مقدمة
يعتبر فاسيلي غروسمان ( 12 ديسمبر 1905 – 14 سبتمبر 1964 ) من كتاب القرن العشرين الذين غمرهم النسيان والتجاهل لعقود طويلة من الزمن ليعودوا الى صدارة الاهتمام الأدبي في مطلع الألفية الجديدة . وصفه " مارتين آميس " في " الغاردين " بأنه " تولستوي " القرن العشرين . ولعل هذا القول لا يعكس مبالغة في الإطراء بقدر مايمثله من تقييم صادق للأهمية الفكرية والأدبية الكبيرة لأعمال غروسمان . ينطبق ذلك على محتوى هذه الأعمال واسلوب كتابتها على حد سواء .
في عمله الرائع " الأمل والذاكرة " يقدم " تزفيتان تودوروف " وصفا فريدا من نوعه لشخصية " فاسيلي غروسمان " بقوله أنه الكاتب الذي " انتقل من حال الى حال وبشكل جذري, أي من مرحلة الخنوع الى الثورة , ومن عمى البصيرة الى الذهن الصافي والفكر الثاقب . انه الكاتب الوحيد الذي بدا حياته كعبد أورثودكسي يهاب النظام , وانتقل في مرحلة ثانية , الى مواجهة جريئة لمشكلة الدولة التي يسود فيها الحكم المطلق بكل اتساعها "(1) لا عجب إذن إن تم اعتبار " فاسيلي غروسمان " من قبيل الشخصيات التي ستبقى " حاضرة في أذهاننا لشحننا بالأمل وإخراجنا من دائرة اليأس " بحسب تعبير " تودوروف " في كتابه المذكور .
ولد " فاسيلي غروسمان " في بلدة " برديتشيف " وهي إحدى المدن ذات الغالبية اليهودية في أوكرانيا عام 1905 , وتخرج في عام 1923 من جامعة موسكو كمهندس كيميائي , الا أن ميوله في الكتابة الأدبية سرعان ما طغت على اهتماماته ليكرس لها كل طاقته . بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1941 , التحق " غروسمان " بجريدة " النجم الأحمر " كمراسل صحفي ورافق الجيش الأحمر في كافة مراحل حربه مع ألمانيا الهتلرية , بدء من الهزائم الكارثية في مطلع الحرب وانتهاء بالانتصار المدوى الذي تكلل باقتحام " برلين " وسقوط الرايخ الثالث . إضافة الى مقالاته التي كان يرسلها من الخطوط الأمامية للجبهة والتي أكسبته شهرة خاصة في أوساط الجنود السوفيت آنذاك لصدقها وقربها من معايشتهم اليومية على خطوط القتال , احتفظ " غروسمان " بدفتر يوميات دون فيه ملاحظاته الثاقبة ذات الدقة الفوتوغرافية في وصف المواقف التي كان يعيشها , وسلوكيات مختلف فئات الشعب الذين احتك بهم خلال رحلته المارثونية من " ستالينغراد " حتى " برلين " . لاحقا قام المؤرخ العسكري البريطاني " أنتوني بيفور " بترجمة اليوميات بالتعاون مع " لوبا فينوغرادوفا " ونشرت في كتاب منفصل عام 2005 . ويعتبر نص " تربلينكا" من أشهر ما كتبه " غروسمان " خلال فترة الحرب ويسجل فيه بصورة مذهلة في تفاصيلها واقع الإبادة الجماعية التي نفذها النازيون في معسكر الاعتقال " تربلينكا " وهو من أوائل المعسكرات التي تم تحريرها . لاحقا تم الاعتماد على هذا النص كوثيقة إدانة خلال محاكمات " نوريمبورغ " الشهيرة .
ملحمة " غروسمان " بلا منازع هي روايته " الحياة والقدر " . وهي رواية ضخمة تصل الى ما يضاهي 800 صفحة من القطع المتوسط . أحداث ومواضيع وشخصيات الرواية متشعبة ولكنها جميعا تتمركز حول مسألتي " الحرية " و" الحب " ومصائرهما في حياة مختلف شخصيات الرواية التي تجري أحداثها خلال فترة الحرب العالمية الثانية. في فبراير 1961 , و بعد مضي أربعة شهور من تسليمه للمخطوطة داهم البوليس السري السوفيتي شقة " غروسمان " وتمت مصادرة كافة نسخ الرواية . بعد محاولات يائسة يقابل " غروسمان " أحد كبار منظري الحزب الشيوعي السوفيتي آنذاك " ميخائيل سوسلوف " الذي يخبره بأن الرواية لن تنشر في الاتحاد السوفيتي حتى بعد مضي 250 سنة ! ويبدو أن " غروسمان " قد ارتكب خطيئة الخطايا عندما أبرز أوجه التشابه بين النظام السوفيتي والنازي في روايته . لحسن الحظ أن نسخة وحيدة كانت محفوظة لدى أحد أصدقائه تم تسريبها عام 1974 الى خارج الاتحاد السوفيتي من قبل عالم الذرة المنشق آنذاك " أندريه ساخاروف " , ولم تنشر الرواية الا مطلع عام 1980 عن دار نشر سويسرية , وفي 1985 صدرت النسخة الانجليزية الأولى للرواية بترجمة رائعة من قبل " روبرت تشاندلر " .
النص المنشور أدناه تمت ترجمته الى العربية من النسخة الانجليزية للرواية ( الفصل الخامس عشر من القسم الثاني من الرواية ) .
في معسكر الاعتقال النازي تبرز مجموعة من الشخصيات في الرواية. في الصدارة تبرز شخصية " موستوفسكي " أحد قدامى البلاشفة الذين شاركوا في ثورة أكتوبر ١٩١٧ . يتم القبض عليه من قبل الألمان بالقرب من " ستالينغراد " لينقل الى أحد معسكرات العمل في ألمانيا . هناك يتعرف على مجموعة متنوعة من المعتقلين منهم " إيكانوف " أحد معتنقي تعاليم تولستوي السابقين ، والذي يتم احتقاره من قبل بقية المعتقلين بوصفه " قديسا أحمق " . هناك أيضا شخصية " تشيرنستوف " من أتباع " المناشفة " والذي يدخل معه " موستوفسكي " في مشادات كلامية لاتنتهي . يتم اعتقال " موستوفسكي " بتهمة التآمر للهرب من معسكر الاعتقال ، ويتم التحقيق معه من قبل الضابط " لينتس " الذي يدخل معه في حوار ذو عمق فلسفي شبيه بفصل " المحاكمة الكبرى " في رواية "دوستويفسكي " " الأخوة كارامازوف " . يسعى " لينتس " لاقناع " موستوفيسكي " بفكرة أنه لا يوجد أي اختلاف جوهري بين النازية والشيوعية من ناحية طريقة التفكير وإنهم جميعا يجب أن يتعاونوا مع بعضهم البعض بدلا من الاقتتال .خلال جلسة التحقيق-الحوار يسلم " لينتس " بضعة قصاصات من الورق مكتوبة بخط يد " إيكانوف " كانت مدسوسة تحت مخدة " موستوفسكي " . يعبر " لينتس " عن احتقاره للكلام المكتوب في هذه القصاصات ويسلمها لموستوفيسكي . لاحقا وبعد عودته الى زنزانته في فجر اليوم التالي يستلقي " موستوفسكي " على سريره الخشبي ويبدا بقراءة قصاصات " ايكانوف " التي يبدأ مطلعها بالسؤال : ماهو الخير ؟
ما هو الخير ؟
فاسيلي غروسمان - الفصل الخامس عشر – القسم الثاني - رواية " الحياة والقدر "
ترجمة : محمد ديتو
قلة من الناس حاولت تعريف " الخير “. ما هو " الخير " ؟ " الخير " لمن ؟ هل هناك خير عام – ينطبق على جميع الناس, كل القبائل, ولكافة ظروف الحياة ؟ أو أن ما هو " خير " بالنسبة لي يمثل " شرا " بالنسبة لك ؟ هل " خير " شعبي هو " شر " لشعبك ؟ هل " الخير " خالد وثابت ؟ أو أن " خير " الأمس هو " شر " اليوم, والعكس صحيح ؟
يوما ما, عندما يقترب يوم الحساب الكبير, لن يكون الفلاسفة والواعظين هم فقط من سيتأمل مليا في طبيعة " الخير "و" الشر “, بل كل إنسان عاش على وجه هذه البسيطة, سواء كان أميا أو متعلما.
هل حقق الإنسان تقدما منذ آلاف السنين في إدراكه لمفهوم " الخير " ؟ هل ينطبق هذا المفهوم بصورة مشتركة وعامة على جميع البشر – يهودا كانوا أم من الإغريق – كما افترضت تعاليم الرسل والأنبياء الأوائل ؟ هل ينطبق على كافة الطبقات الاجتماعية, والأمم, والدول ؟ هل يمكن أن يشمل أيضا جميع الحيوانات, والأشجار والطحالب – كما كان " بوذا “ وأتباعه يدعون ؟ نفس ال " بوذا " الذي أنكر الحياة من أجل أن يلبسها لباس " الخير " و " الحب " .
بعد مضي خمسة قرون على نشؤ " البوذية " , أتت التعاليم " المسيحية " لتضع حدودا لمجال تطبيق " الخير " ضمن حياة الكائنات . " الخير " هو ما يمكن أن يطبق على الكائنات الحية البشرية فقط . ولكن " خير " المسيحيين الأوائل الذي سعى لأن يشمل كل البشر , تحول لاحقا , الى " خير مسيحي خالص " يختلف عن " خير المسلمين " .
لاحقا استغرق الأمر بضعة مئات من السنين , حتى يمكننا أن نشهد انقسام " الخير المسيحي " الى " خير محدد " يخص الكاثوليكية , وثان يخص " البروتسنتانية " , وآخر يخص " الأرثودوكسية " . وسرعان ما انقسم " خير " الأخيرة الى نوعين مختلفين أحدهما يخص معتنقي التعاليم القديمة والثاني معتنقي التعاليم الجديدة .
في نفس الوقت كان هناك دائما " خير " للفقراء وآخر للأثرياء. كما أن هناك " خير " خاص بأصحاب البشرة البيضاء, وآخر للسمراء والصفراء... وهكذا شهدنا ولادات لأصناف مختلفة من " الخير " كل صنف منها يتناسب مع ما يلائم الطائفة والعرق والطبقة . أي شخص خارج نطاق هذه الدوائر السحرية سيتم إقصائه من " الخير " .
بدأ الناس يدركون فداحة سفك الدم باسم " خير " ضيق الأفق ومشكوك في أمره. أحيانا يبدو أن مفهوم " الخير " ذاته قد تحول الى سوط يؤدي الى شر أقسى من الشر ذاته . أصبح هذا " الخير " عبارة عن قشرة خارجية فقدت نواتها المقدسة. من يستطيع أن يعثر على هذه النواة المفقودة ؟
ولكن ما هو " الخير " ؟ اعتدنا القول بأنه عبارة عن فكرة , وفعل مرتبط بها , يؤدي الى تقوية وانتصار الإنسانية , أو العائلة , أو الأمة , أو الدولة , أو الطبقة أو الإيمان .
عندما يكافح الناس من أجل خير محدد , فإنهم دائما يسعون الى إلباسه لبوس الكونية . يقولون : أن خيرنا يتوافق مع الخير الكوني والعالمي : إن خيرنا ضروري لنا وللجميع : بخدمتي لخيري فانا أخدم الخير الكوني في نفس الوقت .
وهكذا انتحل " خير " الطائفة والطبقة والأمة لباسا كونيا خادعا, من أجل تبرير صراعه ضد " الشر “.
ولكن حتى " هيرودوس " لم يسفك الدماء باسم " الشر " , بل من أجل " خير " محدد . فقد أتت للحياة قوة جديدة تهدد بتدميره هو وعائلته والمقربين له . قوة تهدد بخراب مملكته وجيوشه. لكن ما ولد لم يكن " الشر " , بل المسيحية ومنها بدئت الإنسانية تسمع كلمات لم تعهدها من قبل : " لا تدينوا لكي لا تدانوا. لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون. وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم. وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا الى مبغضيكم. وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم. فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا انتم أيضا بهم. لان هذا هو الناموس والأنبياء “.
ما الذي جلبته هذه التعاليم للبشرية ؟ عالم من الأيقونات البيزنطية , تعذيب محاكم التفتيش , الصراع الدامي ضد الهراطقة في فرنسا وألمانيا , النزاع بين البروتسنتانية والكاثوليكية , مؤامرات ودسائس جماعات الرهبان , والصراع بين " نيكون " و " آفاكون " (2) , والنير الساحق الذي تم تسليطه على العلم والحرية , الإبادة التي قام بها المسيحيون للسكان الوثنيون في " تسمانيا " (3), الأوغاد الذي أحرقوا قرى الزنوج في أفريقيا . لقد جلبت هذه التعاليم معاناة أكثر من كافة الجرائم التي ارتكبت من أجل " الشر " .
إن قسوة الحياة تؤدي الى ولادة " الخير " في القلوب العظيمة . لاحقا تسعى هذه القلوب الى إعادة هذا " الخير " الى الحياة مرة أخرى , على أمل أن تجعل الحياة تتوافق مع ما تعنيه صورة " الخير " لديها . ولكن الحياة لا تتغير وفق تصوراتنا عن " الخير " . بل أن ما يحدث هو أن رؤيتنا للخير تغرق في مستنقع الحياة , فتفقد سمتها الكونية , وتنقسم الى شظايا مبعثرة , يتم استغلال بعضها وفق ما يتطلبه الوضع الراهن . إن الناس تخطئ في رؤيتها للحياة كصراع بين الخير والشر . فهؤلاء الراغبين في تحقيق كل الخير للإنسانية, هم في نفس الوقت غير قادرين على زحزحة الشر بمثقال ذرة.
نعم هناك ضرورة للأفكار الجديدة من أجل حفر قنوات جديدة للمياه, وإزالة الأحجار وتسوية المنحدرات الصخرية والغابات. يلزمنا أحلام بخير كوني من أجل تمكين المياه أن تجري بسلاسة وانسجام.... نعم , لو كان مقدرا للبحر بأن يفكر , لكانت كل عاصفة قادرة على أن تجعل الأمواج تحلم بالسعادة . وستعتقد كل موجة تصطدم بمنحدر صخري أنها تموت من أجل خير البحر, ولن يخطر ببالها أن آلاف الأمواج قبلها وبعدها قد أتت للوجود بفعل الرياح.
تمت كتابة العديد من الكتب حول طبيعة " الخير " و " الشر " والصراع بينهما ... هناك حزن عميق ولا يمكن إنكاره في كل ذلك : كلمنا لمحنا بزوغ فجر " خير " خالد , لن يكون " الشر " قادرا على التغلب عليه – " شر " أبدي ولكنه لن يستطيع أن يتغلب على " الخير " – كلمنا لمحنا هذا الفجر , نشهد سفك دماء الأطفال والكبار في السن معا .... ليس الإنسان وحده فقط سيكون عاجزا أمام تخفيف وطأة هذا " الشر " , بل حتى الإله ذاته سيكون عاجزا أيضا .
" صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ، بُكَاءٌ مُرٌّ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَتَأْبَى أَنْ تَتَعَزَّى عَنْ أَوْلاَدِهَا لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ " (4) ما أهمية كل تعاريف الفلاسفة عن الخير والشر لامرأة فقدت كل أبنائها ؟
ولكن ماذا لو كانت الحياة نفسها هي " الشر " ؟
لقد شهدت بعيني ولادة الجبروت الذي لايقهر لفكرة " خير المجتمع " في بلادي . رأيت كيف يتم الصراع من أجل هذا " الخير " خلال مرحلة تشكيل " التعاونيات " , ورأيتها في عام 1937 . لقد شهدت كيف تمت إبادة الناس باسم فكرة تحمل كل نقاوة وإنسانية المثل العليا للمسيحية . رأيت قرى بأكملها تموت من الجوع , وشاهدت أطفال الفلاحين يموتون في ثلوج سيبريا , رأيت قطارات متجهة الى سيبيريا محملة بالمئات والآلاف من رجال ونساء من موسكو , لينينغراد ومن كل مدينة روسية . جميعهم اعتبروا أعداء للفكرة العظيمة البراقة عن " الخير الاجتماعي " . على الرغم من نبل هذه الفكرة , الا أنها قتلت البعض بلا رحمة , وشلت حياة البعض الآخر , وفرقت بين الأزواج وأبعدت الأطفال عن ذويهم .
الآن ومع تزايد فظائع " النازية “, فان الهواء قد أصبح مليئا بتأوهات ونحيب المقهورين. اتشحت السماء باللون الأسود الكالح ، وانطفأت الشمس بفعل الدخان المتصاعد من أفران الغاز . ولكن حتى هذه الجرائم التي لم يشهدها الكون من قبل – حتى من قبل الإنسان على الأرض – تم ارتكابها باسم " الخير " .
ذات مرة , وبينما كنت أعيش في غابات الشمال, اعتقدت بأن " الخير " لن يوجد في الإنسان أو في عالم الحيوانات المفترسة , أو الحشرات , بل في المملكة الصامتة للأشجار . كم كنت مخطأ في ذلك الاعتقاد ! لقد رأيت الغابة وهي تتحرك ببطء وبغدر ضد كل بوصة من تربة الأعشاب والحشائش ...في البداية تطير ملايين البذور في الهواء لتتبرعم وتنمو بسرعة , مدمرة كل ما يقف حجرة عثرة في طريقها من الأغصان الكثيفة . ثم تبدأ الحرب الطاحنة بين ملايين الأغصان ضد بعضها البعض , ولا ينجو من هذه الحرب الشعواء إلا من يتمكن من يدخل في تحالف مع الأغصان المتسقة مع بعضها البعض ليبنوا بسلاسة المظلة المقببة للغابة الشابة , ولكن السريعة الزوال . تحت هذه القبة , تتجمد أخشاب الزان والصنوبر حتى الموت وهي تغرق في غسق عبودية الأشغال الشاقة .
مع مرور الزمن يبدأ تساقط أوراق الأشجار معلنا شيخوخة أشجار الصنوبر الثقيلة , لتنهار بكل ثقلها على الأرض مدمرة شجيرات جار الماء وأخشاب الزان . هذه هي حياة الغابة – صراع دائم من قبل الجميع ضد الكل . فقط الأعمى هو من يمكنه أن يعتقد أن مملكة الأشجار والأغصان هي موطن " الخير " . .. ألا يعني ذلك أن الحياة بذاتها هي " شر " ؟
لا يمكننا العثور على " الخير " عبر مواعظ الدعاة الدينيين والأنبياء , ولا في تعاليم علماء الاجتماع والقادة السياسيين , ولا في المنظومات الأخلاقية للفلاسفة ... على الرغم من كل ذلك فان عامة الناس , بطبيعتها , تحمل الحب في قلوبها , وتشعر بالشفقة لكل ما ينبض بالحياة . وفي نهاية يوم عملها , فإنها تفضل دفء القلوب على نيران الساحات العامة .
نعم ففي مقابل هذا " الخير " الذي يتم التشديد على أهميته, هناك " الطيبة " الإنسانية اليومية... " طيبة " امرأة عجوز تحمل الخبز لسجين , " طيبة " جندي يسمح لعدوه الجريح أن يشرب ماء من قارورته , " طيبة " الشباب تجاه كبار السن , " طيبة " فلاح يخفي يهوديا طاعنا في السن في المستودع العلوي لكوخه . إنها " طيبة " حارس السجن الذي يخاطر بحريته من أجل أن يمرر رسالة من سجين - ليس الى رفاقه الأيدولوجين - بل الى زوجته وأمه .
" الطيبة " الخاصة لفرد تجاه فرد آخر: " طيبة " هشة وطائشة ومجهولة. يمكننا القول بأنها " طيبة " فاقدة للإدراك, لا واعية . " طيبة " تقع خارج أنظمة " الخير " الاجتماعي والديني .
ولكن لو تأملنا بعمق لأدركنا أن هذه " الطيبة " العرضية والطارئة هي في الواقع " طيبة " خالدة وسرمدية . انها تمتد لتمس كل ما هو حي في هذا الوجود , حتى لو كان فأرا , أو غصن شجرة منحني يقوم أحد المارة بتقويمه وهو يمشي في طريقه .
حتى في أزمنة الرعب, عندما تمارس كل أفعال الجنون باسم الخير الكوني ومجد الدولة ...وتتطاير فيها مصائر البشر كالأغصان في مهب الريح ... ويجبرون على أن يحفروا قبورهم بأياديهم ليتساقطوا كالأحجار المتدحرجة في خضم الانهيار الثلجي .... حتى في تلك الأزمنة, تنتشر هذه " الطيبة " المثيرة للشفقة والعديمة الإدراك في فضاء الحياة كذرات الراديوم.
يصل بضعة جنود ألمان الى إحدى القرى لتنفيذ انتقام صارم ضد مقتل جنديين . تصدر الأوامر بخروج النساء من أكواخهم والشروع بحفر قبر جماعي كبير في أطراف الغابة . بعدها يقيم بضعة جنود في أحد الأكواخ الذي تقطنه احدى النساء في متوسط عمرها , بعد أن تم اقتياد زوجها مع عشرون فلاحا من نفس القرية الى مركز الشرطة . لم تستطع المرأة النوم حتى الصباح . يعثر الجنود على سلة من البصل وجرة من العسل في القبو . أشعلوا الفرن , وطبخوا عجة من البيض , واحتسوا " الفودكا " . قام أكبرهم سنا بالعزف على آلة " الهارمونيكا " بينما شغل الأخرون أنفسهم بالغناء والرقص . لم يكترثوا حتى بوجود ربة المنزل , فهي لا تعني لهم أي شيئا , بل لعل قيمتها لا تضاهي حتى قيمة قطة جالسة في أحد زوايا البيت . عندما انبلج نور الصباح , ابتدأ الجنود بفحص أسلحتهم النارية , وفجأة اخترقت رصاصة طائشة بالخطأ معدة الجندي الكبير في السن . ساد جو من الفوضى والصراخ بين الجنود وتسارعوا لتضميد الجندي الجريح وتمديده على الفراش . بعدها تم استدعائهم من الخارج . خرجوا جميعا بعد أن كلفوا المرأة برعاية الجندي الجريح . فكرت المرأة مع نفسها حول بساطة وسهولة أن تقوم بخنق هذا الجندي . ها هو أمامها , يهذي ويهمهم , عيونه مغمضة , ويبكي منتحبا وهو يعض على شفته من الألم . فجأة يفتح عينه وينطق بلغة روسية واضحة : " ماء ... أريد ماء يا أماه " . " عليك اللعنة " تجيبه المرأة . " ما ينبغي علي فعله هو شنقك " .... ولكن ما ستقوم به سيكون عكس ما قالته . لقد سقته الماء ! ... أمسك الجندي بيديها طالبا مساعدتها له في الجلوس . كان يتنفس بصعوبة نتيجة لنزيفه . شدته للأعلى وأطبق يديه حول رقبتها , وبدأ يشرب الماء .
فجأة توالت أصوات وابل من طلقات الرصاص بالخارج , وبدأت المرأة بالارتجاف رعبا .
لاحقا أخبرت المرأة الناس بما فعلته . لم يتمكن أي أحد منهم من استيعاب ما فعلته , وعجزت هي ذاتها من تفسير ذلك لنفسها !
انها ذات " الطيبة " اللاشعورية , التي نمقتها عندما نتذكر أمثولة الحاج الذي احتضن الأفعى في حضنه ليدفئها . انها نفس " الطيبة " التي ترحم عنكبوتا لدغ طفلا . " طيبة " مجنونة وعمياء . يجد الناس متعة في قراءة القصص والأمثولات عن مخاطر مثل هذا النوع من " الطيبة " . ولكنهم لا يجب أن يشعروا بالخوف منها . من الأجدر لهم أن يخافوا عوضا عن ذلك على سمكة نهرية تقذفها الأمواج في قلب البحر المالح .
بين فترة وأخرى , ينطفئ الضرر الذي يسببه مجتمع , طبقة , عرق أو دولة , بفعل النور المنبعث من أناس موهوبين بهذا النوع من " الطيبة " .
ان هذه " الطيبة " الحمقاء هي ما يمثل حقيقة الإنساني في الكائن البشري . وهي ما تميزه عن باقي الكائنات وتجسد أعلى منجزات النفس الإنسانية . ...لا , تقول لنا هذه " الطيبة " , إن الحياة ليست هي " الشر " .
إنها " طيبة " فاقدة للإدراك وللكلمات معا. فهي " عمياء " بالغريزة. عندما ألبستها المسيحية تعاليم آباء الكنيسة , بدئت بالتلاشي تدريجيا , وتحولت نواتها الى قشرة . إنها تكون قوية فقط اذا كانت خرساء ولاشعورية , ومخفية , تعيش في أعماق قلب الإنسان , قبل أن تتحول الى أداة أو بضاعة في أيدي الواعظين , وقبل أن يتم صهر خامتها الثمينة في الذهب البراق للقداسة . إنها بسيطة كالحياة ذاتها . حتى تعاليم يسوع المسيح حرمتها من قوتها .
ولكن , كما فقدت الإيمان بالخير , بدئت بفقده أيضا في حالة " الطيبة " . إنها تبدو جميلة ولكن عديمة القدرة , مثل قطرات الندى . ولكن ... ما فائدتها اذا كانت غير معدية ؟
كيف يمكننا منحها القوة بدون أن نفقدها , بدون أن نحولها الى قشرة كما فعلت الكنيسة ؟
" الطيبة " قوية فقط عندما لا تمتلك السلطة. كلما حاولنا منحها قوة السلطة, تبدأ بالانطفاء والخفوت حتى تفقد نفسها وتتلاشى تماما.
اليوم أستطيع أن أرى القوة الحقيقة للشر . تحت سماء خاوية يقف الإنسان لوحده على الأرض . كيف يمكن إطفاء شعلة الشر ؟ هل يمكن أن يتم ذلك بعون بضع قطرات من الندى , من " الطيبة " الإنسانية ؟ ... لا , لن تستطيع كل قطرات المياه الكامنة في كل السحب والبحار أن تطفئ هذه الشعلة , دع عنك بضع قطرات من ندى " الطيبة " المجمعة قطرة فقطرة منذ زمن المسيحية الأولى حتى عصرنا الحديدي .
نعم بعد أن راودني الشك مرارا في العثور على " الخير " في كل من الإله والطبيعة , ابتدأت بالشك في إمكانية وجوده في " الطيبة " .
ولكن كلما تمعنت في فظائع الفاشية , كلما تبين لي بوضوح أكثر قدرة الصفات الإنسانية على الصمود والبقاء حتى على حافة القبر ومداخل أبواب غرف الغاز .
لقد تم صقل وتشذيب إيماني في الجحيم . خرج إيماني من ثنايا دخان المحارق واسمنت غرف الغاز . لقد رأيت بأن الإنسان لم يكن عقيما في صراعه ضد الشر , بل أن قوة الشر ذاتها هي المصابة بالعقم في حربها على الإنسان . إن لا سلطة " الطيبة " , لاشعوريتها , هي سر خلودها . لايمكن قهرها أو هزيمتها . كلما بدت لنا حمقاء , عديمة الإدراك , فاقدة للحيلة والقدرة , كلما أصبحت بفعل ذلك أكثر رحابة واتساعا . سيقف " الشر " بأكمله عاجزا أمامها . سيعجز أمامها حتى الأنبياء والمبشرين الدينيين , والمصلحين , وكافة القادة السياسيين وزعماء المجتمع . هذا الحب الأعمى المبهم هو معنى الإنسان .
ان التاريخ البشري ليس صراعا بين " الخير " في سعيه للتغلب على " الشر " . إنها معركة تخوضها قوى " الشر " العظمى لتسحق نواة صغيرة من " الطيبة " الإنسانية . وطالما ما يمثل الإنساني في الإنسان لا زال قادرا على البقاء , فان " الشر " لن ينتصر .
بعد أن أنهى القرأة , جلس " موستوفسكي " لبضعة دقائق مطرقا برأسه وهو يفكر بعينين نصف مغمضتين ....نعم إن الشخص الذي كتب كل ذلك لا بد أن يكون مصابا بالهوس. انه بالتأكيد حطام نفس ضعيفة .
هذا الواعظ يدعي بأن السماء فارغة .... انه يرى الحياة بوصفها صراعا بين كل شئ ضد الجميع .
وفي النهاية يبدأ بقرع نفس تلك الأجراس القديمة , ويثني على " طيبة " امرأة عجوز , بأمل أن يطفئ هذا الحريق العالمي بحقنة شرجية . ياله من هراء !
بدأ " موستوفسكي " بالتأمل في جدران الزنزانة الرمادية متذكرا في نفس الوقت الكرسي الأزرق ومحادثته مع " لييس " . طغى عليه شعور عارم بالثقل : لم يكن رأسه هو ما يؤلمه , بل قلبه . كان يتنفس بصعوبة بالغة . لقد تيقن بأنه أخطأ بشكه في " ايكونيكوف " . ان قصاصات الورق التي كتبها هذا القديس الأحمق أثارت الاحتقار لديه بنفس الدرجة التي أثارته لدى الضابط النازي الذي حقق معه . أعاد مراجعة موقفه من " تشيرنسكوف " والتفكير بالحقد الذي كان يحمله " الغستابو " لأمثاله .... كانت الحيرة وحالة الإحباط التي أمسكت بخناقه تلك اللحظات أقوى ألما من كل ما عاناه من تعذيب جسدي .