في مبادرة هي الأولى من نوعها في بلاد دانتي، صدرت منذ أيام عن دار "موندادوري" في ميلانو انطولوجيا الكاتبات العربيات المعاصرات باللغة الايطالية، التي وضعتها وقدّمت لها وترجمت نصوصها مباشرة من العربية المستشرقة الايطالية ?النتينا كولومبو. وقد بدأ العمل يثير ضجة في الأوساط الأدبية الايطالية حتى قبل نزوله إلى المكتبات، أي منذ إرساله إلى الصحف والوسائل الإعلامية. ومن الكاتبات اللواتي يشملهنّ، من لبنان جمانة حداد، التي تفتتح الانطولوجيا بقصّة في عنوان "الموكاسان"، وحنان الشيخ وهدى بركات، ومن مصر سلوى بكر ورضوى عاشور وسحر توفيق، وليلى عثمان من الكويت، وغادة السمان وهيفاء بيطار من سوريا، وبتول الخضيري وديزي الأمير من العراق، واميمة خميس من المملكة العربية السعودية، وليلى أبو زيد من المغرب، وكثيرات أخريات: 31 قصة لـ 31 كاتبة يرفعن حجاب الغموض الذي يلفّ غالبا صورة المرأة العربية في العالم الغربي، ويحطّمن الكليشيهات والأفكار المسبقة عنهن، ويتناولن قضايا متنوعة كالجسد والجنس والحب والحرب والعائلة والكتابة والدين والإرهاب والإنجاب والمثلية والختان والطلاق والخيانة وتعدد الزوجات والسلطة البطريركية الخ...
"هل توجد كاتبات عربيات؟": سؤالٌ تقول المترجمة إنه غالبا ما يطرح عليها خلال المؤتمرات واللقاءات المتمحورة حول الأدب العربي التي تشارك فيها. وهذا العمل، تؤكد، يريد لنفسه أن يكون خير برهان على ان الكاتبات العربيات موجودات وبقوّة، حدّ ان المرء يحار في الاختيار: "ثمة في العالم 140 مليون امرأة عربية، بينهنّ مجموعة كبيرة من الكاتبات الموهوبات، اللواتي لديهن الكثير مما يردن قوله عن حيواتهن ومشاعرهن وأفكارهن وأجسادهن ومشكلاتهن وأحلامهن، بصيغة الأنا لا تحت غطاء اسم مستعار، بصوت عال لا همسا، بحرية وبلا عقد ومحرمات وخوف ورقابة ذاتية".
وليست مصادفة، تستطرد المستشرقة كولومبو في مستهل مقدمتها المسهبة، أن تكون دار "موندادوري" قد قرّرت افتتاح الانطولوجيا بقصّة "الموكاسان" للشاعرة والكاتبة اللبنانية الشابة جمانة حداد، بعدما اطلع الناشرون عليها وأعجبوا بها، فهذه "القصة الاستفزازية الجريئة تطيح كل الصور المقولبة عن المرأة العربية. إذ يميل الخيال الغربي دائما إلى تصوير المرأة الشرقية كضحية، في حين ان ثمة نماذج كثيرة ايجابية غالبا ما يتم التغاضي عنها، ومنها جمانة حداد. في هذه القصّة، كما في قصائدها، تنتهك حداد كل أنواع التابو، وتلجأ بكثافة إلى السخرية، التي هي من ميزات شخصيتها". وتنقل كولومبو عن الكاتبة اللبنانية بعض أفكارها في هذا المجال: "ليس صحيحا ان النساء أكثر شجاعة في وصف جسدهنّ، تقول حداد، بل يكمن الفرق الحقيقي في أنهن ابرع في ذلك من الرجل، لأنه تحديدا جسدهنّ، أي إنهن يعرفن أكثر من أيّ شخص آخر كيف يرغبن في أن يُلمس هذا الجسد ويقبَّل ويؤخذ ويعيش شهوانيته. لغة النساء على هذا المستوى لم تزل "عذراء" إلى حد كبير، فالكاتبة العربية لم تستكشفها بعد في شكل كامل، بينما الكاتب العربي استنزفها بكل دقائقها تقريبا. لغتنا الجنسية تعد إذن بالمفاجآت، شرط ألا نستعير صوت الرجل وإرثه الايروتيكي عندما نكتبها، بل ان نجد صوتنا الايروتيكي الخاص، وان ننتهك على طريقتنا الخاصة. لقد سئمت المرأة الهرب والزيف والاستنكارات الخبيثة، وملّت ان تكون الموضوع فحسب: هي الآن تريد ان تكون المبادِرة، الراغبة، الآخذة، صاحبة الخيار لا المختارة، الراوية لا المروي عنها، المتلصصة لا المتلصص عليها. وأنا في قصصي كما في شعري اقلب الأدوار، لا بدافع الاستفزاز المجاني بل لأن هذه طبيعتي. فكفانا أحاديث عن جرأة الكاتبات وكأنها حدث استثنائي يتطلّب أن تخرج الأعين من محاجرها: نعم، النساء يمارسن الجنس أيضا، وهنّ يشتهين جسد الرجل ولديهنّ ما يقلنه حول هذه المسألة في كتاباتهنّ، تماما كالرجال". وليست الجرأة والسخرية وحدهما ما يميز كتابة جمانة حداد، تختم كولومبو، بل أيضا وخصوصا ذلك النفس الشعري الواضح في نصّها، والذي هو شغف حياتها الحقيقي.
أما الروائية المصرية ابتهال سالم، فتكتب بدورها عن الجسد، جسد المرأة وجسد الرجل، ولكن مستعينة بالاستعارات والصور، وتعزو سبب ذلك إلى البيئة التقليدية التي تعيش فيها: "ثمة مشكلات اجتماعية ودينية كثيرة ترتبط بموقف المرأة الشرقية من الجنس"، توضح سالم. والمصرية أيضا سحر توفيق تكتب عن النساء العوانس، وعن صعوبة ان تعيش المرأة وحدها في المجتمعات العربية، بسبب نظرة الآخرين إليها واستعدادهم الفوري لإدانتها. "أكتب لأن الكتابة جزء لا يتجزأ مني"، تقول توفيق، "ولكن ما يشغلني في الدرجة الأولى هو ألا يتمتع احد بامتيازات بسبب جنسه أو عرقه أو لونه أو جنسيته".
كذلك في قصتها "أكتبي: لست عربية!"، تتطرق الروائية السورية غادة السمان إلى علاقة المرأة الدقيقة والجدلية مع أحكام الآخرين ومع القانون في المجتمعات الإسلامية، والى موضوع المنفى والتخلي عن العادات والتقاليد والهجس بالماضي الذي يظل حاضرا في اللاوعي. أما الكويتية ليلى عثمان فتحيي حكمة الكبار في السن من خلال شخصية أم محمد الاستثنائية، واللبنانية حنان الشيخ تكتب عن التحرر من التقاليد، وعن تغير نظرة الرجل إلى المرأة عندما تصبح هذه مشهورة، أي مستقلة عن حاجتها إليه، بينما تعبّر الفلسطينية باسمة يونس عن رأيها في المرأة بلا مواربة: "ليس كل الرجال العرب ظالمين وليست كل النساء العربيات مظلومات. عندما أرى امرأة سعيدة بضعفها وترغب في ان تكون محض "دجاجة" أهاجمها بشراسة. أنا لا انتقد الرجل فحسب".
ماذا عن عنوان الأنطولوجيا؟ تشرح كولومبو أنها استوحته من دراسة للمستعربة فدوى مالطي - دوغلاس في عنوان "جسد المرأة كلمة المرأة"، حيث تمثّل عبارة "جسد المرأة" بالنسبة إليها المرحلة الأولى، الكلاسيكية، من تاريخ الأدب العربي، عندما كانت المرأة موضوعا وشيئا وجسدا يصفها قلم الرجل، بينما الجزء الثاني، "كلمة المرأة"، مرادف للمرحلة الثانية الحديثة منه، أي عندما استولت المرأة على الكلمات وحققت "انتقامها" من اللغة الذكورية.
و?التتينا كولومبو حائزة شهادة دكتوراه في اللغة والآداب العربية، وقد ترجمت الكثير من كنوز الأدب العربي إلى الايطالية، على غرار الجاحظ والحمداني من الكلاسيكيين، ومن الحديثين جبران خليل جبران ونجيب محفوظ وادونيس ونزار قباني وعبد الوهاب البياتي. وهي تعلّم الأدب واللغة العربيتين في جامعة توشيا، وتكتب في الصحافة الايطالية عن العالم العربي، كما أصدرت منذ بضعة أشهر انطولوجيا عن الدار نفسها في عنوان "الضفة الأخرى"، تقدّم فيها روائيين عربا من القرن العشرين، من أمثال ميخائيل نعيمة وتوفيق الحكيم وغسان كنفاني ويوسف إدريس وجمال الغيطاني وأميلي نصرالله وزكريا تامر وحسن داود وابرهيم الكوني وبهاء طاهر وآخرين.
وهذه المعرفة العميقة للإرث الأدبي العربي تبدو واضحة في مقدمتها المفصّلة، إذ أنها لا تكتفي بتقديم الكاتبات المعاصرات، موضوع الانطولوجيا، بل تعرض أيضا لتاريخ الأدب العربي، وخصوصا ذاك المكتوب منه بأقلام نساء، منذ أيام الجاهلية عندما كان دور المرأة في الشعر محصورا بإنشاد المراثي، وحيث شكلت الخنساء استثناء عظيما، مرورا بالعصر الأموي مع بنت الحباب، فالعباسي مع الثورة الشهرزادية المتمثلة في "ألف ليلة وليلة" التي حولت المرأة راوية بامتياز، وصولا إلى الأندلس أخيرا مع ولادة بنت المستكفي. وهنا تلاحظ كولومبو: "إنه لمن المثير للعجب، في أدب عاش طوال خمسة عشر قرنا على الشعر حصرا، أن تكون الشاعرات في عدد أصابع اليد". ثم تقفز المترجمة نحو ألف عام، وتنتقل إلى العصر الحديث مع الشاعرة المحدثة نازك الملائكة، ومع الروائيات الأوائل وهن اللبنانية زينب فواز التي سبقت المصري محمد حسين هيكل إلى الرواية الأولى، واللبنانيتان لبيبة هاشم وعفيفة كرم، ثم مي زيادة التي جمعت بين دور المثقفة النسوية الملتزمة والكاتبة والمنشطة الأدبية، ومنها إلى جرأة ليلى بعلبكي في "أنا أحيا"، وكتابات المصرية أهداف سويف والفلسطينية سحر خليفة والعراقية عالية ممدوح وسواهنّ ممن ساهمن في صناعة الأدب العربي الحديث.
بمعزل عن التحفظات الكثيرة حول تصنيف الكتّاب ذكورا وإناثا، ومتاهات الجدال الأزلي حول حقوق المرأة في التعبير التي لم تزل منقوصة حتى في أكثر البلدان الغربية تقدّما على هذا المستوى، مما لا شك فيه أن هذه الأنطولوجيا المتقنة الصادرة عن دار نشر مهيبة تظهر جمالية "الوجه الثاني من قمر الأدب العربي"، كما تقول القيّمة عليها، وهي تهدف بغناها وتعدديتها ودهشاتها إلى منح جسد لكلمة المرأة وكلمة لجسدها، أي في اختصار، إلى تشريع الأفق واسعا أمام صوت الكاتبة العربية في الغرب عموما، وفي ايطاليا خصوصا.
الحياة
10 - 7 - 2005