مما لاشك فيه أن عقد السبعينيات من القرن الماضي، كان عقدا حافلا، وشهد تحولات ساخنة علي المستوي الفكري والسياسي والثقافي - عموما - والابداعي، ففي مستهله رحل عبدالناصر، الزعيم، والقائد، والملهم في كثير من الأحيان للبعض، والمحبط لبعض آخر، ثم محاولة الانقضاض علي كل انجازاته الايجابية، بل محاولة محو اسمه، أو تلطيخه بكل سلبيات الخمسينيات والستينيات من قهر وديكتاتورية وسحق ونفي، ثم حركة التصحيح - 15 مايو - ثم اشتداد عود الحركة الوطنية الديمقراطية - خاصة الفيصل اليساري عموما - ثم فرار عدد من الكتاب والمثقفين الي باريس وبيروت وبغداد ودمشق، والاستقرار في صحف ومجلات للعمل فيها، ثم حرب 73 التي حركت الماء الراكد قليلا، وحركت معها ذراع اليمين للنيل من المتمردين باعتبار أن انتصار 73 حكر علي الدولة، وكتاب الدولة، ومبدعي الدولة، وعليهم جميعا أن يعايروا الآخرين بهذا الانتصار، والذي سرعان ما أكلوا ثماره، وأفسدوا نتائجه.
لذلك عادت الاحتجاجات والتظاهرات مرة أخري، وتتوجت هذه التظاهرات بالاحداث الشهيرة في 18 ، 19 يناير.. وتفعيل قانون الطواريء بأقصي صورة حتي احداث 5 سبتمبر 1981، والتي قضت باعتقال وتوقيف عدد هائل من الكتاب والمفكرين والقادة الذين سجلوا احتجاجاتهم بأشكال وصيغ مختلفة أمام ما يحدث.
كان الشعراء - أيضا - يبحثون عن موضع قدم في هذه الارض الواسعة من الاحتجاج، وبطرق أيضا مختلفة في أروقة الاتحاد الاشتراكي - ندوة الشباب - والتي كان فرسانها الشعراء حلمي سالم وأمجد ريان وعلي قنديل، وكان يرعاها الشاعر سيد حجاب.. ثم ندوة قصر ثقافة الريحاني، وكان الشعراء محمد عيد ابراهيم وعبدالمقصود عبدالكريم وعبدالمنعم رمضان وغيرهم رواد هذه الندوة.. وكان ابراهيم عبدالمجيد والراحل أحمد الحوتي رعاتها.. وسرعان ما تمردوا علي هذه الندوة، وراح أحمد طه يعقد ندوة في منزله، ومنها تكونت جماعة أصوات وهكذا.. كانت اضاءة 77، والتي صدر عددها الاول في يوليو ..1977 بهيئة تحرير ضمت الشعراء: 'جمال القصاص وحلمي سالم وحسن طلب ورفعت سلام'.
***
وللأسف تم حذف اسم رفعت سلام من المجلد الذي جمع الاربعة عشر عددا، ونشر بواسطة 'الملتقي للانتاج الفني والثقافي' بدعم من صندوق التنمية الثقافية.. ورفع اسم رفعت سلام من التصدير الذي أعلن عن جماعة اضاءة 77، وهذا نتيجة الخلافات التي نشأت بين سلام وحلمي سالم في العدد الثالث وانفصل سلام عن اضاءة 77 ينشيء مع الشاعرين محمود نسيم وكاتب هذه السطور مجلة 'كتابات' والتي صدر عددها الاول في اوائل عام 1979، وكان عقد السبعينيات الشعري قد حدد صقوره وحمائمه، لذلك كان المشرفون علي كتابات من الصقور، باعتبار ان الاضائيين من الحمائم والمسالمين، والمنسوبين سياسيا الي فصيل 'التيار الثوري' والذي كان يطرح تحالفا مع السلطة، أو مع أحد أجنحته علي الاقل، باعتبار أن السلطة - كانت آنذاك - لم تستنفد أغراضها الوطنية، وبدا هذا في الجلسات التي كان يعقدها عبدالمنعم تليمة كل خميس في منزله، وتتلمذ علي هذه الجلسات شعراء اضاءة 77 وتربوا علي تلك الشعارات التي تنشد السلام الدائم، وأنشدوا خلف الفنان أشرف السيركي: 'الأمة هتخرج بجيوشها من أمير لغفير.. لاذرة ولاجن يحوشها من مصير لمصير'.
حمائم اضاءة كانوا ينشدون وحدة الامراء مع الخفراء، أما صقور أصوات وكتابات كان لهم شأن آخر، فرفعوا شعارات الاستقلال، والانفصال، لذلك اتسع هم 'كتابات' من المجال الشعري - فقط - والذي حددته اضاءة 77 كانشغال أساسي ووحيد لها، الي المجال الثقافي العام، وابداء وجهات النظر الاجتجاجية عالية الصوت رافعة شعارات تبدو فضفاضة انذاك، لكنها بريئة ونبيلة، مثل مناشدة الحركة الثقافية، والمثقفين الديمقراطيين أن يناضلوا من أجل انشاء منبرهم الخاص لبلورة 'ثقافة بديلة' وتنظيم ثقافي يتسع لكل الاتجاهات الديمقراطية'.. وتضمن العدد احتجاجا علي مصادرة ابن عربي بمجلس الشعب.. اما العدد الثاني فجاءت كلمته الاولي مؤكدة اهمية 'الاتحاد الوطني الديمقراطي المستقل' وتضمن قصيدتين لرفعت سلام وعبدالمنعم رمضان، ثم دراسة عن السينما الفلسطينية كتبتها رواية صادق..
***
'جاء العدد الثالث أكثر سخونة، وأكثر اصطداما فجاءت الافتتاحية لتتصدي لتداعيات اتفاقية كامب ديفيد،
تقول الافتتاحية : 'تسير اجراءات تطبيع العلاقات بين مصر واسرائيل - هذه الايام - علي قدم وساق تنفيذا لما ورد في اتفاقية كامب ديفيد، وخاصة بعد الاتفاق علي المضي في هذا الموضوع بصورة سريعة، ولسنا معنيين - هنا - لا بالاتفاقية ولا بتطبيع العلاقات في المجالات المختلفة، فذلك مجاله موقع آخر، ولكننا معنيون بالآثار المرتقبة، والتي ستنجم عن تطبيع العلاقات مع اسرائيل في المجال الثقافي'.. وبعد أن عددت الافتتاحية الاخطار التي من الممكن أن تواجه الحركة الثقافية، وأزعم ان هذا الموقف يحسب ل 'كتابات' في الخطوات الاولي لما اطلق عليه التطبيع الثقافي'.. انتهت المقدمة بالتحذير من المواجهة الفردية، وشددت علي المواجهة الجماعية. وتضمن العدد أيضا قصيدة للشاعر محمود نسيم، وقصة للكاتب الدمياطي محسن يونس، وقصيدة أخري للشاعر أحمد طه، ثم دراسة للشاعر رفعت سلام حول 'المنهج في دراسة الثقافة العربية' كانت نواة لكتابه المهم والذي صدر بعد ذلك عن هيئة الكتاب تحت عنوان 'بحثا عن التراث.. وفتحت المجلة بابا لحوار هيئة تحريرها مع المثقفين عموما، وان كانت بدأت بنفسها، فكتب شعبان يوسف حول 'ضرورة السعي نحو اتحاد وطني ديمقراطي مستقل، ودعا فيه الي.
- أن الالتفاف حول منبر مستقل يكون نواة لهذا الاتحاد يطرحون فيه قضاياهم وقضايا شعبنا المصيرية، وليكن هذا المنبر مجلة.
- التحضير لمؤتمر عام للاتحاد الديمقراطي للكتاب والفنانين الوطنيين وصياغة برنامجه التأسيسي' وجاء تعقيب حاد من الصديقين رفعت سلام ومحمود نسيم..
مما دعا كاتب المقال للانسحاب أو التوقف عن الاستمرار.. وصدر العدد الرابع بهيئة تحرير ضمت رفعت سلام ومحمود نسيم فقط، وبعدها صارت المجلة تصدر بمجهودات رفعت سلام بمعاونات متغيرة، مرة بالتعاون مع جمال القصاص، ومرة أخري مع وليد منير.. وأزعم ان المجلة في عدديها السابع - يناير 1983، والثامن - فبراير 1984، قد انجزت تحديدا وتوصيفا جيدا لها اطلق عليه - شعراء السبعينيات - فصدر العدد السابع متضمنا قصائد للشعراء: 'أحمد مرتضي عبده، أسامة مهران، أمجد ريان، جمال القصاص، حلمي سالم، رفعت سلام، شعبان يوسف، عبدالدايم الشاذلي، عبدالمقصود عبدالكريم، عبدالمنعم رمضان، ماجد يوسف، محمد بدوي ، محمد خلاف، محمد سليمان، محمد عيد ابراهيم، محمد هشام، وليد منير'..
***
ومن الواضح أن الشاعر رفعت سلام راعي أن يضم العدد كل ألوان الطيف الشعري، دون انحيازاته الخاصة، وهذا بالطبع يحسب له في ظل تحزبات وشلليات كانت - ومازالت حتي الآن - قائمة، وأظن من لم يضمهم العدد، كان لتعذر الوصول اليهم..
ثم جاء العدد الثامن، وهو دراسات نقدية، ومتابعات، وقراءات لدواوين الشعراء، وكتب - هذه المرة - رفعت سلام مقدمة طويلة - نسبيا - طارحا فيها ما قد غاب في العدد السابع، ومحددا بشكل أكثر دقة ومواجهة دور شعراء السبعينيات، قائلا: 'لعب شعراء السبعينيات - حتي الآن - دورا مزدوجا، شعريا وثقافيا، في أن كانت السبعينيات هي السفينة الغارقة، التي يهرب منها الجميع، قبل أن تدرك القاع، الي ما يظنونه المرفأ الأمين، أبحر صلاح عبدالصبور في الذاكرة وحجازي في الدروس الجامعية في 'سان فنسان' وعفيفي مطر في المقالات الصحفية والاذاعية في بغداد، وكمال عمار في أغاني المسرحيات التجارية، وسيد حجاب في المسلسلات التليفزيونية الخليجية، هاجرت الاصوات الجادة الي بلاد النفط والنور، أو إلي زوايا الصمت والذكريات الذهبية...... وكان صعود شعراء السبعينيات'.. هذه المقدمة المهمة، بقدر ما كانت مرثية وتكفينا لعالم شعري وثقافي وابداعي قديم، كانت تحديدا لصوت قوي طالع - آنذاك - من الاحتجاجات الدامية، والتمردات الشائكة.. وجاء العدد مطرزا بأولي الدراسات الجادة والجيدة والمضيئة للشعراء وليد منير، الذي كتب عن : 'المغامرة الجمالية في شعر السبعينيات، ومحمد بدوي الذي كتب مقالا بديعا ولافتا في سنوات مبكرة.. 'دفاعا عن الحداثة'، محددا فيه بشكل دقيق عدة اشكاليات نقدية، وابداعية في التجربة الجديدة، ثم ضم العدد دراسة طويلة نقدية للاستاذ رجائي الميرغني، تحت عنوان: 'اضاءة - 77' وتجربتها الجمالية - دراسة نقدية للمرتكزات النظرية وملامح الابداع الشعري، واللافت أن هذه الدراسة للاستاذ رجائي الميرغني، لم تصبح مقدمة لدراسات تالية له، وربما كتبها لتظل وحيدة تماما، رغم أنه توصل فيها الي بعض مفاهيم نقدية كانت صائبة، ولكنها بالطبع، لم تكن قراءة جمالية، كما زعم العنوان ولكن السياسي طغي فيها علي الجمالي.. ثم قرأ سعد الدين حسن ديوان: 'طور الوحشة' لمحمد عيد ابراهيم، وامجد ريان قدم دراسة نقدية عن ديوان 'لا تفارق اسمي' للشاعر أحمد طه، وكتب جمال القصاص عن ديوان 'أعلن الفرح مولده' لمحمد سليمان، أما أحمد مرتضي عبده فكتب عن ديوان: 'ازدحم بالحالك' للشاعر عبدالمقصود عبدالكريم.. وأظن أن هذين العددين من المجلة، لا يمكن تجاهلهما بأي شكل من الاشكال، في دراسة تطور الاشكال الشعرية عند شعراء السبعينيات، وبعدما يقرب من الثلاثين عاما لصدور مجلة كتابات، وغيرها من اصدارات، لابد من اعادة الاعتبار لهذه المطبوعات التي لعبت دورا هاما في تطوير وتثوير الحركة الثقافية المصرية، وربما العربية، واعادة طبع هذه الاصدارات، لكن لا أعرف لمن يتوجه المرء، ومن يتحمس للحفاظ علي ذاكرة الوطن الابداعية والثقافية والادبية.
اخبار الأدب
4–11-2007