يخوض الشاعر محمد مظلوم في كتابه الجديد "حطب إبراهيم" مغامرة شديدة الصعوبة، وتجربة سردية نقدية بالغة الإشكالية ومحرضة على فتح الكثير من النقاشات والاستفهامات، وربما النيران أيضاً، حول مسيرة شعراء الثمانينات في العراق وما بعد العراق.
وهو في هذه السيرة الشعرية التي يسرد تفاصيلها ويعيد رسم خطوطها لشعراء الثمانينات العراقيين لا يهادن ولا يقف على الحياد ولا يكتفي بالتوصيف، وإنما يتوغل إلى أبعد حيث يقف ليصنف ويحاكم ويمارس النقد ونقد النقد، مستخدما مشرطا بالغ الرهافة ومستنداً على مصداقية تتخذ بلاغتها من الوثائق والوقائع التي يدرجها ويفصلها على طاولة التشريح دون إغفال لأسماء الشخوص والأماكن والتواريخ. وهو لا يؤمن بوجود موضوعية تامة في النقد الثقافي، كما يقول في مقدمة كتابه، "فهناك موضوعيّات تتعدد بتعدد من يطرحها أو يتذرع بها".
ربما يريد محمد مظلوم من هذا أن يترك شهادة لا من أجل التاريخ الثقافي العراقي وحسب، وإنما من أجل التاريخ العراقي برمته. لأن هذه الثقافة، كما يتضح من كتابه، لم تنتج يوما في تاريخ الدولة العراقية الحديثة بمعزل عن ظروفها السياسية والاجتماعية والتاريخية التي مر بها العراق، كما لم يشتغل الشعراء في العراق يوما من أجل الشعر وحسب بمعزل عن محيطهم، وإنما لطالما تأثروا بما أحاطهم من تلك الظروف، حتى أتت الفترة الصاخبة التي قسمتهم بشكل صارخ كما يفصلها لنا إلى ثلاثة أقسام وهي: شعراء الجلاد أو الحطابين، وإلى الشعراء الضحية أو الحطب، وإلى الشعراء الذين نالت نصوصهم ومسلكياتهم قدراً من ثنائية الجدل فكانوا حطابين تارة وحطباً تارة أخرى. وقد اضطلع القسم الأول منهم بمهمة حمل أبواق السلطة، واضطلع القسم الثاني بحمل تمردهم الداخلي أو حتى صليبهم، فيما حمل شعراء القسم الثالث علبة الألوان والفرشاة التي يستطيعون من خلالها تلوين جلودهم بما تقتضيه ظروف الزمن وتقلباته.
لكن المظلوم، وإن كان في الظاهر يتحدث من منظور عقدي للأجيال ـ كما استقيناه من عنوان كتابهـ "شعر الثمانينات"، إلا أنه في الواقع لا يعتمد هذا الشكل من التصنيف البسيط، وليس لشعراء جيل الثمانينات وحسب، بل إنه يذهب أبعد من ذلك بكثير، حيث يعيد تقسيم أو "تجييل" شعراء حقبة الدولة العراقية كافة، منذ نشوئها عام 1921م وحتى سقوطها على أيدي القوات الأمريكية في نيسان 2003م، وذلك بطريقة جديدة يستلهمها من الباحثين الأمريكيين في علم الاجتماع ويليام شتراوس ونيل هاو، ترتكز أساساً على الشروط التكوينية والحاضنة الوقائعية للفترة التي مر بها كل جيل من الشعراء فتفاعلوا معها وأثروا وتأثروا بها، لتنعكس بالتالي على نتاجاتهم الشعرية والثقافية والتنظيرية. من هنا تنقسم الأجيال داخل الدورة التاريخية الواحدة إلى أربعة نماذج بدئية هي: جيل "البطل" الذي يمثله في سياق هذا البحث شعراء كالزهاوي والرصافي والجواهري الذين شاركوا في تأسيس الدولة وبنائها الثقافي والسياسي واعتلوا مقاعد البرلمانات. وجيل "الفنان" الذي نشأ شعراؤه في ظل رعاية الدولة ومؤسساتها وبداية ازدهارها ليصبحوا بالتالي زعماء ورواداً من أمثال السياب والبياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري وصولاً لسعدي يوسف. وثالثاً جيل "النبي" الذي ترعرع ممثلوه في بداية الازدهار وقدموا أعمالهم في عهد نضج الدولة ومؤسساتها ما أسبغ عليهم تلك الثقة الزائدة بالنفس وشعور امتلاك الحقيقة المطلقة اللتين يتصف بهما شعراء الستينات والسبعينات. وأخيرا جيل "البدوي" الذي يترعرع في ظل الدولة ومؤسساتها ويعاني في نفس الوقت من مشاعر الإقصاء أو الوصاية من قبل من سبقوه بسبب عدم مشاركته في صناعة الحداثة (القديمة) كما فعل السابقون، ولذا تنشأ لديه تلك النزعة الشديدة إلى التمرد على المسلمات والمنجزات السابقة وعلى القيم المسبقة الصنع، أو حتى نزعة التدمير ولو وصلت لدرجة تدمير الذات.
وحتى بالنسبة لشعراء الثمانينات أنفسهم لا نجده يكتفي بوضعهم في سياق الشكل الذي أوردناه إنما يقسمهم هم أنفسهم في أماكن أخرى من الكتاب تبعا للمناطق التي ينتمون إليها مثلاً، أو تبعاً للتيارات الفنية الشعرية التي ينتمون إليها، هذه التيارات التي اختلفت وتقاطعت في محيط الشعر، والثقافة والرؤيا إلى العالم والإنسان والأشياء. وهو بهذا التقسيم المتعدد ومتغاير الذرائع ربما يحرر بعض الشعراء من "ربقة الجماعة ـ بمعناها العصبوي التي قد تتحول إلى رفقة وميثاق وعهد ـ لصالح فضاء أرحب وآفاق أكثر سعة".
لكن المفارقة تتبدى هنا عندما يقوم المظلوم ـ الذي لا يعتقد بصوابية التقسيم العقدي للأجيال كما يصرح في كتابه ـ بإسقاط هذا التقسيم (الشتراوس¬هاوي الذي يكيّفه عراقياً) على شعراء الدولة العراقية، فينتج عن ذلك في الواقع تقسيماً عقدياً دون أن يقصد ذلك ربما. فإذا ما أمعنا النظر في فارق السنوات بين هذه الأجيال الأربعة فسنجده لا يتجاوز العشر أو الخمس عشرة سنة، مما يجعلنا نتساءل ربما عن سبب إيجاد تسميات موازية لهذه الأجيال. بينما سيكون هذا التجييل أكثر وضوحاً مثلاً لو أسقطناه على المشهد الشعري السوري. فباعتمادنا على العناصر التي اعتمدها المظلوم لتقسيم الأجيال سنجد أن "الجيل البدوي" للشعراء السوريين ما يزال مستمراً حتى اليوم منذ بدايات الثمانينات، حيث لم تتغير الظروف الموضوعية، ولم تتبدل الوقائع التاريخية أو السياسية ولا المؤثرات الثقافية للشعراء السوريين بشكل واضح طيلة أكثر من ربع قرن، ما يجعل الفارق الثقافي والفكري ضئيلاً جداً بين الشاعر الذي بدأ في الثمانينات وذلك الذي بدأ في أول العقد الأول من الألفية الثالثة. فالإثنان ينتميان تقريباً إلى نفس الوعاء التكويني وإلى نفس الظرف الواقعي للدولة السورية. لكن العراق الذي كان ـ وربما ما زال ـ يخضع لانقلابات دراماتيكية في واقع الدولة كل عشر سنوات تقريباً، كان ينتج في كل مرة جيلاً من الشعراء يختلف كلياً عن الجيل الذي سبقه، تبعاً للبرهة التي خاض متغيراتها، ولذا فإن البعض ربما لن يرى مشكلة حقيقية في تقسيم شعراء العراق إلى أجيال عقدية.
هنالك سؤال آخر يمكن أن نطرحه هنا بالنسبة للأجيال انطلاقاً من النقطة التي أوردناها سابقا وهو: ماذا عن شعراء التسعينات العراقيين؟ ألا يمكن أن نضمهم للجيل البدوي أيضا، ألم يعانوا مما عاناه من سبقهم، ألم يتشتت كثير منهم في أصقاع الأرض كذلك من أمثال عبد الخالق كيطان وسعد الياسري وغيرهم؟ وما هو شكل العلاقة بين شعراء الثمانينات والتسعينات، هل يشابه ما كان عليه الحال بين الثمانينيين والسبعينيين، أم يختلف؟ وخصوصاً حين نتحدث عن الإقصاء الذي عاناه شعراء الثمانينات في بداياتهم من قبل شعراء السبعينات والستينات. لكن المظلوم لم يشر إلى من جاء من بعد جيله، وهذا راجع برأيي إلى أحد سببين: إما أنه لم يجد حتى الآن تجارب من الجيل اللاحق متبلورة بما يكفي لتستحق الحديث عنها؟ أو أن طبيعة الحياة التي عاشها شعراء الثمانينات والتسعينات منعتهم من تكوين علاقة حقيقية بين هذين الجيلين، وخصوصا أنهم في الغالب عاشوا أشتاتاً في أماكن متفرقة من العالم، كما أن جيل المظلوم لم يستلم منابر أو مؤسسات ثقافية تؤسس للاحتكاك الفعال بينه وبين الجيل اللاحق.
نشعر أثناء قراءة هذا الكتاب أنه موجه أساساً لتأريخ العلاقة بين شعراء الثمانينات بين بعضهم البعض من جهة، والعلاقة بينهم وبين الجيل الذي سبقهم من جهة أخرى. لاسيما أنها كانت علاقة مشحونة بالكثير من الصراعات والإقصاءات المتبادلة والاختلافات الجذرية ثقافياً وفكرياً، كما يتضح لنا من قراءة بعض الأحداث التي تم توثيقها هنا. كما نشعر أيضاً أن الكاتب يحاول عبر سرد هذه السيرة الجماعية أن يوصل رسائل محددة وواضحة الصياغة إلى من يهمه الأمر، ويحاول إعادة رواية ما التبس من الأحداث أو ما جرى روايته منها بطريقة مغلوطة من قبل من امتلكوا المنابر الإعلامية في تلك الفترة. يحاول أيضا أن يخلّص نفسه وجيله من أتون النار التي تلظوا بحميمها سواء بالإقصاء أو بالنقد المتعجرف والمتعالي الذي مورس على تجاربهم وهضَمها حقوقَها. والواضح في الحقيقة أنه يرد ولا يهاجم وأنه يدافع ولا ينتقم، وهذا لا يتبدى من تصريحه في المقدمة وحسب، وإنما أيضا من خلال قراءتنا للكتاب الذي يضم أكثر من دليل على هذا، فهو قد أغفل ذكر أسماء بعض الشعراء في سياق روايته لبعض الأحداث التي قد تسيء إليهم شخصياً وتدينهم أخلاقياً فيما لو انكشفت أسماؤهم، كما أنه قدم بعض الروايات للحادثة نفسها على أكثر من وجه وبالاعتماد على أكثر من مصدر دون أن يصدر حكماً شخصياً وإنما ترك فك الالتباس للمعنيين بالأمر أولا أو للقارئ كما فعل مثلاً مع عدنان صايغ. كما برّر لبعض المثقفين الذي سايروا السلطة موقفهم هذا بالخوف من آلة قمعها الجهنمية، لكنه لم ينس بالمقابل أن يشير بالإصبع الواضحة إلى أولئك الذين سايروا السلطة طمعاً في نعماها أو ممالئة لعطاياها. وهو في مطلق الأحوال دعا بشكل صريح وواضح إلى "حوار هادئ وعميق بعيداً عن الإلغاء وعقد المحاكمات، ولكن بمراجعة نقدية تغني الجميع وقد ترضي الجميع ولا تسيء إلى أحد" ص270. كما دعا إلى التحلي بروح التسامح بعيداً عن الثارات التي دأبت السلطة فيما مضى على إيقاظها..ص269.
وبالعودة للحديث عن شعر الثمانينات بالخاصة، فقد قام المظلوم بوضع ما أنتج من الشعر خلال تلك الفترة ضمن عدد من التشكيلات التي حدد خصائص كل منها معتمداً على الشواهد الشعرية وعلى الأسماء التي اشتمل عليها كل منها. فهناك شعراء المنابر الذين أضاءهم النظام بسلطانه، وهناك شعراء الظل الذين اختبأت جذواتهم الابداعية تحت رماد المرحلة، كما أن هناك شعراء المركز وهناك شعراء المحافظات. هناك أيضا ثلاثة تيارات فنية أساسية حددها تتمثل بتيار الشعراء الذين تناسلت قصائدهم فنياً من احتمالات قصيدة السياب وتيار قصيدة النثر المنتمي لروادها الماغوط وأنسي الحاج والشعر الوافد، وهناك التيار المحافظ الذي حافظ على التقنيات المتوارثة للقصيدة الكلاسيكية. تحدث أيضاً عن دور المقاهي والمنتديات الأدبية في تشكيل الوعي الثقافي وإعادة تشكيل جماعات داخل الجماعات. تحدث أيضاً عن السمات التي ميزت الجيل البدوي وشعره، فهو الجيل الذي يعاني من الانهيارات الدراماتيكية والصدمات النفسية والتشتت في التزام المواقف والأفكار. وهو جيل التبدلات السريعة إلى حد التناقض من الموقف من النظام الديكتاتوري. وهو جيل يتسم بروح التدمير، وهو بهذا المعنى جيل الانسحاب من اليقينيات أو جيل اللا عقيدة. وهو جيل الجمع بين الفنون، حيث أن العديد من شعرائه امتلكوا مواهب أخرى وعملوا بها كالرسم والتمثيل. وهو جيل الـ "أنا" المسحوقة، الذي يتحدث شاعره عن هزائمه وخيباته الذاتية بضمير الغائب في كثير من الأحايين. وبرأيي فإن جميع ما سبق من خصائص وتشكيلات ربما نجد له نظائرها بشكل أو بآخر على أقران هؤلاء الشعراء في سوريا أو لبنان مثلا، لكن السمات الأبرز التي تميز شعراء العراق (وهي السمات التي ركز عليها الكاتب)، هي ما يتعلق بمشاركة هذا الجيل في الحرب الإيرانية العراقية مشاركة جسدية (وليست عقائدية) ومعاناته من ويلات المدافع والبنادق والخنادق، بالإضافة إلى حالة الرعب الشديد التي سكنتهم في مواجهة الموت إن لم يكن برصاص (الأعداء) فبرصاص الديكتاتور. أيضاً هناك حالة الهرب (أو الخروج) من الوطن إلى المنفى المتعدد الذي فرقهم أشتاتاً. الأمر الذي ميز أشعارهم بخصائص يكاد يندر وجودها عند أقرانهم في باقي الأقطار، فقد كتبوا ما يسمى بشعر السيرة الذي وصفوا من خلاله ما عانوه من الأهوال، لكن ذلك الوصف تجلى بترميز عالٍ واستخدام الأسطورة المركبة متمايزين بذلك عن استخدامها البسيط أو الساذج لدى الشعراء الرواد، ما أصبغ على أشعارهم ذلك القدر العالي من الغموض. حتى أنهم في الفترة ما قبل المنفى كانوا يتوهمون أن كتاباتهم تلك "هي سطور في رسائل مشفرة ستعبر حدود البلاد، وربما حدود الأرض كلها ليقرأها منقذون من عوالم شتى وأزمنة سحيقة ويحضرون في لحظة واحدة بفعل التعزيمات المكتوبة بوجدان مقهور"ص125.
إن هذا الكتاب يكتسب أهميته من كون كاتبه هو واحد من أهم شعراء ذلك الجيل على الصعيد الفني والانتاجي، ولعله من أوائل شعراء جيله الذين عرفناهم في سوريا إضافة إلى رفيقه في رحلة العبور الكبير من ضفة الوطن إلى ضفة المنفى الشاعر باسم المرعبي، اللذين خبرا الفترة بكامل تفاصيلها. هذا بالإضافة إلى أن ما جاء في صفحاته سيكون محرضاً على إثارة الكثير من الجدل والنقاشات والأسئلة وخصوصاً من قبل من مستهم شفرة المؤلف، وحتى ربما أيضاً على تأليف المزيد من الكتب بالأقلام الجارحة لهذا الجيل البدوي المشاكس.. وإذ يضع المظلوم كتابه بين أيدينا اليوم فلا ليتخلص ويخلص جيله من العبء الذي يحمله ضميره الثقافي لتلك المرحلة وحسب، وإنما أيضا ليقدم لنا فهماً جيداً وجميلاً وممتعاً وشاملاً عن الشعر العراقي، في فترة كان قد حجب عنا خلالها بفعل قعقعة المدافع، ودخان الحرائق.
المستقبل
الاحد 23 كانون الأول 2007