كأن الشاعرة السعودية فوزية أبو خالد، في مجموعتها الشعرية الجديدة "مرثية الماء" (دار المفردات - الرياض) خنساء جديدة، ترثي أخاها وتندبه. وفي الوقت الذي ترثي الشاعرة فقيدها، تعلن ولادات وتقترح صيغاً وشكلاً شعرياً جديداً. لعل اللافت أن شاعرية أبو خالد تزدهر في هذه المجموعة تحديداً من خلال الرثاء، إذ تقدم مرثية على جانب كبير من التركيب والتعقيد، مرثية لا تخص أخاً فقدته، مقدار ما تشمل المرثية الذات الشاعرة نفسها والأم أيضاً.
المجموعة الشعرية الجديدة، التي صدرت في السعودية، بخلاف الدواوين الثلاثة السابقة التي طبعت في بيروت، عبارة عن قصيدة واحدة، لكنها تتمدد في لحظات أو لنقل لقطات عدة، كل لقطة تحمل عنواناً. تطول اللقطات تارة وتقصر تارة أخرى، وفقاً للحال الشعرية التي تعالجها. تسجل أبو خالد تميزاً واضحاً في مرثيتها، إذ تقدم على موضوعها بشعرية فخمة، مكثفة ضاجة بإيقاع عال، وتتفتق المرثية عن مراثٍ.
يرسم الديوان - القصيدة مآل الذات الشاعرة، المآل الذي تتكشف مأسويته في شكل كارثي، لا تطاول فقط الذات إنما تطبع نواحي الحياة كلها، وكأننا في صدد لحظة قيامية، يقطع فيها النور عن الأرض، وييبس الماء في الأوردة، وتتدلى أعناق البيارق على منافذ البلاد، وتحلق الصحراء شعرها.
يهزم محمد (اسم الفقيد) أخته ويذهب في لعبة "الغميضة"، فيما تترك هي تنادي ولا من أحد: "أناديك محمد/ أرجوك أجبني/ يا صخري ومائي". تقترح أبو خالد شكلاً جديداً للمرثية، لا يغاير ويتمايز فقط عما تعودناه من مراثٍ شعرية، إنما يؤكد شاعريتها ويرسخ مشروعها الشعري الذي يمتد إلى أكثر من ثلاثين سنة، ويتوجها رائدة للشعر النسوي الحديث في السعودية. تؤبد الشاعر من ناحية أخرى ذكرى محمد، وتحول موته إلى حياة مستمرة في القصيدة، فنرى محمد وهو يلعب الكرة، مع رفاق الحارة، ويكسر زجاج النافذة ويرتدي ثياب الكشافة، ونسمعه يصفر لحناً في الشارع. وتنسج صورة فريدة للعلاقة التي تربط الراحل بأمه، علاقة تداخل وتماهٍ، فهو ولعشرين سنة يتنفس برئتيها، وتشرب هي الماء بشفتيه: "عشرين عاماً/ يرشيان الموت/ بزمرد الأمل/ وحشيشة العشق". وتصور الأم في صراع مع الموت، تذود عن ابنها وتنتصر: "كلما ظنه الموت نائماً/ وهمّ بالاقتراب منه/ يفر هارباً من/ صحو أحلامها/ ووسوسة أساورها/ عند ساحل سريره". وفي علاقة الكر والفر تتبدى الأم في صورة هيلينا حين تتحايل على الموت، يشتد أنين الابن، ويقطع نياط قلبها، فتقرر اقتلاع مقلتها وتدعه يعيد الأمانة إلى بارئها، فقط لو يطلع الصبح، لكن عندما يطلع الصباح تنفض غزلها وتتراجع عن وعدها.
وتصوغ أبو خالد صورة لفقيدها، تأتي في توازٍ مع فقيد الخنساء، ما لم تفقه، لناحية الأوصاف التي تمنحها إياه، فهو مورد الماء وظهير الأرامل، ومؤوي اليتامى، وسهيل الليالي، وشال الشتاء، وفيء الصيف.
تتبدى الشاعرة مهدمة وتتبدد إلى أشلاء في قصيدتها، التي تعكس وعياً شعرياً ووجودياً لافتاً. فهي لا تعبر فقط عن حال من الفقدان والغياب والتلاشي، إنما تقترح أيضاً وتكشف خلال تعبيرها ذاك، عن صيغ شعرية متنوعة، عن حساسية شعرية عالية، في مقاربة الألم واستدراجه وترويضه.
في تجربة أبو خالد الجديدة تتخلى اللغة عن مهماتها السابقة، التي تجلت سابقاً كمجرد وسيط لأفكار وصور وتأخذ مكانها كعنصر وكمادة أساسيتين في القصيدة، التي تتحول إلى تمظهر لانهدام الذات وانعكاس الفقدان عليها وعلى العالم من حولها. وإذا كانت القصيدة ترصد أثر الغياب على الأنا من جهة، فإنها تكشف من جهة أخرى العلائق التي تربط الذوات والكائنات إلى بعضها بعضاً، عبر موضوعة الموت، فتتحول المرثية أو الرثاء إلى احتفال بالبائد والمتلاشي من العادات والتقاليد، أي يستحيل الموت إلى إحياء للمندثر وحضور للغياب.
تنقسم القصيدة إلى مقاطع قصيرة، تتداخل غالبية عناوينها: ("ليلة الحناء" و "ليلة الرحلة" و "ليلة التحوال" و "ليلة الأربعين" و "ليلة الطهور" و "ليلة النزالة") مع الشعبي ولا تقف عند بعض عادات الزواج والولادة ومراسم الموت، إنما تؤشر إلى انتباه واع وملح لما تمثله كل هذه الأمور من هوية في طريقها إلى الاندثار، وكأن الشاعرة بتوظيفها هنا تستعيدها من جديد.
لا تأنس الشاعرة إلى الرؤية الدينية التقليدية حيال الموت، لا تذعن لسطوة الأقدار وتتمرد بإطلاق الأسئلة، ومصارعة القدر بغية تغييره. ولئن لم تخض الشاعرة في تلك الأسئلة الميتافيزيقية التي تلح حول الموت، بصفته ذهاباً إلى أبدية والى مجهول من نوع ما، ذهابا يخلف شعوراً مريراً ويستدعي تأملاً محموماً وبحثاً عن إجابة لن تأتي مطلقاً، إلا أنها في الوقت نفسه تطلق جملة من الأسئلة الصريحة والحادة والمباشرة أحياناً، "أراني أُصلب بمسامير الأسئلة". لعل قارئ فوزية أبو خالد واجه قبلاً مثل هذه الأسئلة، بخاصة في ديوانيها الأولين ويحمل أحدهما عنوان "إلى متى يختطفونك ليلة العرس". يكشف هذا النوع من الأسئلة عن ذات متمردة وخارجة على القيود والأعراف، أكثر من ذات تحاول التفلسف، ذات لا تعنيها الغيبيات وما وراءها، مقدار ما تكترث للسبب في اختفاء مظاهر الحياة أمامها. وهي أسئلة لا يجرؤ الآخرون الذين ("يعلج"ون زعانف الوقت/بسم الكلام/وأشواك السكوت/ ولا أحد يجرؤ على/ وسواس السؤال") على اقترافها، وحدها الذات الشاعرة من يغامر ويفعل ذلك.
تخرج فوزية أبو خالد ليس فقط على الجملة الشعرية المباشرة، إنما تتخطى أيضاً المواضيع التي طالما لامستها في دواوينها السابقة، وعبرت من خلالها عن ذات مسكونة بالقضايا الكبرى، فيما تعنيه من هموم وطنية وسياسية، تضغط كثيراً على مناخاتها الشعرية وتحيلها إلى ما يشبه البيانات الصاخبة. ثمة تغير في الرؤية التي تتلمس هنا طريقها إلى العالم، عبر سياقات شعرية مختلفة ومستويات لغوية متعددة ومؤثرة، تتحاور في ما بينها. سياقات تلم في نسيجها نتفاً وشظايا من الشعبي والأسطوري واليومي والمشهدي والحلمي والجنائزي ومن مخزون الذاكرة. تبدو الشاعرة متحررة من القواعد الشعرية، التي ارتهنت لها طويلاً في تجربتها السابقة، فهي هنا لا تمتثل لسطوة ضجيج القضايا الكبرى. انها محاولة لأن تصغي إلى موجودات العالم ولأن تواجه التغييرات في داخلها بشعرية أكثر اتقاداً.
الحياة
22/11/2005