عن "دار سنابل" بالقاهرة صدرت حديثا رواية "رجل عدن" للكاتبة الإسبانية "كلارا خانيس" ومن ترجمة الكاتب المصري "الدكتور طلعت شاهين" المقيم في إسبانيا منذ عام 1977، حيث درس هناك وحصل على درجة الدكتوراه وعمل في العديد من وسائل الإعلام الإسبانية والعربية، وتأتي هذه الترجمة لتكون الرقم 26 من بين ترجماته عن الأدب الإسباني وأدب أمريكا اللاتينية، وتشكل أيضا العمل الثاني الذي يترجمه لهذه الكاتبة الإسبانية المتيمة بالتصوف الإسلامي، فقد قدم لها من قبل ترجمته لكتابها الشعري "ديوان حجر النار" الذي تقدم من خلاله صياغة جديدة لأسطورة الحب العذري العربي "مجنون ليلى"، وكان هذا الكتاب قد صدر عن المجمع الثقافي في أبو ظبي عام 1998.
في روايتها "رجل عدن" لم تبتعد الكاتبة الإسبانية "كلارا خانيس" كثيرا عن عالمها الذي ابتدعته في كتابها الشعري "ديوان حجر النار"، بل إنها استعادت شخصية "قيس" ليكون رفيقها خلال هذه الرحلة الجديدة في مجال الإبداع خلال جولتها بربوع اليمن، مسرح هذه الرواية الجديدة.
في هذه الرواية تعكس "كلارا خانيس" رؤيتها، من خلال إحدى المشاركات في اللقاء الشعري العربي الإسباني، الحياة في اليمن التي يعيش فيها الإنسان مستخدما أحدث أدوات التكنولوجيا، مع احتفاظه بعاداته وتقاليده التي تعود إلى قرون مضت، مما يجعل اللقاء بين الكاتبة وزملائها من المبدعين العرب، لقاء بين الحضارتين الغربية والشرقية، لقاء له مذاق خاص، يدفع ببطلة الرواية "المرأة الأوروبية، ذات العيون الزرقاء والحاسرة الرأس" إلى الغور في أعماق المدن اليمنية التي زارتها، وبشكل خاص صنعاء وعدن، لأنهما مدينتان تدعوان إلى المغامرة، وتجد أول خيط سري يجذبها إلى تلك الحياة في "صبية الخبز" التي تحمل طبقها، متجولة في شوارع صنعاء، وتحاول البطلة أن تتبعها لعلها تستطيع أن تقيم معها تفاهما، يسمح لها بدخول "الحريم" المتخيل في عقلها الغربي، والذي لا تعرف عنه سوى ما طالعته في "ألف ليلة وليلة" والأفلام السينمائية الغربية، التي كان اليمن مسرحا لتصوير بعضها، وما تقرأه من كتابات، انتشرت في الغرب مؤخرا، حول وضع المرأة العربية، وما سمعته من حكايات لأشخاص، يدعون أنهم زاروا بلادنا واطلعوا على أسرارها.
ولكن افتقاد لغة الحوار مع صبية الخبز، لم يمكن البطلة من اختراق الحاجز اللامرئي، فظلت على حدود المعرفة بالمجتمع الأنثوي المغلق على نفسه في اليمن، عندها قررت أن تلجأ إلى المثقفين العرب الذين تختلط بهم في الفندق، رغم أن حب استطلاعها لم يجد تشجيعا من جانب زملائها من الجانب الإسباني، وكأن حالة، من التوجس تلبستهم جميعا، وتدفع بهم باتجاه الإبقاء على الحاجز بين الثقافتين، بدلا من التوصل إلى تخطي هذا الحاجز الوهمي، فكانوا ـأي الأسبان- يتجنبون الاختلاط بزملائهم من المثقفين العرب، الذين يشاركونهم اللقاءات الثقافية، وحتى في الفنادق وطاولات الطعام، فتقرر المغامرة وحدها.
يعرضها هذا البحث عن "المعرفة" للمجتمع العربي، إلى أن تصبح محط أنظار عيون الرجال العرب، من الشعراء والنقاد المشاركين في اللقاء الشعري، دون أن تنتبه إلى أن "المثقف" العربي أكثر ترددا من "صبية الخبز"، بل إن مرض هذا المثقف العربي المتمثل في "ازدواجيته" أو "فصامه" قد يعرض محاولاتها تلك لخطر حقيقي.
خلال الرواية نجد الكاتبة "كلارا خانيس" توجه كل طاقتها، للعثور على مفاتيح العلاقة مع هذا المجتمع، الذي تعيش فيه، تلك التجربة المؤلمة والجميلة في آن، علها تستطيع أن ترضي هذا الرجل الذي أعجبها، وتجذبه إليها.
كل هذه الأحداث، تقدمها لنا الكاتبة من خلال قالب روائي أقرب إلى الشعر في لغته، بل إنه في أجزاء كثيرة، تشكل مقاطع الرواية، قصائد حقيقية، يمكن اقتطاعها وقراءتها بعيدا عن سياقها، ولكن عند إعادتها إلى سياقها تظل تشكل جزءا من التسلسل الحدثي للرواية، بل وتضفي عليه مسحة صوفية تعمقه، وتزيده كثافة، وتفتح له آفاقا جديدة، وهذه التقنية متأثرة ولا شك بالثقافة العميقة للكاتبة في هذا المجال، ويمكن وصف هذه الرواية أيضا بأنها "رواية شعرية"، وأجزاؤها ليست سوى "قصائد" تشكل وتصف حدثا روائيا.
أن هذه الرواية تشكل جزءا من محاولات كثيرة من جانب بعض المبدعين الغربيين لفهم الواقع العربي المعاصر، وعلاقاته الاجتماعية المتشابكة، التي يغلفها الغموض بالنسبة للغربي، خاصة في ظل الوضع الراهن، الذي يستغله أعداؤنا لتشويه صورتنا، فقد استخدمت الكاتبة المجتمع اليمني، ليكون نموذجها، الذي أتيح لها التعرف عليه، لتقدم رؤيتها للعالم الأوسع والأرحب، وهو العالم العربي، ومهما كان اختلافنا مع تلك الرؤية، فيجب أن نتعامل معها بشكل عقلاني، ونحاول أن ننطلق منها، لنقيم حوارا مع ذلك المجتمع الذي جاءت منه، لعلنا نستطيع أن نوضح ما انغلق عليها، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الرواية ليست سوى "عمل أدبي"، ولهذا الفن ضروراته الفنية المفروضة على المبدع.
تعتبر الكاتبة الإسبانية "كلارا خانيس" من أبرز المبدعات المعاصرات، ليس في إسبانيا فحسب، بل في الدول الناطقة باللغة الإسبانية (إسبانيا وأمريكا اللاتينية)، سواء في مجال الرواية أم الشعر. وأصبحت خلال السنوات الأخيرة من أبرز المشاركات في معظم اللقاءات الثقافية من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، وبشكل خاص عندما يتعلق اللقاء بالتصوف: إبداعا ودراسة.
ولدت "كلارا خانيس" في برشلونة عام 1940، لأب كان معروفا في الحياة الثقافية الإسبانية، كواحد من أبرز شعراء إقليم قطالونيا، شمال شرق إسبانيا، خلال القرن العشرين. وزادت شهرته عندما أنشأ دارا للنشر كانت تحمل اسمه، ولا تزال قائمة، ولكن انتقلت إلى ملكية آخرين: "بلازا أي خانيس".
بدأت الشاعرة تعليمها في مسقط رأسها ثم انتقلت لاستكمال دراستها الجامعية بمدينة بامبلونا، إلى أن حصلت على الليسانس في الفلسفة والآداب، ثم انتقلت بعد ذلك إلى باريس، لتدرس في جامعة باريس الرابعة بالسوربون، وحصلت منها على الليسانس في الآداب أيضا.
تنقلت بين جميع أنواع الإبداع في اللغة الإسبانية: الشعر والقصة والرواية والدراسات الأدبية، إضافة إلى الترجمة عن الفرنسية والتشيكية، وأجادت فيها جميعا، وحصلت على العديد من الجوائز الأدبية الوطنية والدولية، منها الجائزة الوطنية للترجمة، عن مجمل الأعمال التي ترجمتها إلى لغتها الوطنية، وكرمتها الحكومة التشيكية لترجمتها معظم أعمال الشاعرين التشيكيين: فلاديمير هولان وياروسيلاف سيفيرت، ومن الكتاب الذين نقلت أعمالهم إلي اللغة الإسبانية: مارجريت دوراس، وناتالي ساروت، وكاترين وويليام جولدنج.
نقلت أيضا، إلى اللغة الإسبانية العديد من الأعمال الأدبية عبر لغات أخرى، بشكل خاص الأعمال الصوفية المكتوبة بالتركية والفارسية، وذلك بالاشتراك مع مترجمين يجيدون تلك اللغات، ومنها رباعيات الخيام التي صاغت ترجمتها شعرا، ويعتبر النقاد صياغتها للرباعيات، من أفضل الصياغات التي تم نقلها إلى اللغة الإسبانية.
شعريا تنتمي "كلارا خانيس" إلى ما يمكن تسميته "جيل الستينيات" الذي مهد وشارك في الثورة الشبابية عام 1968، التي كانت نقطة تهدف إلى أن تكون تحولا في الحضارة الأوروبية المعاصرة، ولكن سرعان ما انتكست هذه المحاولة، لتسقط أوروبا في مستنقع الاستهلاكية المادية التي تطحنها الآن، ولا تترك لها مجالا لترى أبعد من مكان قدميها، فذابت المثل العليا التي نادى بها هؤلاء الشباب تحت وطأة عمى الألوان السياسي للزعامات الأوروبية، التي لا تزال ترى في الأمم الأخرى مشروع عبودية، والدول التي لا تنتمي إلى تلك القارة مشروع مستعمرات، ولكن بعض هؤلاء الشباب، خاصة المبدع منهم، حاولوا الإفلات من تلك القبضة القاسية التي أمسكت بخناقهم، ليشكلوا منحى جديدا في مجال الإبداع.
في مجال الإبداع النثري، قدمت "كلارا خانيس" خمس روايات من أهمها: "خيول الحلم"، و"رجل عدن"، وتلك الأخيرة استوحتها من رحلة حقيقية قامت بها إلى اليمن قبل سنوات، بدعوة من جامعة صنعاء لحضور اللقاء الشعري العربي الإسباني الأول، والذي لم يتكرر بالرغم من مردوده الجيد، والذي جمع مجموعة كبيرة من أبرز الأصوات الشعرية في إسبانيا والعالم العربي، وهذه الرواية ربما كانت أبرز مثال على الجهد المضني، الذي يبذله الغرب في محاولاته فهم أوضاعنا، وهي محاولات جادة، لا يجب أن نتغاضى، عنها لمجرد أن هناك، في ذلك الغرب من يحاول أن يستخدم هذا الفهم ليشوهنا أو ينال منا، كما يحاول بعض المتعصبين منا ضد كل ما هو غربي.