عباس خضر (1973 بغداد) يقيم في ألمانيا وسبق له أن أصدر ديوان "تدوين لزمن ضائع/2002" وهو كما يبدو من عنوانه محاولة لأرشفة وتوثيق ما حكم الزمن بضياعه من حياة الشاعر. بعبارة أخرى، كانت المجموعة محاولة محاكمة/ مراجعة/تبرئة/ إدانة، بكل ما تحتمل الكلمة من معنى. ان الشعر هنا ليس محاولة في التاريخ، ولكنه الحكم الذي يصدره الشاعر على ما فات وما لم يفت من حياته، على كوارثه وخيباته وانكساراته. الانكسارات التي تمنح صاحبها القوة والخسارة التي تمنح الجرأة على المواجهة والاقتحام والتجاوز. وتلك هي أبسط ملامح الشعرية العربية الحديثة بعد قرون من السكون والسكينة والاستمناء الذاتي.
ألله! ما أجمل العالم
لو بقيت نائماً
إلى الأبد. /20
أعترف بعجز كفي
وإصبعي ليس هنا
أعترف
بخجل بأن إصبعي
لا أخوة له. /61-62
صعد المسيح للسماء
وبقيت أنا
على الصليب. /76
يميل الشاعر الى تركيز وتكثيف العبارة. مستخدما اسلوب الضربات السريعة والمفجعة. معبراً عن علاقته الفجائعية أو الكارثية بالأشياء التي سرقت منه طفولته في أرض بعيدة جداً وقريبة جداً ولكنها عصية على الامساك بها..
من سيعرف كم أنا خائف ووحيد كنخلة في ألف
وتسعمائة وواحد وتسعين،
من سيدوّن زمني الضائع بعدي،
من غيري سيعوم في قلبي حتى الموت،
من سيجرد اللهو مني ويطلقني لقارعة الطريق
مجلة ضفاف ـ النمسا/ السنة الرابعة/ 2005
***
صدرت في مصر عن دار الحضارة للنشر المجموعة الشعرية الثانية(ما من وطن للملائكة) للشاعر عباس خضر، والمجموعة تواجهك بمفارقة تبدأ من عنوانها الذي يرتكز على النفي(ما من وطن للملائكة) فيصادر الميتافيزيقا والحضور الروحي الذي يوصّف الملائكة بالسمو وبالحلول في كل مكان، ليسقطه على الذات الشاعرة التي قصد إلغائها على الأقل في الحضور المكاني إن لم تغب تماما، فهي فاعلة في ما نواجهه من كتابة التي تمارس حضورا من نوع آخر، وتواجهك المفارقة في ترتيب القصائد، الترتيب الذي احتفى بالخاتمة التي تعرشت على البداية، حيث تواجهك القصيدة الأولى بعنوان(الخاتمة)، وهي خاتمة ليس في كون العنوان وجغرافياه، ولكن في المتن الذي يحيل في المحصلة عادة إلى ما سبق فيقول:
أيها الرب:
من السماء
لا تستطيع أن ترى
ما أراه أنا
على الأرض
إن هذا النص بما هو خاتمة كما يقول العنوان فهو خلاصة للما قبل كما يفترض ليس بدلالة العنوان وحسب ولكن بمتنه، في حين(البداية، وفي البدء) وهما القصيدتان الأخيرتان في ترتيب النصوص دفعتا لتكونا في موضع الخاتمة الذي ألفناه في التأليف، فيقول في قصيدة(في البدء):
لست آلة للكتابة
أنا طفل معاق
يشوه العالم
بقلم الرصاص
وهو تحذير أو تنبيه اعتذاري وتوقيع لما سيأتي بعده كما يفترض، لكنه علِّق في مكان آخر يفسره الغرض المفترض الذي يحمله النص الذي سبقه(البداية) إذ يقول:
صعد المسيح للسماء
وبقيت أنا
على الصليب
فالشاهد هنا ترك للقسوة التي خلفها رحيل الأول، فالراحلون لعوالم أخرى كالموت لا يحملون أسى مشابها للذي يخلفه رحيلهم في الآخرين، لذا تكون الشهادة التي هي محمولة على المتن السابق للنص شاهد على الألم كما يفترض، فالنيابة هنا تختزل الانهماك الذي حمله الشاعر أبدا بما هو شاعر، ولعل شاهدا واحدا يكفي ليؤكد ذلك، ونجده في قول دعبل( إني أحمل خشبتي على كتفي منذ اربعين سنة ولست أجد أحد يصلبني عليها) إذن هذه المفارقة التي تركت المألوف، حملت ليس على الغواية فقط وإنما حملت على قصدية قد تكون اعتذارا أو تفسيرا مفترضا للقصد الذي قد لا يعنى به القارئ، فللأخير مقاصد قد تكون خاصة به يبتنيها من القراءة لكنها غير بعيدة عن القراءة المقترحة، كما تشي النصوص بعمومها.
لقد كانت نصوص المجموعة في دائرة تتنازعها( الأسئلة، والحلم، والحيرة، والرغبة، والغناء، واللوعة، والهامش، والحشرجة، والاضطراب، والخوف) وهي دلالات مسكونة بها العناوين والمتون أيضا، وتحاول أن تكون حيوية متحركة تخلق عالما غير مسكون بالعودة إلى أجواء تمتح من جوف الذاكرة، وهو ما ألفته الكثير من قصائد المنفى، ومنها مجموعة عباس خضر السابقة(تدوين لزمن ضائع)، وإنما تحاول أن تعرك أجواء القصيدة بالتسلل إلى المنفى مكانا، هذا إذا استثنينا قصيدتين مشبعة بالعودة للانشغال بهم عراقي خالص هي(الأسئلة، رغبة في البكاء) في حين بقية النصوص تمازجت مع المكان الجديد من خلال سياحة في المدن الجديدة في القصيدة أو من خلال نقل أجواء هذه الأمكنة، وتصبح الأمكنة هنا غير مغترب عنها، لكنها مادامت تقتحم نصا عربيا فقد ظلت تحلق بين سمائين غالبا، ويمكن أن نلاحظ ذلك في نص (رسالة في علبة صفيح):
كل ما امتلكه منك
ذكريات كثيرة
عشيقات على ورق
مدينة صغيرة
أصدقاء
وتحية طيبة
وسبع عجاف في المنفى
وبعد.....
امتلك الآن
ذكريات جديدة
عشيقات على التراب
مدائن، آواه ما أكثرها!
أصدقاء
علبة محشوة بالرسائل
ورجلا مضطربا
كل صباح
قبالتي في المرآة
يسأل:
بحق السماء
من أنت
نلحظ أن هناك انقساما بين جوين الافتتاح ينتمي للذاكرة، والثاني ينتمي للوجود في الآن، وهو الأمكنة الجديدة ولا اسميها المنفى، هذا التوازي يشحن القصيدة بلغتين تصطرع مدلولاتها بين (هنا وهناك) لغة تتصالح مع واقعتين مختلفتين، وتوظف لكي تحمل دلالة متحركة محكومة بكونها الذي تشير إليه تحديدا، لذا فهي غير مطلقة أي في مساحة القصيدة الواحدة، قد يكون الألم والحنين كل منهما بدلالتين متضادتين في سياقين متجاورين، يكونا بهما، وهذا الاكتناز صعب النول لكنه في المجموعة يتغذى من محاولة تحقيق الحضور كما قلنا من خلال التجاور بين كونين.
مجلة مسارات،العدد الثاني، بغداد، صيف 2005
*****
شهقات عراقية مصبوغة بلون الوطن ، وأحاسيس نابعة من جمار القلب، يبدأها الشاعر عباس نجم بالخاتمة ثم يمطرنا بعدها بالأسئلة. شهقات مصحوبة بترقب ووجع روحي شفاف، تصاحبها غصات مختنقة تطفو من اعماق الحزن . شهقات ممتلئة ببحور الملح بين جدران الترقب والأنتظار ، والأمل الذي يطغي على الخاطر فيسكن في تلافيف الروح ، وللزمن الضائع الذي تمكن الشاعر عباس خضر تدوينه قبل هذه المرة .
لكنه فاته ان يكون ملاكاً لأعتقاده انه مامن وطن للملائكة، ودون أن يدري أنه ينسل بينهم يوزع كلماته فوق هامات الأوطان التي تسكنها الملائكة رافعاً راياته وحزن روحه الممتليء بالملح والعذابات والدمع الذي تحجر بين الفوارز والحدود .
وعباس الذي يصوغ الكلمات دون ان يشوه الحروف وينتقي منها مايبهر العين من صور ملونة، وعباس خضر الذي بدأ خارطة الكلمات الملونة بديوانه (( تدوين لزمن ضائع )) الذي أصدرة قبل عامين ، يتالق فينا بديوانه الجديد (( مامن وطن للملائكة )) الصادر عن دار الحضارة للنشر هذا العام 2004 ، والتي توزعت فصائده بين 28 قصيدة كانت الساحة الالمانية ومدنها الجميلة المنضدة التي نقش عليها حروف بعض قصائدة فيما توزعت الباقيات على الأرض الليبية .
في الديوان الجديد يقفز عباس خضر قفزة شاسعة ، أذ يبوح في قصائدة هذه عن مكنونات نفسية خاصة ، فيتمكن من تحويل احاسيس انسانية الى قصيدة ، ولعل قصيدة ( رغبة في البكاء ) التي كتبها في ميونيخ عام 2002 أصدق تعبيراً على هذا الأمر
ففي هذه القصيدة يقول عباس خضر :
(( أسير ...
ولي رغبة في عناق القطارات السريعة من الأمام ،
لي رغبة في الركض في الأتجاه المعاكس للخط السريع ،
لي رغبة في مشاكسة الجدار برأسي حتى يسقط احدنا ،
لي رغبة في التدلي من طرف الضوء عارياً كما خلقتني ،
لي رغبة أن اعود لأمي ، فلا أولد مرة أخرى ،
لي رغبة أن اخطف المدينة وأعلقني في عنقها أبداً .....))
هذه الرغبات الكامنة لم تأت من فراغ ولاأدخلها الشاعر لمتطلبات القصيدة ، حقاً انها مشاعر أنسانية تدخل ضمن بوابات البوح والمكاشفة الروحية التي تختلج ارواح المنفيين والغرباء والتواقين للسلام والأمان ممن يترقبون المستقبل دون ان يكون لهم وطن وملائكة .
فلم يزل الشاعر أسير غربته ووحدته وحزنه ويكابر حين يكون أسيراً والالاف تمر والقوافل تمر ، والرصاص يمر ، والرمل والحمام والمحار والسماء والنجوم كلها تمر ولم يزل الشاعر بأنتظار غودو، وهذا الترقب لايمكن ان يصدر الا من يفتقد لمحنة الوطن ، الوطن الذي فرت منه الملائكة .
ولم تكن دون سبب أن نتمعن بين بيت وبيت الى عبارات ((مامن وطن للملائكة، ومامن وطن للعاشقين ، ومامن وطن للحمائم ، ومامن وطن للآلهة، ومامن وطن للشاعر، لاملائكة ولاعصافير))، فرغبته في الصراح لن تتوقف حتى تتصدع المدينة وتنطبق السماوات.
ولعل قصيدة حوار تعبر عن جزء من أشتعال الروح، فلاشيء غير الريح تسكن في الروح الغريبة.
(( الطيور هي القادمة فقط
الطيور هي الراحلة فقط
الطيور هي الباقية فقط
الطيور هي الممكنة فقط
الطيور هي التي تشغل حيزاً في السماء
الطيور هي التي تحلق فوق المدينة
الطيور هي التي لاتحلق فوق الماء ...))
وأحلام الشاعر عباس خضر لاتتجاوز خطوط صباه ، ولاالتصاقه بالمدينة والشارع وقطار الليل ولارا وسهام والى أمه التي ارسل لها رسالة تتشكل من ورقة بيضاء جسد لها قلبة الناصع ليبرهن لها انه لم يتسخم كما تسخم غيره وأن الحروف التي يريدها ان تعانق عيونها شفافة مثل ماء الشلالات في بيخال وأحمد آوة وعلي بك .
ويعود الشاعر يحلم بالمدينة الصغيرة والذكريات الكثيرة التي بقيت عالقة في اردان الروح رغم السبع العجاف في المنفى .
ولعل التوافق الغريب الذي يستهله الديوان وهو مقطع من رواية للقاص المغربي محمد شكري يمكن ان يقودنا لعملية التوافق الذي يثيره الشاعر عباس خضر ، بالأضافة الى أختياره تجسيد الفنان التشكيلي الالماني مارتن ماليتسكي ( الكابوس ) ، مع مايريد الشاعر ان يبوح به ، وبين كلمات عباس خضر تجد علامات فارقة واشارات تميز بعض قصائدة تشير الى انه يلمح خيوط الفجر قبل رحيل القطارات ، ففي مقطوعة ( مايا ) ضمن قصيدة ( الى ) يقول :
(( من وهبني في الليل نجمة
ونسي الصباح
ورحل ؟ ))
والقصائد التي لم يغسلها ماء المطر ولاازال عنها الشاعر صراخ حروفها عبارة عن أحاسيس ملونة في الزمن المر ، وضمن هذه القصائد يكون عباس خضر شاعراً بين شعراء الملائكة وأن وطنه المحفوظ في القلب لم يزل مشروعاً يتغزل به لم تحرقه الغربة ولاأطفأ شوقة اليه السفر ، وهو وطن الملائكة بحق كما يقول .
هذه التجربة الثانية للشاعر عباس خضر المولود في بغداد عام 1973 والمقيم في المانيا بعد تجربته الأولى ، وبأنتظار كلمات ممتلئة بالموسيقى يعبر فيها عباسنا محنة ارواحنا التي لم تزل متعلقة بأهداب الوطن الذي تزاحمنا عليه الملائكة والأشرار .
موقع ابسو ، 2004
ما من وطن للملائكة
هو الديوان الثاني للشاعر العراقي المقيم في ألمانيا عباس خضر، الصادر عن الحضارة للنشر في القاهرة، وقد جاء بـ 80 صفحة. ويعد الشاعر من أكثر الأصوات الشعرية تميزاً في الجيل الأخير من الشعرية العراقية، وقد كتب أغلب نتاجه الشعري في المنفى، هذا دون أن يبتعد عن موضوعة التعلق بالأرض والقضية العراقية في أغلب نماذجه الشعرية ومنها قصائد هذا الديوان، وإن جاءت برغبة حداثوية وتجديد واضح
مجلة ألواح ـ اسبانيا/ العدد 19 /2005
*****