-1-
منذ مجموعته الأولى "أنين الصواري" الصادرة عن دار العلم للملايين 1969، إلى مجموعته الأخيرة "لا يتشابه الشجر" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2005، قطع الشاعر البحريني علي عبدالله خليفة مسافة واسعة المدى مع الشعر في أحدث أساليبه، تتخلل رحلته الطويلة تلك وقفات تأمل وانفعالات شجن من قصائد باللهجة المحلية تبدو معها العامية في أصفى تعابيرها وأقربها وشيجة بالفصحى. ولم يلق شعره - وهو كما تقول عنه المستشرقة البولندية باربارا بيكولسكي، واحد من أبرز الشعراء المعاصرين الذين رسموا أفق الحركة الشعرية في مملكة البحرين - أقول لم يلق شعره ما يستحقه من متابعة نقدية تتساوى أو على الأقل تقترب مما حظي به بعض زملاء رحلته الشعرية ممن كتبوا القصيدة بعيداً من دائرة الشكل النمطي الذي عاشته الجزيرة العربية وتعايشت معه أكثر من ألف وستمئة عام.
احتضن البحرين، هذا البلد الصغير في حجمه الكبير بدوره الثقافي بدايات التحديث الأدبي والشعري بخاصة وكانت "المنامة" الأول المدينة في الجزيرة العربية تستيقظ وتحاول مد الجسور بين قديم الشعر وحديثه من جهة وتسعى إلى المقاربة بين الأنواع الأدبية بحثاً عن النص المفتوح من جهة ثانية. تم ذلك في وقت كان النعاس يغالب عيون بعض مدن الجزيرة ويفرض عليها الخضوع لتقاليد الكتابة الكلاسيكية عن الأطلال. وكان صوت الرائد الشاعر إبراهيم العريّض ومغامراته الداعية إلى مسايرة التطور الحاصل في الكتابة الشعرية الحديثة في كل من مصر والشام والعراق بداية الموجة التحديثية التي تنامت وأنتجت جيلاً من المبدعين الذين عبّروا عن وجدانها المعاصر وكان لهم تأثيرهم الذي لا ينكر على التجربة الشعرية في هذه المنطقة التي عاشت في الظل ولم تجتذبها النتاجات الفكرية والأدبية والثقافية الحديثة إلا في وقت متأخر.
"لا يتشابه الشجر" تلك حقيقة علمية لا نقض لها، لكن القصائد لا تتشابه أيضاً، وهذا ما أتكهن ان العنوان قد عناه... صحيح أنها - أي القصائد - تستمد وجودها اللغوي من قاموس واحد لكنها تصبح مختلفة عندما يتناولها الشعراء الموهوبون والجادون. وهي تختلف من شاعر إلى آخر ومن نص إلى آخر، لأن الشعر، هذا الكائن اللغوي المحمول على أجنحة الإشارة والرمز يمتلك شبكة من الطرقات والمسارات تجعل الشاعر وهو يستلذ بسحر الكلمات يعطيها من روحه ومن دم قلبه لكي تحمل دلالات أخرى تختلف أو تتضاد مع معناها القاموسي ومع لغة الآخر واستخداماته، وهذا ما يجعل الشاعر نفسه يسأل كيف والى أين ستمضي به الكلمات أو يمضي بها؟
في القصيدة الأولى من المجموعة يخاطب الشاعر علي عبدالله خليفة هذا الكائن اللغوي (الشعر) مستنكراً في إعجاب لا يُخفى، وسائلاً في حيرة لذيذة عن سر هذا الاختلال الذي يفتح أمام الشاعر طريقاً يفضي به إلى غير الطريق الذي أراده:
يا طريقاً كلما أوغلت فيه
ملك الحب رتاجي، وتولاني،
وأفضى بي إلى غير طريق
أي حزنٍ جاء عينيها ارتجالاً
فتجلى، ودعا برقاً
لأن يترك وشماً للتفاسير،
ولا أسطورة تنبئ
بالغيب الذي وشى العقيقْ".
(زبرجدة في إناء الورد - ص 5).
ان نجاح الشعر يتجلى في هذه الممانعة، وفي تغييب أشياء كانت حاضرة في شعر "لا يتشابه الشجر"، وأشياء كانت غائبة أيضاً أو لم تكن في الحسبان. والشعر الحقيقي هو هذا الذي لا يلعب، لي المكشوف ولا يفصح عن نياته مسبقاً، ويكره - حتى العدم - المكاشفة الصريحة.
- 2 -
إذا كانت أهمية الفكر تأتي من كونه يثير لدى القارئ الكثير من الأسئلة المتعلقة بمسار الإنسان والحياة فإن الشعر يمثل جوهر الفكر وذلك لأن الأسئلة التي يطرحها تحمل في جناحيها ما يدعو الإنسان إلى الانتباه والتركيز في ما حوله والى التأمل في كل ما يطرأ على الحياة من متغيرات بعضها يبعث على الطمأنينة وبعضها الآخر يبعث على القلق بالمعنى العميق والإنساني للكلمة. ولأن إشكاليات الحياة تزداد - بمرور الزمن - غموضاً، فإن الكتابة بشقيها الإبداعي والفكري تزداد كذلك غموضاً والتباساً. وجاء الشعر ليكون - مهما صفت لغته وتحررت من الإبهام - ليفتح الباب على احتمالات ومفارقات شكلت مفهوم الشعرية قديماً وجوهر الشعرية في العصر الحديث.
ولم يكن علي عبدالله خليفة وهو يكتب نصوصه الشعرية، في منأى عن هذا الفهم. وكما رأينا في مقطع من النص الأول من مجموعته الجديدة "لا يتشابه الشجر" كيف يشير إلى الشعر من دون أن يفصح عنه أو عن مسماه فهو في نص آخر من المجموعة نفسه بعنوان "ظلال تهويمه" يشير إلى القصيدة من دون ان يسميها مكتفياً بالإشارة إلى علاقته الوثيقة والحميمة بها وكيف تساعده على فهم الواقع والناس ولا تفتأ تقف إلى جانبه في أصعب الحالات:
"ماذا أسمي امرأة تسكنني
في هدوء، وسلام ودعةْ؟
أحسها في الدم تجري
وأرى ظلالها
عبر بحاري الأربعة.
إذا خرجت ابتسمت للورد
حيث مطلع الشمس
وصلت لإله في شجا الروح
يمد الأشرعة
وإذا بادرني الحزن أهابت برباب
يجعل الحزن بلا حزن، فيرضى،
دون قلب ينتمي ليفجعه".
نجح الشاعر في رسم مناخ الألفة بل التداخل الذي يجمعه أو بالأصح يوحده مع القصيدة، كما نجح في الجمع بين الإيجاز والمجاز بين الإضاءة والترميز والمفارقة، مع استخدام لغة حيوية مباغتة تصعد إلى قمة التكثيف وترفض أن تقع في قبضة التجريد:
"كما داهمني جرح وسال الدم مني
مسحت دمعي ودمي...
ضمّدت جرحي
وضمت بحنان موضعهْ.
وإذا شاءت لي الأيام جرحاً لشفاء
الروح أعطت قلبها لحاذق
كي ما يكون القلب منها مبضعهْ".
لا ينبغي ان يتوقع القارئ من الشاعر أن يدله إلى حقيقة هذا الذي لا يجد له ما يناسبه من الأسماء على رغم ما له من حضور طاغ على روحه وجسده وحياته، لكن المراوغة تخفت أحياناً فتومض الدلالة العصية على نحو إشراقي يوحي بالاسم ولا يصرِّح به:
"يا ليتني أدري متى...
أو كيف عرَّشتْ بداخلي
وطنبَتْ خيامَها...؟
متى أضاء شمعُها...؟
وكيف صيّرت جوارحي مشبّعهْ؟".
أخيراً، لا تناقض بين أن يكون النص شفافاً صافياً وفي الوقت ذاته أقل وضوحاً، فالوضوح - وعند كثير من الشعراء وعند علي عبدالله خليفة بخاصة - يفقد الشعر أهم مقوماته وهو الممانعة الفنية ورفض الاستسلام لقارئه بسهولة ومن دون أن يبذل أبسط جهد يجعله يحس أنه يمسك بالخيوط الأولى للدلالة التي تضعه في سياق المعنى وتحميه من مراوغة الشاعر وتضيء له الطريق إلى النص. والشاعر علي عبدالله خليفة من الشعراء القلائل الذين يصعب ان تقتنص قصائده بسهولة على رغم كل ما تمتاز به من صفاء وشفافية. وما هذه إلا دعوة لقراءة أشعاره بالجهد الذي بذله الشاعر نفسه في اصطفاء مفرداته وموضوعاته وإيقاعاته.
الحياة
13/07/05
إقرأ أيضاً: