من تكونين يا بثينة العيسى، ابنة الثانية والعشرين التي نلمح في لغتكِ الكثير من النضج؟ من أي خلفية تأتين ومتى بدأت تظهر فيك ملامح الكاتبة وكيف تبلورت؟
- لا أعتقد أني أملك تلك المسافة الفاصلة بيني وبيني لأنظر إلى ذاتي من بعيد وأحدّد معالمها في إطار، لأعرّفها إلى القارئ بطريقة مرتبة أو أقل تشويشاً. معظم ما أعرفه أني أحببتُ أن أكتب طوال حياتي، أني قررتُ أن أكتب طوال حياتي، وأني سأستمرّ. ملامح الكاتبة تخلّقت في بداية الثامنة في صيغة مذكرات دونتُ فيها ما يحدث أثناء الاحتلال العراقيّ للكويت، استمرّت هذه العادة (النبيلة) حتى الآن ولكن بصيغ متغيّرة، وفي أجناس متغيّرة.
تقول الأديبة الفرنسية كوليت ان الأعمال الأدبية النسائية هي "حتماً سيَر ذاتية" شرط ان نعرف كيف "نخفي" ذلك. الى أي حد تقترب روايتكِ من السيرة الذاتية، والى أي درجة تشبهين بطلتكِ سعاد؟
- لا أظن أن الراوية أو البطلة هي بالقرب نفسه مني أو من حياتي، فكل الشخوص والأحداث مختلقة، لكني أذكر أن يدي كانت ترتجف وأني كنتُ أنهار لحظة أهب فيها ذاتي كاملة للنص. أعني أني تماهيتُ مع شخوص الرواية في مناطق معيّنة، وأني - في تمام تلك اللحظة - كنت أشهد تدفقاً مني للنص ومن النص لي.
الكتابة بالنسبة الى سعاد هوية وحالة وجودية أكثر مما هي مجرد فعل خلاّق، وهي لها أيضا أشبه بلعنة لأنها تمنحها معرفة من نوع آخر، تجعلها ترى الحياة بطريقة مختلفة وتحوّلها بالتالي غريبة عن كل الذي حولها. هل تعيشين الكتابة بالطريقة ذات النزعة المأسوية نفسها؟
- ربما كان ذلك حتى حد معيّن، ولكن الآن، أنا سعيدة بهذا التورط "النبيل" في الكتابة، أقصد أن الأمر ليس بالفداحة نفسها، بل هو في الحقيقة رائع جداً. لنقل إن الكتّاب هم الذين تخولهم حساسيتهم الداخلية أن يعيشوا على تماس دائم مع سعادتهم، على حدّ تعبير جوزف كامبل. أحبّ أن أنظر إلى الكتابة بهذا المنظور.
الرواية مقسومة قسمين. في الأول يعيش القارئ سعاد ويراها من خلال عيني مشعل الشاب "العادي" المتيم بها، فيما لا تعيره هي أي اهتمام وتبدو أحيانا تتلاعب به بشخصيتها النزقة. بينما في القسم الثاني يرى القارئ سعاد على حقيقتها، نفس متأججة ومتألمة تخفي ما يغلي في داخلها وراء مظهر مصطنع. ما كان هدفك الفعلي من هذه التركيبة الروائية؟
- لنقل إني كنتُ أخاف من بطلتي قليلاً، ربما لفرط ما بدت أناها متضخمة أمامي، فعمدتُ إلى تدشين تلك المسافة البدئية بينها وبين القارئ من خلال مشعل، لأني أردتُ للقارئ أن يتجرّع حضورها على دفعات! وفي الوقت نفسه أردتُ أن أنقض مفاهيم ذكورية أرسطية عدة تجعل الرجل مركزاً والمرأة هامشاً. في الوقت نفسه، وجدتُ المعالجة ناجحة في التعبير عن فكرة راودتني طويلاً، وهي أن كثيراً من أحداث حياة شخص قد لا تكون أكثر من "عوارض جانبية" لحياة آخر.
يُتوقع عادة من كتّاب الخليج ان يضيئوا من خلال كتاباتهم على مجتمعاتهم التي لا نعرف عنها الكثير. لكن المجتمع الكويتي في روايتك ليس أكثر من خلفية أو إطار تتحرك ضمنه الشخصيات المتفلتة من حدودها الجغرافية والتي يمكن ان نجد لها مثيلاً في كل زمان ومكان. هل تعتقدين ان سعاد كانت ستعيش "حالتها" بطريقة أخرى لو كانت في مجتمع آخر؟
- "سعار"، كرواية، لم تحاكم المجتمع بالشكل الدارج في الأدب الخليجي، ولكنها كانت تتحرك في منظومته نفسها، ربما لأني مللتُ النص الذي يحوّل الورقة إلى جبهة إقصاء، ومللتُ نظرة المرأة الخليجية إلى نفسها على أنها ضحية كل شيء إلا نفسها! وأنا هنا لا أتحدّث من برج عاجيّ، فأنا - بكل ما تحمله الكلمة - امرأة خليجية ومن بيئة حنبلية محافظة ولي معاناتي في هذا الخصوص، لكني أحرص على أن لا أسرّبها بهذا الشكل السافر إلى النص. بالنسبة ل"سعار"، أعتقد أن البيئة الخليجية كانت حاضرة في النص بطريقتها الخاصة، فلو كانت البطلة من خارج منطقة الخليج لتحرّكت الأحداث بسيولة أكثر ولما تشنّج الهامش الى هذا الحدّ، كما أني أثناء الكتابة وجدتُني مضطرة لتبرير وجود كل بطل في حياة البطل الآخر، الأمر الذي لا نجده في الآداب الأخرى، كان عليّ أن أجعل مشعل أحد أقارب سعاد، وأجعل الحبيب صديق والدها، كان عليّ أن أبرر وجود جميع الشخوص في لوحة واحدة وأشرح أنها علاقات مريضة في صلبها، وأنه مجتمع مريض في صلبه، مجتمع متوتر ومشلول وغير متحرك إلى ما بعد الجدران.
النهار
السبت 12 تشرين الثاني 2005