"حياة كسرد متقطع" لأمجد ناصر
|
في مجموعته الشعرية الجديدة "حياة كسرد متقطع" الصادرة، أخيراً، عن رياض الريس للكتب والنشر، ينسحب الشاعر أمجد ناصر من السمات الجمالية والأسلوبية التي ظل يشتغل عليها، بدأب، طوال السنوات الأخيرة، وتحديداً في مجموعته الشعرية "سر من رآك"، وعلى نحو أقل، في مجموعته الشعرية "مرتقى الأنفاس".
عملية الانسحاب والتوجه نحو أراض شعرية جديدة يجيئان في شكل انقلابي. فالشاعر يغادر فضاءات الجسد، والتاريخ التي طالما اشتغل عليها ولكن هذا لا يعني قطيعة مع منجزه الشعري الشخصي.
ويخطر لي أن أمجد ناصر "يعود" إلى مجموعته الشعرية الثالثة "رعاة العزلة" ليوسع العوالم الشعرية ذاتها التي كان قد قدمها في هذه المجموعة، والتي تبدو فيها تجربة الشاعر وقد استوت تماماً وتوضحت.
ففي "رعاة العزلة" نجد كثيراً من الركائز الجمالية والأسلوبية التي تنهض عليها قصائده الجديدة، كما يمكننا أن نقف على بذورها التي اكتشفها الشاعر باكراً. هذه الركائز يطورها الشاعر ويذهب بها، مغامراً، بعيداً.
والحال، إن السمتين الأساسيتين اللتين يمكن تسجيلهما لصالح "حياة كسرد متقطع" هما من خصائص شعرية أمجد ناصر التي تحمل في عمقها المقدرة على الانزياح والتغيير، وهاتان سمتان منبعهما مفهومه الشعري الذي يتحدد بوصفه هوية جمالية متحركاً إلى الأمام، وهذا لا نلسمه في موقفه النظري من الشعر ولكن في شعره نفسه:
أولاً، الذهاب إلى النثر واحتضانه وإعطاؤه طابعاً مركزياً في الخطاب الشعري، وجعله محركا للاشتغال البلاغي والتصويري، وفي هذا الذهاب يفكك الشاعر بجرأة كبيرة ماضيه الشعري القريب وأقصد ذلك الاشتغال الحثيث على الجملة الذي دأب عليه في السنوات الأخيرة من جهة، ومن جهة أخرى، يغيب الحضور المركزي للصورة الشعرية من داخل القصيدة، من دون أن يهملها بالطبع أو يتخلى عنها نهائياً، هذا الموقف جعله يفتح النثر ـ دون خوف ـ على الكلام العادي المحكي بما فيه المفردات التي اخترعتها اللغة المحكية كضرورة لا بد منها للتعبير عن أفعال ومشاعر إنسانية تقف اللغة الفصحى، أحيانا، عاجزة عن التعبير عنها، أو مقاربتها، فضلاً عن المحكيات الشفوية والأقوال المأثورة التي هي ضد معجم أمثال للميداني، والمفردات المحكية، على الرغم من ابتعادها أحياناً عن الفصحى، أعطت للخطاب الشعري نكهة حميمية وروحية عميقة تلامس القارئ داخلياً من خلال اشتغالها، عنده في ذاكرته، والدلائل النفسية الهائلة التي تكتنزها هذه المفردات مثل: يا يحيى لن تعرف نفسك الراحة، ذيل الكلب الذي وضع في القالب أربعين عاماً وظل أعوج، طعجة، تبرطع، تفرشخ، فالصو، نيعه، تنعره، ينترهما، الكمر الساحل، سحاب البنطلون، كبش الهداد.
أيضاً، لا يفتأ الشاعر، متابعاً عملية استعمال مفردات قديمة، معيداً احياءها من جديد في شكل أقل، مثل فعل "نضت" و"خببا" و"ليت شعري".. الخ.
المشغل
ثانياً، فتح المشغل الشعري على العالم واعطاؤه إقامة دائمة داخل الخطاب الشعري حتى ليشعر القارئ بأنه بيته، من خلال، احتضان أشيائه، بمختلف أنواعها. الأشياء التي يتأسس عليها ومنها العالم وتقتسم معنا ـ ككائنات ـ فضاء الوجود، وإعادة نسج وترتيب العلاقات في ما بينها، ونقلها من موقعيتها العادية إلى موقعية شعرية، أو الرهان على شعريتها عارية. هذان الخياران ليسا سهلين على الإطلاق، إذ يلزمهما الكثير من الجرأة التي يبدو أنه لا يتمتع بهما ـ برأيي ـ إلا قلة، فيما ما زال بعض مجايلي أمجد ناصر غارقين في اشتغال شعري يذهب إلى اللغة وضجيجها صورا وتراكيب فحسب، بينما يتم تغييب العالم وتجريده من النص. ولا نشتم سوى الجفاف والتصحر يفوحان في نصوصهم. الجيشان اللغوي والسيل الصوري يحيلان ويخفيان ـ هنا ـ فقراً شعرياً مدقعاً. حيث نجد أن لغتهم لا تحيل لا على العالم ولا على الذات. هذا لا يعني انعدام محاولات الخروج وفتح ثغرة في جدار الأزمة. فثمة محاولات شعرية عديدة سعت إلى ذلك سواء عبر إعادة الذهاب إلى الأسطورة، أو إلى شخصيات تاريخية، أو روائية أو مسرحية شهيرة. الطريف في الأمر هو تكرار الشخصيات نفسها في أحيان كثيرة، لدى أكثر من شاعر. بينما، نجد أن جيل الثمانينات يحتضن هاتين السمتين في قصيدته بسهولة كبيرة، وعلى طريقته. ونموذجه الأشهر هنا الشعراء المصريون الشباب، حيث تشكل نصوصهم ـ برأيي ـ الانعطاف الوحيد في راهن الشعر العربي، ناحية هاتين السمتين، وقد تم، دائماً، اغماطهم حقهم من النقد.
درجة الاقتراب من هذين العنصرين ما زالت محدودة، من قبل الشعراء الحاضرين إعلامياً منذ السبعينات، ولم تسجل سوى نجاحات محدودة ومهتزة. كأنما هناك صعوبة في التزحزح والطلاق مع منطقة لغوية، تم الإقامة فيها، والاعتياد عليها زمناً. نظراً إلى البنية الثقافية والذهنية والسياسية التي تأسست عليها موهبتهم وثقافة جيلهم.
انفتاح القصيدة على العالم والنثر، أحد أهم المتغيرات الشعرية في الصنيع الجديد للشاعر أمجد ناصر. والذهاب اليهما واحتضانهما داخل القصيدة يشكل أحد المخارج التي لا بد منها لخروج الأصوات الشعرية العربية التي بدأت قبل الثمانينات واستمرت في مغامرتها الشعرية إلى جانب الأصوات التي ظهرت فيما بعد، من أزمتها. يستخدم أمجد ناصر اللغة استخداماً خاصاً بحيث يجعل من الخطاب الشعري بؤرة تكتنز بالاشارات الاجتماعية والإنسانية، إذا ما انتقلنا من سطحه إلى الحفر عميقاً فيه، كما مثلا قصيدته عن "ذيل الكلب" وخاتم سعدي يوسف وراديو العائلة ماركة "فيليبس" الأصلية وليس المشكوك في متانتها.
الوظيفة الجمالية للقصيدة ـ بالطبع ـ ليس وحدها التي تنبثق من قراءة القصائد، بل وظائف أخرى لا عديدة. فلو جمعنا على سبيل المثال المفردات المحكية التي ترد داخل الكتاب، على قلتها، لاستطعنا أن نلقي بقعة ضوء على البيئة البدوية الأردنية من خلال مفردات الألبسة والتسمية التي يطلقها البدو في الأردن وسوريا والعراق على أشياء عالمهم، فمثلاً لا يضير الشاعر أن يتحدث عن الكبش المختص بتلقيح النعاج: كبش الهداد، فهذه التسمية تختزن كماً هائلاً من الإشارات الحميمية والاجتماعية التي يمكن البحث فيها.
الاستخدام الخاص للغة وجعلها تنفتح على العالم بشراً وطبيعة لم تكن ممكنة، هنا، لولا التنثير الكبير للعبارة الذي يتنكبه الشاعر، جامعاً بين المتناقضات ولامّاً شمل المتشابهات، في بنية خطابه الشعري الذي رغم الوضوح الكامل للنثر فيه، إلا أنه، دائماً، يدفع القارئ إلى منطقة أخرى، تأخذه من الظاهر إلى الخفي، هو، برأيي، مسعى القصيدة عند أمجد ناصر:
"لكن الخاتم ضاق على بنصري الأيمن فنقلته إلى الأيسر فكان أنحف من أن يصمد فيه.
تغير شكل الخاتم فلم يعد مفلطحاً.
إمحت الطغراء التي اعتبرتها مجرد شكل كاليغرافي
ليت شعري ما الذي كان مكتوبا فيها؟
أهو لغز كان علي أن أحله ولم أفعل؟
أم رسالة لم أكلف نفسي عناء
قراءتها؟" ص (56)
فالمسافة بين الزمن الشعري والزمن النثري داخل النص قد تضيق كما في قصائد "القلعة" وقد تتسع اتساعاً كبيراً كما في قصيدة "ماذا في القبلة"، "جيرة"، "حديث عا دي عن السرطان"... الخ، "لكن في كلتا الحالتين نجد أن المحرك الأساسي للخطاب الذي يتنكبه الشاعر، على الرغم من نثرية السطح، هو الشعر.
يذهب الشاعر إلى الحياة دون أي حسابات شعرية ربحاً أو خسارة. إذ يعبر نصه عدد كبير من أسماء البارات والمقاهي والمحطات والمطارات والشعراء والمغنين والمفردات المكتوبة بأحرفها اللاتينية، التي تسجل جانباً من حياته ككائن: مقهى كوستا بهمرسمث، تريتي سنتر، محطة هلبورن، لندن، رام الله، معسكر الزرقاء، قصر شبيب، مطار هيثرو، هيتن كروس، دمشق، اشبيلية، جسر بروكلين، ماكنتوش، قدورة بائع السمك، نجاة الصغيرة، المغنية الفلسطيية كاميليا جبران، كافافي، بورخيس، السهروردي، ابن عربي.. إلخ. فهو يكتب عن العائلة، الأب، الأم، بيت، النساء، الأصدقاء، المرض. باختصار يكتب عن المكان الذي عاش فيه ويعيش، ويأهله. عن الوجود الإنساني للشخص في المكان: مقهى وشارعاً وباراً ومكتبة ومطاراً ومحطة قطارات الخ. من هنا فالحبكة الخفيفة وتركيب أحداث عارضة صغيرة وجمع المتباعدات يعني توسل كتابة قصة. هذا ما يفصح عنه السرد خصوصاً إذا ما رأينا أنه أحياناً يجيء متسلسلاً زمنياً، فالتركيب الحدثي يحرف اللغة إلى السرد الذي يرتبط مباشرة بما هو حياتي، على ما يتضمنه من إخبار، ويدفع بالنص إلى الزمن القصصي. لكن المتلقي الذي يغوص في القصائد لا يذهب إلى القصة أو الأقصوصة بل إلى الشعر لحظة القراءة، أولاً نتيجة للانحرافات المتواصلة للسرد الذي هو سرد استذكاري، يتم استعادته بحرارته وطزاجته، أو سرد مشهدي. ثانياً نتيجة لعنصر الخيال الذي يشتغل في بطانة الخطاب المتوسل صوغه.
فالحياة التي تطل بكل ما تحمله من متاعب ومكابدات، ويتنكب الشاعر كتابتها، مستعيناً برواسب محض ذاتية روحية كثيفة حميمية تختزنها الذاكرة، تمر متقطعة أثناء كتابتها ولحظة استعادتها أيضاً:
"الرصاصة التي أطلقها من مسدس والده العسكري "البرشوت" عندما كان يلهو تحت قوس القيظ والضجر، وكادت أن تودي بحياة أخيه الأصغر، استقرت في الدرفة الوسطى من أول خزانة ثياب اشترتها العائلة وتركت هناك (قصداً على الأغلب" لتظل مادة للكلام عن بكر العائلة الذي خرج ولم يعد".ص. (29)
السيرة
تذهب القصائد إلى العالم، الذي يتحدد بالتجربة الشخصية، أو السيرة الشخصية ويرسل الخطاب علامات وإشارات تحيل عبر النثر على كائن، تلتف حوله العلامات والإشارات ماضياً وحاضراً. كائن يبدو متعباً، حزيناً منقسماً على ذاته، هو ووجهه الآخر، هو ومثيله، حيث الذات وجها لوجه أمام صورتها الداخلية، أمامها في المرآة. الشخص الآخر الكامن في أعماق كل منا والذي يختفي في أعماق كل منا ويختصر شخصياتنا، الوجه الآخر لنا الذي يقيم في المرآة في قصيدة "طريقة أردنية". وتجلس حبيبته في ملصق إعلاني في "فتاة في مقهى كوستا"، "وجه شبه": "خفت أن أتلفت ورائي فأراني"، انقسام الوجه، وتمزق الأنا، وانشراخ الذات. إن صورة القرين هي التي تذهب إلى إضاءتها كثير من القصائد، بالاتكاء على بؤر فانتاستيكية، غالباً ما تجيء في نهاية القصائد أو وسطها أو بداياتها لا فرق لتلقي ببقعة من الضوء على صورة القرين:
"لا أعرف كيف ومتى وصل إلى هذا الكتيب الموسوم بـ"ديوان الإمام شهاب الدين السهر وردي" الذي بدا، عندما رأيته في مكتبي أول مرة، كخطأ مطبعي كبير، ولكن ما إن فتحته حتى شممت رائحة دم جاف ثم ما لبثت أن رأيت يداً مقطوعة راحت تنزف، ثم كأنني رأيتها تتحول منديلاً طارت به هبة ريح مفاجئة" ص. (59)
عمليات التقطيع والاختصار والغربلة للنثر تظهر من خلال الوحدات السرية والعلائق ما بين هذه الوحدات مع بعضها البعض، ما يجعل من الخطاب الشعري عميقاً، غير متصل بالنثر إلا كذريعة فحسب، بينما هو خطاب شعري في شكل كامل. فالمداخل إلى القصائد هي نفسها التي اعتدنا أن نجدها عند أمجد ناصر في كتاباته الأخيرة. فهو يبدأ أغلب القصائد بفعل الحال أو بأدوات أخرى أصبحت طرائق تموضعها وانتساجها في القماشة الشعرية من مشغل الشاعر الشخصي، قاذفاً القارئ فوراً إلى عمق البؤرة الشعرية الحلمية حينا كما في قصائد "نجوم لندن"، "الشخص الآخر"، "استعداد للطيران"، "في ضريح ابن عربي"، "القلعة"، "قتل الأب"، أو إلى المشهد المفتاح حينا آخر. لكن لا نجد أي اهتمام بما هو بلاغي. إذ يغيب التركيز على البلاغة، من القصيدة، لصالح الصورة المشهدية المرتكزة على المعطيات الخارجية التي رغم انبثاقها مما هو واقعي إلا أنها من طبيعة حلمية غير واقعية. كالدخول إلى مقهى، والتفكير بفتاة ثم مصادفة الفتاة نفسها المفكر بها داخل المقهى ومن ثم رؤيتها على الحائط، في ملصق.
تكمن أهمية نصوص أمجد ناصر الجديدة لا في ما تقدمه الينا من كم كبير من الإشارات، والعلامات والأسماء الهائلة، التي تعبره والتي يمكن من خلالها قراءة سيرة الكائن المكسور في المكان والزمان الذي أهلهما، سواء إنكلترا أو الأردن داخل النصوص فحسب، بل من خلال تلك المتعة واللذة التي تتوالد لحظة قراءة النصوص، والتي تتخصص بوصفها لذة شعرية أولاً وأخيراً. هذا من جهة ومن جهة أخرى مقدرة الشاعر على الخروج من منطقة شعرية إلى أخرى وفتح قصيدته كلياً على التجربة الشخصية، وتنثير عبارته، حتى لو أدى ذلك إلى السرد التام، ومن ثم لملمة كل هذه الانحرافات الجمالية والأسلوبية وتمريرها في مصهر الشعر الذي يستفيد من الحوار المسرحي والقصة والمونتاج، في سبيل قصيدة تظل تتقدم، وتعبر خارج التصنيفات الزمنية للأجيال.
المستقبل
الخميس 30 حزيران 2005
إقرأ أيضاً: