العراق حلم فانتازي طويل... (والكتابة أيضاً)
لا يتوقف علي بدر عن الابتسام والكلام، مثلما لا يتوقف عن السفر والكتابة. كأنه يعوّض عن زمن ضائع، أم لعلّ صاحب «بابا سارتر» اختار الهروب إلى الأمام... الكاتب المرتحل الذي يعيش الحياة بصفتها رواية صاخبة، زار بيروت أخيراً وفي جعبته الكثير من الحكايات والمشاريع
الحياة كلها حسب علي بدر سردٌ وقصص، وهو يعيش وسطها. فالحياة تروي حكاياتها من خلال الناس، حتى التاريخ بالنسبة إلى هذا الروائي العراقي الشاب، قصص تتصارع. اخترق علي بدر المشهد الأدبي العربي في لحظة، بلغة مغايرة، وعوالم غير متوقّعة مع صدور روايته الأولى «بابا سارتر» («دار الريس» ـــ 2001). الرواية بالنسبة إليه ميدان للبحث عن إجابات على أسئلة الوجود: «الرواية لم تعد حدوتة، انها تحل مكان علم الاجتماع وغيره... لأنها أقرب إلى الحياة من العلوم الإنسانية»، وهي أيضاً فن الإمكان والاحتمالات «نحن في الغالب لا نعيش الموجود فقط، بل نعيش الأوهام»، والفكرة الأكثر إلحاحاً في ذهن بدر هي استنتاجه «أننا قد نكون وهماً، قد نكون حلماً في ذهن الله».
السرد يحيط بنا، وسؤال «من أنت؟» يُجاب عنه برواية. الرجل المختنق بالأشياء التي يريد أن يحكيها قرر أن يكون روائياً، وقد شغلته قضيتا المنهج والأسلوب، وأعاقه خوفه من نشر ما يكتبه. تجربته «الجدية» الأولى بدأها بعد تسريحه من الجيش، كتب آلاف الصفحات وأموراً كثيرة يريد أن يرويها، وضاع وسط ما كتبه، فرمى الأوراق جانباً، وذهب يبحث عن قصته أو حياته. اشتغل في الجامعة وردّ على اختلافه مع الأساتذة الآخرين بـ «بابا سارتر» التي نال عنها جائزة الدولة للآداب وجائزة أبي القاسم الشابي... رغم أنها مُنعت في العراق، ثم ترك بغداد. ادعى أنه يتقن التمثيل وركوب الخيل... ويجيد التحدث باللهجة الليبية، ليمثل في فيلم يصوره مخرج إيطالي في ليبيا.
في رواية «الطريق إلى تل المطران» (دار الريس) يأخذنا علي بدر إلى عالم قرية كلدانية، عالم غريب كأنه مقطوف من زمن آخر، وهي في الوقت نفسه الرواية الأهم بالنسبة إلى كاتبها، فيها يطرح السؤال عن معنى الحياة، ذلك السؤال الذي أرّقه منذ ليلته الأولى جندياً في الجيش العراقي. يحلو له أن يتذكر تلك الليلة، استعار بطانية واستند إلى جدار لينام قرب جنود آخرين في المكان الذي أشير إليه أن ينام فيه. عند الصباح لاحظ أن هؤلاء الجنود لم يتحركوا قيد أنملة منذ ليلة البارحة، وأنه محاط بجثث فارقتها الحياة منذ حين. يقول إنّ النظر في وجه الميت يدفع الرجل إلى البحث عن معنى الحياة، «فيما المرأة تبحث عن هذا المعنى وهي تنظر في وجه وليد، وهنا يكمن الفرق بين المرأة والرجل».
أما «الوليمة العارية» (دار الجمل)، فأراد الكاتب أن يدمّر من خلالها الروايات التي «تُستبنى بها فكرة الطائفة والوطن والحزب السياسي والحداثة»، وقد كتبها عام 2002 أي قبل الاحتلال الأميركي للعراق. ثم جاءت «مصابيح أورشليم» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) العام الماضي، لتثير شيئاً من اللغط. الرواية التي تصوّر انشقاق النخبة العراقية قبيل الغزو الأميركي للعراق، على خلفية سجال إدوارد سعيد وكنعان مكية، يؤكد علي أنه أراد أن يهدم من خلالها الفكرة القائلة بأن القدس مدينة لليهود. يقول إنّ الموتى وحدهم يملكون المدن، وإن على العرب أن يخوضوا الحرب الثقافية على إسرائيل. ويلفت إلى أنّها رواية مبنية على «أبحاث عن القدس استغرقت ثلاث سنوات».
لدى علي بدر قدرة فائقة على «التقاط» القصص التي تُروى حوله... وهو يؤكد أنه اشتغل طويلاً للاجابة عن سؤال «كيف أكتب؟». وقد استفاد من «كل منتجات اللغة العربية التي خلقتها الصحافة وقصيدة النثر والكتب ذات الطابع الثانوي». أسلوبه يطعّم الفصحى بشيء من العاميّة، ولغته سهلة القراءة لقربها من لغة الريبورتاج الصحافي.
الكاتب الذي يهوى البحث عن قصصه يرى أنّ في داخله «صحافياً معوقاً»، ورغبة شديدة في كسر القوالب الجامدة والتجريب. وهو ميل يظهر بقوة في الجزء الثاني من «مصابيح أورشليم». ميل يغذّيه عشق علي بدر للحياة الصاخبة، وللمغامرات. هو على أي حال لا يشبه تلك الصورة النمطية للكاتب العربي الغارق في الجدية، لا تغريه «الأسماء الكبيرة»، بل إنه أكثر ميلاً لكتاب ثانويين، تأثر أكثر ما تأثر بكتب صدرت بالعامية العراقية في القرن التاسع عشر، يقول إنّ رائحتها تفوح من الكلمات.
علي بدر تسبقه ابتسامته والقدرة على «الغرف» من اللحظات الحلوة، والبحث الدائم عن الناس، إنه «المرتحل دائماً»... يجمع الحكايات. فهل تجربته الأدبيّة في جزء أساسي منها، ردّ فعل رد فعل على سنوات المراهقة والشباب الأوّل، حين كان جندياً في الجيش العراقي ممنوعاً من السفر، تحت نير نظام اتخذ من القمع دستوراً وفلسفة؟
يقول: «حياتي صارت أكثر متعة من خلال الأسفار الدائمة والمغامرات»، ويرى أن الكاتب هو ذاك الملاك الذي تحدث عنه ابن عربي خارج الزمان والمكان. يتابع علي بدر البحث عن قصصه. قد يأتي يوم يتوقف فيه عن الكتابة، الآن لا تزال في جعبته أشياء كثيرة يريد أن يحكيها. لذا تراه غزيراً إلى هذا الحدّ؟ قريباً يصدر له كتابان: رواية «الركض وراء الذئاب»، عن الشيوعيين العراقيين الذين هربوا إلى إثيوبيا عام 1979، حين استولى منغستو على الحكم وأنشأ الجيش الأممي. وتحكي الرواية عن سقوط الثورة، وهي بنظر علي بدر كالدواء المضاد للالتهابات: يشفي المرض لكنه يهدم المناعة في الجسم. وكتاب بعنوان «العراق حلم فانتازي طويل»، هو «عبارة عن رحلاتي إلى أماكن متعددة في العراق، وأقرأ فيه الحالة العراقية بشكل سردي. أحكي قصص العراقيين وحياتهم تحت الاحتلال».
مشاريع علي بدر لا تتوقف عن هذا الحدّ. يتحدث أيضاً عن رواية يريد أن «يشتغلها»، اختار لها عنوان «الجريمة والفن وقاموس بغداد». سيقول من خلالها إن «العراق يبنيه المبدعون والصنّاع، ويأتي الجنود ليهدموه. سأقسم الرواية بين العمال والعاطلين أي السياسيين والجنود والميليشيات والعصابات والقتلة والمجرمين ورجال الدين وغيرهم».
الاخبار
٣ أيار 2007