حياة الشاعرة غويندولين ماك ـ غوين (1941 ـ 1987) القصيرة التي لم تتجاوز 45 عاماً، مليئة بالأسرار والأسفار والإحباط والغموض، كما أشعارها التي كانت لافتة لنظر أقرانها في بداية الستينات. كان لحضورها الأثير وقراءاتها تأثير عميق على مستمعيها حين كانت تحضر وتشارك في القراءات الشعرية التي كانت تجري في المقهى "البيت البوهيمي" ولم تكن قد بلغت العشرين من عمرها بعد. كانت معاناتها قاسية، عاشت الفترة الأشد حلكة بعد الحرب العالمية الثانية، بالاضافة إلى ظروف عائلتها، حيث كان والدها مدمناً على الكحول ووالدتها مصابة بأمراض عصبية، ويعتقد انها قضت انتحارا. كانت مأخوذة بالشرق ومصر القديمة وأساطيرها على وجه الخصوص، فسافرت إلى بلدان الشرق الأوسط كمصر وسوريا ولبنان وتركيا ونرى ذلك حاضراً ومنعكساً في قصائدها وتطرقها إلى الصوفية والأساطير والرموز الشرقية. في شعرها اهتمام باللغة وتأليف الأساطير، وتحريفها عن واقعها، كما كان ذلك واضحاً في كتابات ذلك الجيل وبخاصة في قصائد مارغريت أتوود، وليونارد كوهين. كتبت الشاعرة روز ماري سولفين عنها سيرة بيوغرافية مثيرة لاهتمام الباحثين. عاشت الشاعرة وماتت في تورنتو، وتكريما لها أطلق اسمها على أحد المتنزهات ونصب لها تمثال نصفي في تورنتو.
في هذه المختارات نقدم للقارئ إحدى أهم قصائدها التي بعنوان "فطور للبرابرة" في مقاربات ومفارقات بين الشهوة والرغبات الجسدية وطعام الجسد المادي والروحي. نسافر مع قصيدتها بين بقايا آثار سورية ومصرية. رغم سريالية المرحلة شعرياً ورغم عزلتها وابتعادها عن مظاهر طبيعة المجتمع الاستهلاكية، نلحظ انغماسها بما يدور في العالم ونقرأ مخلفات الحروب في بلاد كلبنان وايرلندا. القصائد كتبت ابتداء من 1982 حتى رحيلها في اكتوبر 1987.
(قصيدة "الماء" مأخوذة من قصائد للشاعرة بعنوان: لورانس العرب، ويرد اسم داحوم الذي كان مساعدا للورانس العرب)
فطور للبرابرة
أصدقائي، أحبتي البرابرة،
هناك هذا الجوعُ الذي ليس للطعام ـ
العينُ على السرّة تجعل الشهية
دائرية
محاطة بتخيلات عن أصناف من السندويشات العذبة،
وفطور ذهبيّ للفكر
يؤكل برفقة المستوحشين
والكتب في الصحون
دعونا نؤلّفُ انطولوجيا من الوصفات،
دعونا ننقح للفطور
أشد شهواتنا سرية
دعونا نشترك بالملاعق، السكاكين
وعدّة المائدة في طبق كوني،
دعونا نجيبُ على الجوع
بخيالات فائرة
وشاي رؤيوية،
سلطة سرّية من أناجيل مُبَهّرة،
وقواميس متبّلة
(برابرتي، سوف نستهلك غموضنا)
وهل نستطيع، هل نستطيع أن نخمد عين شهواتنا المتسعة؟
حول طاولتنا الخشبية المنحوتة سوف نجلس
حتى يغدو شعرنا طويلاً وعيوننا واهنة،
نأكل، يا أصحابي الشرهين،
نأكل حتى لا نقدر بعدها
على تحريك فكّنا
إلى أن تكفّ تجاويف الروح الجشعة عن الشكوى،
ونحدق في بعضنا من خلال الصدأ المتراكم فوق عدّة المائدة،
نشرب القهوة التي تستغرق أبدية،
حتى تغشانا الرؤية، نطفحُ،
نضحك، برابرتي، نرجُّ العالم ـ
وحول هذه المائدة نصرّحُ لبعضنا
حول مائدة من عظام وخردة معدنية
مائدة هائلة من مهملات مكدّسة:
قسماً بالله كانت تلك وجبةٌ.
الماء
عندما تفكر به، الماءُ هو كل شيء. أو بالأحرى
الماء يجازف باكتشاف كل شيء ويصبح كل شيء.
له
كل الأمزجة والمذاقات التي يمكن تخيلها. الماءُ تاريخٌ
ونهاية العالم ماءٌ أيضاً.
تذوقتُ الماء
من لبنان إلى ميران شاه. في فرنسا كان له مذاق
دروع الصليبيين، سيوف، أسطوانة خواتم في أصابع السيدات.
في ربيع لبنان، الماء لم يكن له لون، ولذلك كان له كل الألوان،
خارج دمشق
كان يتنكر في هيئة ثلج، يدعهم يقطّعونه
وبالملاعق يحملونه إلى عنب الصيف الأحمر المذهل.
دافعتُ عن الماء لسنوات، رغم أنهم أخبروني
عن مشروبات أخرى.
الماء، لن يكذب عليك أبداً. حتى عندما يدسُّ نفسه
بين ممتلكات الآخرين. للماء طراز.
ليس للماء إدراك ولا يشعر بالعار، الماء
يزدهر بالماء، بنفسه يروي عطشه.
له غالباً طعم ملوحة البحر والأمونياك، ودائماً
يعرف طريق العودة إلى البيت.
عندما ترغب أن تسافر بعيداً جداً، افعل كما يفعل البدويون
اشربْ حتى الثمالة،
ثم اذهب قصداً بين الآبار.
(عام 1982)
الغرفة المطلقة
قدمنا إلى مكان، كان مركز أنفسنا
في الصحراء ما بين حلب وحماه
قصدنا هذا المكان الروماني حيث تعشقت
مئات أصناف العطور تماماً مع الجدران.
هناك الرجل العجوز والصبي سارا بنا بين ردهات
من الياسمين، وأنواع أخرى من الورود، ثم
إلى هذه الصالة الفخمة حيث جميع العطور تطغى على بعضها الآخر، في سكون
كل ما تنفساه كان هواء صحراوياً نقياً.
قلتَ "نحن نقول عن هذه الغرفة انّها الأحلى"
وأنا أعتقدتُ: لأنه لا شيء هنا
وعرفت حينها أنك لم تمتلك مني شيئاً، وأنا
لم أمتلك شيئاً منك يا داحوم
كنا أغنياء ممتلئين دهشة، حيث لا شيء
يملأ الغرفة وهذا الجوار.
أنتَ نظرتَ في عينيّ، نافذتي روحي
لأنهما زرقاوان ـ ثقبان في جمجمتي ـ
قلتَ أنك تستطيع أن ترى من خلالهما
ما بعد السماء القادرة، الهادئة.
(1982)
الحصان الأبيض
هذا أول حصان يأتي إلى العالم،
من البحر انطلق ليقف الآن
في حقل من اشعة الشمس المدوّخة،
عيناه عظيمتان ممتلئتان بالحبور والحكمة
رأسه يستدير باتجاهك مندهشاً،
من دهشتكَ
وكيف حصل أنك هنا، بينما
شظايا الحروب التي تم نسيان أسبابها،
احتلت أقدام الأطفال وبطونهم
والقذائف الفوسفورية، خلّفت رخاماً محروقاً
من أحشاء العشاق
في ايرلندا ولبنان وكل البلاد المكسورة
في العالم وحيث لم يذهب هذا الحصان أبداً.
تمدّ يدك لتلمسه، إنها المرّة الأولى التي
رأيتَ فيها يديك، كما إنها المرة الأولى التي شممتَ
النار الزرقاء في الصخرة، أو تذوقتَ الهواء الأزرق، أو
سمعتَ ماذا يقول البحر عندما يتكلم في نومه.
ولكن ألم تأت النهاية المتألقة، أنت تستغرب،
والعالم، ألا يزال يحترق؟
اذهبْ وأعلن: إنّه الصباح،
وهذا الحصان الذي شعر رقبته بلون زبد البحر
هو أول حصان يراه العالم،
الحصان الأبيض الذي يقف الآن متطلّعاً إليك
عبر هذا الحقل من أشعة الشمس اللامتناهية.
(1987)
المستقبل
الاحد 20 تموز 2008