عادة ما ينسج الكائن علاقة غريبة وغامضة مع نصوص الآخرين، ربما لهذا السبب كان علي ان أنزل من جديد إلي المياه العميقة التي نبتت فيها قصائد مبارك وساط، القصائد التي تنضح بالجمال والحب والنبل والألم الذي لا يخلو من لذة.
فتحت الكتاب علي الساعة الثانية بعد منتصف الليل وأغلقته في الصباح، ليس من السهل ان تقرأ مبارك وساط، فنهايات الأسطر والمقاطع الشعرية غالبا ما تنحو zبك إلي اللامتوق (المفارقة)، والدوال المتنافرة غالبا ما تتجاور في سطر واحد (التشاكل)، وتبدو الصورة أحيانا كأنها منتزعة من متعدد، ثم إن القارئ لن يسلم من تلك المناورة التي يخلقها السرد داخل النصوص عبر المراوحة بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب وضمير الغائب مفردا في كل الأحوال، ولا شك أن الذي يجوس أراضي النص سيجد نفسه من حين لآخر داخل بعض السراديب السريالية التي ليست معتمة بالضرورة، أو علي الأقل ستشعر قدماه بالشراك التي ينصبها الشاعر حين يعمد إلي الكتابة عن موضوعة ما بحقل معجمي يخص موضوعة أخري.
عنوان المجموعة هو عنوان القصيدة الرابعة، وهو أيضا شبه جملة داخل هذا المقطع الشعري:
علي درج المياه العميقة تمشين
تتقدمك مصابيح شتاء قارس
وعلي الرمل أتمدد
مثخنا بجراح نسر ـ ص21 ـ
يستفيد مبارك وساط من توظيف بعض الرموز التي تؤشر علي وضعيتين متقابلتين (المياه كرمز للخصوبة والرمل كرمز للقحالة)، ثمة تقابل علي مستوي آخر: الحركة (تمشين وأتمدد)، فبينما تتحرك الأنثى وقد أضيئت طريقها بالمصابيح يبقي الشاعر ممددا علي الأرض بدون حراك مثخنا بجراحه التي لن تدل بالضرورة علي الضعف والهزيمة ذلك أنها جراح نسر.
تبدو المسافة البعيدة واضحة بين الشاعر وأنثاه إذ تفصل بينهما الأمكنة والأحاسيس المتناقضة.
في المجموعة نص عميق يقف عند تلك العلاقة القائمة بين الشاعر والأنثى، الأنثى الغائبة، يحمل النص عنوان سيرة الورد الذابل كما يحمل تلك المشاعر العظيمة التي يكنها عاشق كبير لأنثاه ويتألم بنبل الفرسان دون عتاب رغم الهجر والخذلان، ويبدو الورد الذابل كمعادل موضوعي للجمال الذي اختفي، للحب الكبير الذي لم يعد، للمرأة التي غابت وغربت لتشرق بعد غيابها أوجاع خالدة وليتجلي الفراغ شاسعا ومؤلما:
لا شيء تغير
بعد أن هجرت هذه النافذة
حيث يضحك العصفور
هذه الغرفة حيث الماء يحيا ويفكر
والآنية مثقلة بسهادها المعدني
لا تزال نظرتك المنكسرة ورنين أساورك
شالك ولثغتك التي من بنفسج
منثورة علي الشراشف المكتظة بذهولك
وفوق المنضدة المبقعة بالحبر الحالك ـ 9 ـ
يوهم الشاعر نفسه بألا شيء تغير، وبأن المكان هو المكان، وبأن تلك المرأة لا تزال حاضرة رغم غيابها، كأن عصفور الغرفة لا يزال يضحك جراء المشاهد والتفاصيل التي تمر أمامه، وكأن الماء لا يني يشارك الشاعر حياته وتفكيره، بل إن رنين الأساور لا زال يصل مسمعه، غير أن هذا الوهم لا يدوم، فالواقع سرعان ما ينزل ملاءاته السوداء علي المكان، ذلك انه بالرغم من كون الشاعر يتطلع بعينيه إلي سماوات الخيال العالية إلا أن قدميه تغرقان في وحل واقع ما انفك يهرب منه، سيبقي الشاعر مصدوما تحت تأثير الفاجعة غير قادر علي ترتيب مشاعره وترجمة انفعالاته، لأن تلك الانفعالات وتلك المشاعر تجمدت في صقيع خلفه هول الغياب:
للأسف لم استطع أن أبدو يائسا
مثل نشيد ناضب مثل جدول هرم
لأن تفاصيل الدهشة تمت خارج حياتي
لأن أنفاسي تتلعثم في العراء
رغم السحابة التي تتفتح فيها أجفان دامية
والثلج الذي يتساقط من سقف الغرفة
ويلعب في حضني كطفل ـ ص 10 ـ
غير أن الزمن كفيل بتعميق الجراح مثلما هو كفيل أيضا برأبها، ففي نهاية النص وبعد اليقظة من الخدر تتغير الأشياء في الغرفة، فلا عصفور يغني، ولا ماء يفكر، ولا رنين للأساور المفتقدة، سيبدو الشمعدان والمشكاة بما هما رمزان للضوء والإشراق والبهجة في حالة غير التي كانا عليها، وسيصعد طعم الألم وئيدا إلي فم الشاعر مثلما تصعد أعشاب متوحشة علي جدران بيت مهجور، بيت كئيب توقف فيه الزمن منذ زمن:
خوفك ينسدل علي جبيني
وأنا أبتكر سيرة للورد الذابل
أحكيها للمشكاة الفارغة
للشمعدان المكسور
قبل أن أضع يدي علي مفتاح العلاقة
ورأسي خارج رواق البهجة
قبل أن أغمس عيني في لعاب الوسادة
المرصعة بنومك وعطرك
وأنصت لطحالب المستنقعات
وهي تنمو بين ضلوعي
في هذه الغرفة الكئيبة كابتسامة القتيل
حيث الوقت دائما منتصف الليل ـ ص 11 ـ
قليلة جدا هي النصوص الشعرية بالمغرب التي استطاعت أن تتناول موضوعة الحب بهذا النبل وبهذا العمق وبهذه الرؤية الشعرية الشاهقة، سيرة للورد الذابل نص كبير يتقاطع مع الثقافات العالمية ومع النصوص الكبيرة التي كتبها العشاق الكبار لمعشوقات خرافية، شأن بابلو نيرودا وهو يخاطب ماتيلدا، وشأن بول إيلوار وهو ينادي علي غالا، أو لويس أراغون وهو يدفع أمامه حشدا من القصائد من أجل إلزا، شأن جيرار دو نيرفال أيضا، وشأن شاعر فرنسا الأفظع آرثر رامبو وهو يهذي تحت وقع الألم ويتهكم علي القمر الذي ظل الشعراء علي اختلاف كتاباتهم يتغنون به منذ البداية السحيقة للشعر:
حقا
لقد بكيت كثيرا
فالأسحار محزنة
وكل قمر شرس وكل شمس مريرة
وقد ملأني الحب الجارف بخدر ثقيل (رامبو)
يستهل مبارك وساط نصه الثامن مرارة ذا العنوان المفرد والمثقل بالدلالات القاتمة بهذا المقطع:
إنه الليل، أطفئي آخر المصابيح كي تولدي
وتبعثي تحت لسانك الأخضر شباب الرياح
وأحلامي المدفونة في الحدائق
ويختمه بهذا المقطع:
ها أنا أشعل الانتظار الأخير
أعلق تميمة من الضحك علي قفا بركان
أطفئ آخر المصابيح علي رابية الكلمات
كي تولدي...
فرغم الغياب والفقد لا زال الشاعر يحلم يقظا باستعادة ما ضاع منه، كأنه يقول لأنثاه: إذا كنا سنفترق داخل بهو الحياة فبإمكاننا أن نلتقي في بهو الشعر، ألا تحيلنا هذه الطقوس وهذه النظرة إلي الموت علي شاعر الهند الأكبر طاغور وهو يخاطب بنبرته الفلسفية المعتادة أنثاه الميتة:
أعيدي النظام والجمال إلي حياتي أيتها المرأة كما كنت تفعلين وأنت حية، اكنسي غبار الساعات واملئي جراري الفارغة وسوي ما أهملت، ثم افتحي باب مقدسي وأشعلي قنديله حيث نلتقي هناك صامتين (طاغور)
تصير الأنثى عند وساط أيضا أقرب إلي المقدسة، ربما لهذا السبب سمي أحد نصوصه ابتهال ليدعوها فيه إلي أن توقظه من السبات بأنفاسها وأن تتلمس الجمرة التي تخلفها نيرانه.
في مساءات ماطرة يعود الشاعر إلي الماضي كملاذ يحميه من المجهول الذي قد يأتي به المستقبل ليتذكر الأزقة والشواطئ وساحات المدينة وكل الأماكن التي لا تزال تعبق برائحة الذكري، ذكري رجل وامرأة مرا يوما ما من هناك وعبرا شوارع المدينة غير مكترثين رغم المطر ورغم العاصفة، وصادفا شاعرا مدثرا بمعزوفة الريح، يحلم بقمر ميت تبكيه بجعة وحيدة .
في نصه انفعالات تجده يقول أشياء كثيرة ومتشظية، متناثرة ومتنافرة أيضا، كأنما يحاول قسرا كتابة قصيدة واحدة من شذرات عديدة، فهناك البحار المسلوخ والعراف الأعمى والجندي الذي يتدلي باسما من المشنقة، والأقزام المشعثون الذين يتعالي ضجيجهم خلف الباب والموتى الذين لم يتبق منهم سوي العظام والذئاب التي تسعل خلف الواجهات، والمرضي المدثرون والخيول الحصيفة المحتجزة داخل السراديب، والغابات التي تئن والأبواب التي صارت هرمة والنادل المصلوب أمام المقهى، والسنونو الذي يتساقط ريشه والحراب التي تنمو في الحدائق بدل الأشجار والممرضون العراة الذين يجلدون داخل الكهف، واللقالق اليائسة واليمامة التي امتزج هديلها بدمها...
كل هاته الأشياء تتحرك علي خشبة واحدة لتمثل مسرحية غريبة وغامضة اسمها: الوطن. هكذا وفي تأويلي الخاص نشاهد عذابات الناس تحت سماء هذا الوطن، الأسلاف الذين عاشوا في السراديب كأحصنة تم طمي صهيلها، المصابيح التي تم اغتيالها لأنها اقترفت جريمة الضوء:
أتذكر ضفة النهر التعيسة
وقطعان المصابيح
التي تسير نحو نهايتها المحتومة
أتذكر الموتى الهائمين
وقد سقطوا في الشباك المنسوجة
من عروق الليل
أحيا في موطن الصيحة والقروح
يائسا حتى من ابتسامة ينبوع ـ ص 48 ـ
في النص الأخير خيمة الغبار يصير الشعر أشسع من أن يؤول وأكبر من كل الدلالات المحتملة، فالنص أعمق بكثير مما تقوله المفردات وهي تزدحم مع بعضها علي الورق، يكاد التأويل في خيمة الغبار أن يصل حد الهذيان، فهناك العلماء المقعدون والميت الذي يحمحم تحت النافذة، وصديق الشاعر الذي اغتاله القناصون الدهاة، تتحرك في النص مسيرة احتجاج يقوم بها فلاحو الأمواج الخصبة، تنطلق هذه المسيرة من ساحة الألم وتنتهي إلي مقر إقامة العظم المتلألئ، النص أيضا تلطخه دماء السناجب، ويحتشد علي سطحه الرعاة العميان والغزلان المذعورة.
مع مبارك وساط لا يمكنك الوصول إلي معني واحد، بل أحيانا يلزمك النفاذ إلي شيء آخر لا يتواري خلف اللفظ فحسب، إنما يتواري أيضا خلف المعني، ألم اقل إن التأويل هنا قد يصل حد الهذيان؟
استطاع مبارك وساط أن يقدم للقارئ العربي نصا كبيرا يعد نموذجا للشعر المغربي الذي نؤمن به.
هامش:
صدرت المجموعة الشعرية عن دار توبقال سنة 1991، وأعيد طبعها مؤخرا ضمن منشورات عكاظ وقد أضيف إليها نص أرخبيلات محفوفة
القدس العربي 13-12-2005