص: بيد أن شكا يبقى حاضرا دائما فكل المعاني الممكنة متعددة.
(١٣)
لا شيء موجود، الكل يصبح آخر.
(١٤)
كن متعددا مثل الكون.
(١٥)
ما يلزمنا، أن يتضاعف كل واحد من خلال نفسه.
(١٦)
علينا أن نعطي لكل عاطفة شخصية، لكل حالة نفسية، روحا.
(١٧)
كل ازدواج للأنا هو ظاهرة تنبثق في العديد من حالات الاستمناء.
(١٨)
في مسرح الحياة، من يلعب دور الرجل المخلص هو، بعامة، من يلعب دوره بشكل أفضل.
(١٩)
كم يكلفنا الإخلاص غاليا حين نكون أذكياء! هكذا علينا أن نكون شرفاء في طموحنا.
(٢٠)
الجنون، وبعيدا عن كونه أمرا شاذا، هو الشرط الطبيعي للكائن البشري. إن لم نكن نعي جنوننا، وكان معتدلا، فهذا معناه أننا طبيعيون. إن لم نكن نعيه وكان غير محدد، فنحن مجانين. أما إذا وعيناه، وبقي معتدلا، فنحن بشر بدون أوهام. إن وعيناه وكان غير محدد، عندها، نكون عباقرة.
(٢١)
إن بدأ كلب بالتفكير مثلنا (فرضية غير قابلة للتحقق)، فعندها يصبح كلبا أكمل من الكلاب الأخرى، ومع ذلك، من المحتمل جدا أن تقتله هذه الكلاب الأخرى، إذ سيعتقدون أنه مجنون.
(٢٢)
الإنسان أنانية لَطّفتها البلادة. الحيوان أيضا.
(٢٣)
لا يفقه الإنسان شيئا أكثر من الحيوانات؛ بل يعرف أقل منها. إنها تعرف كل ما هي بحاجة إلى معرفته. أما نحن، فلا.
(٢٤)
الإنسان حيوان يرغب في أن ينوجد.
(٢٥)
نحتقر ما نحن عليه تقريبا.
(٢٦)
نحن انمساخ الحماقة الماضية.
(٢٧)
أي مأساة في عدم الإيمان باكتمالية الإنسان!... وأي مأساة، في الإيمان بها!
(٢٨)
المرض هو شكل من أشكال الصحة. الإنسان السليم، إن كان موجودا، سيكون أكثر الكائنات التي نجدها شذوذا.
(٢٩)
يعرف المحللون النفسيون (أحيانا) كيف تعمل النفس المريضة، لكنهم يجهلون كيف تعمل النفس السليمة.
(٣٠)
التفرد هو أحد أشكال عدم المساواة ـ أيّ ليس واقع أن يُظهر إنسان هذه السمة أو تلك، التي تميزه أكثر عن الآخرين، لكن أن يكون، ببساطة، مختلفا عنهم.
(٣١)
أشعر بتعب شديد لأني وجدت أنني لن أجد شيئا. النهاية هي حصيلة ما نحن عليه. لقد قال الواعظ ذلك: زهو النفس وبلواها. (*) (*) سفر الجامعة
(٣٢)
الحياة، تعب حقا! لو كان هناك فقط، نمط آخر للحياة!
(٣٣)
الحياة أمر جدي فعلا، مشكلاتها جسيمة حقا، لدرجة أن لا أحد له الحق بأن يسخر منها. لو ضحكنا لكنا حمقى ـ على الأقل للحظة. البهجة هي الشكل التخاطبي للحمق.
(٣٤)
الشر في كل مكان على الأرض، وأحد أشكاله السعادة.
(٣٥)
نعذب إخوتنا البشر ببغضنا، بحقدنا، بخبثنا، لنقول بعد ذلك: »العالم سيئ«.
(٣٦)
هل هناك من شيء أكره وأقذر من الخنزير؟ كلا، إن تحدثنا عن الأشياء الخارجية فقط.
(٣٧)
أقول لكم: أحسنوا صنيعكم. لماذا؟ ماذا ستكسبون من ذلك؟ لا شيء، بالتأكيد لا شيء. لا المال ولا الحب ولا الاعتبار ولا حتى، ربما، سلام الروح. ربما لن تكسبوا شيئا من ذلك كله. إذاً لِمَ أقول لكم: أحسنوا صنيعكم؟ لأنكم لن تكسبوا من ذلك شيئا. لهذا السبب بالضبط يستحق الأمر العناء.
(٣٨)
لا تخشوا أن ينهار المجتمع من جراء المغالاة بالغيرية (حب الغير). لا خطر البتة، من هذه الناحية.
(٣٩)
الشهوة في إعطاء الحق للخصم.
(٤٠)
الشهوة في الاحتقار لا يمكن لها أن تساوي رؤية أنفسنا وهي تحتقر.
(٤١)
أبدل شخصيتي رويدا رويدا. أغتني (ربما يكمن التطور هنا).
(٤٢)
لا أتطور: أسافر.
(٤٣)
الجسد ظلّ الملابس
التي تلف كينونتك العميقة.
(٤٤)
لكثرة ما تعرّيت من كينونتي الخاصة، أصبح الوجود، بالنسبة إليّ، أن أرتدي الثياب.
(٤٥)
الحرارة، مثل ثياب غير مرئية، تعطينا الرغبة في أن ننزعها.
(٤٦)
أتخيل أننا سنصبح مناخات، يرفرف فوقها الوعيد بعاصفة تنفجر بعيدا... فراع الأشياء الجسيم، النسيان الكبير الذي سيحدث في السماء وعلى الأرض.
(٤٧)
يهب الهواء...بداية، ثمة صوت في الفراغ... تنفس فضاء في قعر حفرة، نقص في صمت الهواء.
(٤٨)
العاصفة: شعرت بالقلق، هنا، في الحال. فجأة توقف الصمت عن التنفس... لم يعد وعيي يرى سوى خلطة حبر على الورق.
(٤٩)
مخرج نيوتن ذو الحدين جميل مثل فينوس في لوحة ميلو.
المشكلة أن قلة من الناس تنتبه لذلك.
(إنها الريح، في الخارج)
(٥٠)
ثمة برق بهرني اليوم من الوضوح. لقد ولدت.
(٥١)
كلا: لا أريد شيئا.
قلت لكم ذلك، لا أريد شيئا.
لا تحاولوا استنتاج العبر!
العبرة الوحيدة هي في أن نموت.
(٥٢)
الحياة، هي أن ننتمي إلى آخر. الموت، هو أن ننتمي إلى آخر. الحياة والموت سيّان. لكن الحياة هي أن ننتمي إلى آخر من الخارج والموت إلى آخر من الداخل. الأمران يتشابهان سوى في أن الحياة هي الجانب الخارجي للموت.
(٥٣)
الموت هو منعطف الطريق،
الموت، أن نختفي عن الأنظار فقط.
(٥٤)
الأفضل أن نكتب من أن نجرؤ على العيش، بالرغم من أن الحياة ليست سوى أن نشتري الموز من على الشمس، هذا طالما بقيت الشمس وطالما هناك موز للبيع.
(٥٥)
لن يفتقدني أحد إن مت: لن يقال:
منذ الأمس تغيرت المدينة.
(٥٦)
من الضروري أن نبحر، العيش ليس ضروريا...
العيش ليس ضروريا: الضروري هو أن نبدع.
السفير
20 12-2008