خذيني إلى موتي .. إلى عشقي .. إلى جنوني .. إلى لهيبي ولهبي.. خذيني إلى وطني.
هكذا يدعونا الكاتب الفلسطيني زياد خداش إلى اقتحام عوالم مجموعته القصصية الأخيرة " خذيني إلى موتي " في طبعة أنيقة جدا عن دار الماجد برام الله
إننا هنا أمام قص من نوع خاص، قص حر ومتمرد يحتل مسافة مدهشة بين ضوابط القص التقليدي وانفلات القص المتمرد...
فالقصص هنا كلاسيكية ومتمردة حد الهدم، لكنه هدم منظم، واع ومنضبط.. لذلك ربما سماها الكاتب على ظهر الغلاف بالنصوص، ولم يسمها مجموعة قصصية يتم السرد في معظمها بصيغة الأنا المفرد مع تخييل ذاتي يحضر بشكل قوي ومشاكس يدفعنا في بعض النصوص للتساؤل هل نحن أمام قص متخيل؟ أم أمام شبه سيرة ذاتية ؟ كتبت بطريقة ذكية وغير مباشرة فتحت المجال للكثير من التخييل كي يغنيها ويجعلها طازجة، دافئة، زكية، تغري القلب.. وتعطر الروح.
في أكثر من قصة لا يكتفي زياد خداش بالحديث بصيغة الأنا المفرد التي تقرب المسافة النفسية بين الكاتب والقص والقارئ والحدث...
وإنما يدرج اسمه الشخصي مع تفاصيل دقيقة وجد حميمة أحيانا من حياته الخاصة نقرأ في قصة "الطيون والجنود وأنا" على لسان الجنود الاسرائليين "عليك آن تذهب إلى البيت وتتزوج يازياد فورا وتنجب أولادا وتحضرهم إلى هنا حتى نتهمهم برشقنا بالحجارة" ص16 يرد اسم زياد مرة أخرى في قصة " شتاء في قميص رجل" "إسمي زياد، إسمه سامر، إسمها هيفاء، كان هو وسيما جدا، كنت أنا عاديا جدا، كانت هي ساحرة وغامضة" ص7
على هذا الوتر وداخل فسيفساء مدهشة من التخييل الذاتي يستمر الكاتب في إدراج اسمه الشخصي ويستمر الحكي بصيغة الأنا المفرد، نستثني خمس قصص من بين أربع عشرة قصة هي عدد نصوص المجموعة يتم السرد فيها بصيغة الغائب وهي " جنون القمر " " حكاية المرأة التي هربت ذات خريف" "خذيني إلى موتي"رقصتها الأخيرة" "لا باس فانا هنا أنا هنا "و هي قصص ضمير الغائب فيها ليس مجرد اختيار في السرد، بقدر ما يبدو منسجما مع الأجواء النفسية المهيمنة على المجموعة القصصية، حيث السارد غائب دائما حتى في حضوره، هناك نقطة ما تشده إلى ماض بعيد، إذ للزمن دلا لته الخاصة في هذه النصوص
الزمن النفسي مثلا في قصة" رقصتها الأخيرة" يصل ذروة التشابك والالتحام بين الماضي والحاضر.. بين العقل والجنون.. بين الحضور والغياب.. بين العناق والرصاص..بين الصدق والكذب.. بين الموت والحياة،هذه التداخلات تمر عبر ومن خلال امرأتين : إحداهما بيضا ء والأخرى سمراء، تنزويان متعانقتين خلف ستارة هربا من دوي المدافع وأصوات الرصاص.ثم لا نعرف كيف تنتهي الحالة النفسية للمرأتين بإحداهما إلى خنق الأخرى ؟ هل هو خنق فعلا ؟ أم شيء آخر ؟ نعرف ولا نعرف لأننا ننتهي من قراءة القصة مذهولين، راكضين، خائفين بدورنا من دوي المدافع وهلع الرصاص، و مثل المرأتين إحداهما أصبحت جسدا ساكنا والأخرى فقدت الذاكرة والصواب، نحتل المسافة بين العقل والجنون، وننتقل بشوق إلى الصفحات الأخرى للمجموعة بأزمانها المتلونة، والمتعددة الدلالات هناك ..المستقبل محترق، والحاضر مشوش مشدود إلى نقطة بعيدة من الماضي تجعل من لحظة منفلتة ومفاجئة سيدة الموقف، تحدد تدفق الأحداث وتتحكم في مصائر الأشخاص بشكل يضمن للمفاجأة الصغيرة دهشة خاصة شبيهة بطعنة خنجر غادر، أو نظرة خاطفة تزرع عشقا مجنونا، هذه اللحظة المسكونة بالدهشة تكاد تصاحب معظم النصوص نقرا في قصة "شتاء في قميص رجل " قصة حب مشترك للسارد زياد وصديقه سامر اتجاه فتاة اسمها هيفاء، تكتب للصديقين على ورقة من منهما تختاره زوجا، وتضع الورقة على قمة جبل قبل أن يصل زياد وسامر إلى الجبل يكون الجنود الاسرائليون قد هدموا الجبل ليبنوا مستوطنة " سنراقب من بعيد الجرافات وهي تحفر في جلودنا كارثة اسمها ضياع ورقة هيفاء، أهالينا يتحسرون على الجبل المسروق ونحن نتحسر على ورقة صغيرة"ص10
وفي قصة "الطيون والجنود وأنا" تأتينا المفاجأة من نبتة برية كانت حبيبة السارد في مراهقته تطلب منه أن يحضر لها مائة ورقة طيون مقابل قبلة ساخنة وعنيفة ليعلم بعد سنين طويلة " أن سحر كانت تغلي الطيونات في إناء كبير وتدهن به جلد أمها الذي ينهشه السرطان، بناء على تعليمات طبية قرأتها في مجلة عابرة ورخيصة"ص14
المثير هنا أن التفاصيل واللحظات الهامشية الصغيرة هي التي تحدد مسار الحكي، وتغير تدفق القص باتجاه قدر آخر ومسار أخر كما في قصة "غرفة الانتظار"
قصة يعاني فيها السارد من اضطراب في الرؤية ناتج عن لحظة خاصة بأحد مقاهي رام الله، حيث سيكتشف وهو يشم باقة ورد بجانبه" أن الجذع كان جذع شجرة تين حقيقي، أما الأغصان المربوطة به فكانت صناعية، اختلاط الطبيعي بالصناعي بهذه الطريقة الوغدة أثار عندي شهية ارتكاب جريمة"ص58
هذه المفاجآت الخاصة تلفت انتباهنا إلى أسرار أخرى للقص الذي يبدو في القراءة الأولى واضحا وشفافا كاشفا أسراره، لكن سرعان ما يتبين لنا أنه يخفي دلالات وأسرارا ممتزجة بالرمز والغموض، فالنبتة الغير الطبيعية في قصة " غرفة الانتظار" تتحول إلى رفض لكل ماهو غير حقيقي لذلك يرى السارد الناس في نفس القصة عراة، الأشياء تأخذ دلالات غير طبيعية نقرا "ارتدي منامتي تمهيدا لنوم طويل، بدلا من إلقاء جسدي على السرير، ألقيته من الشرفة، فقد رأيت الفراغ الذي يعقب الشرفة سريرا"ص58 إن الفراغ هنا هو نتيجة كل ماهو غير طبيعي ومزيف، ما يعني إحساسا قريبا من الموت " هنا سكتت مخيلتي ودماغي وانطفأت ذاكرتي، لا اعرف حتى الآن إن كان هذا هو الموت أم لا "ص59
اللحظات الرمزية تستمر في فرض دلالتها بين مد وجزر على مدارات المجموعة وغيومها الماطرة، تصل إلى ذروتها في قصة " بعينين باردتين" *يسحب السارد حييته في إحدى لحظات القصف والاجتياح، بينما الناس خائفون وهاربون إلى مكتب رئيسه ويمارسان الجنس على طاولة المدير الأنيقة، وبعد خروجهما
ا ولجوئهما إلى أسرة تقبل بإخفائهما، يتذكر قطرات حيوانه المنوي التي نسي مسحها من على المكتب، فيقرر العودة لتنظيف المكتب من منيه...
الممارسة الجنسية هنا تبدو ذات دلالة رمزية قوية جدا، إنها تعبير عن الإصرار على الحياة في مواجهة إرادة الموت التي يشهرها المحتل، والرغبة للخروج هي رغبة للاستمرار بالانشغال بالحياة بارتباكاتها، وتناقضاتها، وتفاصيلها الصغيرة رغم الموت الذي يهدد كل شيء.
تحتل المرأة مكانة هامة داخل المجموعة، المثير أنها بعد الحبيبة ليست الأم...
إنها الأخت ففي قصة "غياب الأخت" يتحدث الكاتب عن حنين جارف للأخت " أن يكون لي أخت يعني أن أ تفهم ضرورة ارتكاب خطيئة تطهرا من غبار سجون مرعبة تتخذ شكل قرارات وقوانين " ص61 " أربعون عاما وأنا بلا أخت كم هو مثير وجميل أن تكون لي آخت أرى من خلالها جسر أمان نحو ضفة تبدو لي بعيدة، ضفة أحتاجها وأريدها " ص60" لو كان لي أخت لما أخفقت كل علاقاتي العاطفية ولتدربت جيدا على تحسس دروب الروح ومسالك الجمال، لصار للنهد عندي وظيفة أخرى غير إطفاء لهيب الرجل"ص 61
لكن هذه الأخت تحضر من غيابها لتعلن وجود كائن غائب بطريقة رمزية فيها الكثير من الغموض الكثيف،الذي يمنح ا لقص طابع الندب الغائر مع القدرة على اختراق وتحريك الحزن النبيل فينا، في قصة" دوائر أختي الناقصة" وهي من أبهى قصص المجموعة نقرأ " أختي تبدو مسافة بين الغياب والحضور بين العقل والجنون، لو كتب لها أن تكون عادية،لبدت جميلة، ففي ملامح وجهها مشروع ملغي، أو غير مكتمل لجمال خاص" ص44 "
هذه الأخت في عدم اكتمالها وفي المسافة التي تحتلها بين العقل والجنون وهي " وترسم دوائر هي كل عالمها، تسافر بعيدا ولاتصل إلى أي مكان"ص66
ليست وحدها إنما لها أخ يشبهها " حياتها هي متوقفة على قلم ودفتر، تضغط على القلم وتسافر مع خطوطه المنحنية والمشتبكة والمتقطعة، ولاتصل إلى أي مكان أبدا، حياته هو متوقفة على مسدسات وهمية يصنعها بيديه ويطلق رصاصها على الجدران والسماء والجيران" ص66 من قصة" لابأس فانا هنا أنا هنا" هذه القصة بالذات هي قصة موجعة.. محمومة تغمد السكين في القلب، لأن الكاتب ينجح ببراعة في جعلنا نندمج ونتفاعل بقوة مع عوالمها الفاجعة،حيث أخ وأخت يمارسان الجنس معا " فتح الباب بهدوء ومن شق صغير استطاع أن يرى المشهد كاملا، أخته نائمة فوق أخيه بطنا على بطن، أخته تضغط بقوة جسدها الممتلئ بجسد أخيها النحيل، و الأخ متفاجئ تماما ولكنه سعيد ولا يعرف لماذا، والأخت متفاجئة ولا تعرف كيف تتوقف أو لاتريد، وهو مذهول، مذهول"
ص68 يستمر وصف المشهد في نفس الصفحة " الأخ والأخت شبه عاريين الآن، وأصواتهما تتعالى عنيفة وباكية ومستغربة، هل يهجم عليهما ويفكهما عن بعضهما البعض؟ هل يشتمهما ؟ هل يصفعهما؟ لماذا لا يتركهما فهما مبتهجان؟ ولكن كيف يتركهما يواصلان هذا الهجوم فهما لايدريان، لايدريان؟ "حين يصل التصعيد الدرامي في هذه القصة ذروته يلجا الكاتب وببراعة شديدة مرة أخرى إلى الرمز" أحس بشيء يتسلق ساعده، ابتسم هل هو العقرب؟ الشيء يتجه نحو عنقه وربما وجهه، وقف العقرب على رموشه، تجمد هناك ... تخيل شعور العقرب وهو يقف على رموشه، رموشي قد تكون الجبل بالنسبة له، والكهف عيني " ص69 الدراما هنا عوض أن تجعل القارئ يغترب عن إنسانيته تدرج تأملا نفسيا خاصا وعمقا إنسانيا واستثنائيا باهرا " قالت لي صديقة : هذه الكائنات الرائعة لا تنتمي لعالمنا، هي متورطة بوجودها على الأرض نتيجة خطا ما، ولها عالمها الخاص، ولغاتها وحضارتها وتقاليدها " ص45
" خذيني إلى موتي " هي القصة الرئيسية والمحورية في المجموعة ، هي أيضا القصة الوحيدة التي تحضر فيها الأم بطريقة رمزية تلتحم فيها الرغبة في الانسحاق بين ذراعي امرأة واعتصار نهدها الذي يرمز وبكل قوة إلى نهد الأم الذي قطعته شظية قنبلة تائهة" لطالما ذكرني الناس باني ابنك بالرضاعة ... نعم أمي الم ترضعيني صغيرا .. ما الفرق الآن، نفس الشفاه، نفس الجوع، نفس القسوة وأنت مازلت موجودة بنهديك الهائلين، وبراءتك المدهشة ص41 " كأننا هنا بأوديب يخرج بغلالة ثوب كاشفا منطقة الغرائز البدائية الأولى، كاشفا أسرار لاوعي الرجل وتلك الرغبة اللاشعورية الجبارة القاتمة والدفينة في الأم نقرأ " انفجر لهاث العالم في جوفه، وراح يمزق قميص نومها الأزرق كأنه يمزق وجه قائد الدبابة التي قصفت نهد أمه. نفس الشفاه ، نفس الجوع، نفس الوطن يا أمي " "أمسكت رأسه وقربته من نهدها الأيمن وقبل أن يعيد ارتشاف قطراته القديمة سمعته يهذي : اللهب خذيني إلى وطني اللهب خذيني إلى موتي " ص42 هنا يظهر أوديب بشراسة ويختفي ببراعة لتتحول الأم إلى رمز كثيف للوطن وكل الأخطار المحدقة به.
"خذيني إلى موتي" مجموعة قصصية تقراها بأنفاس لاهثة، فاللغة عذبة وشاعرية لم يسلبها الشعر قدرتها على التمكن من أدوات القص والسفر إلى الأبعد في استنطاق مدهش لكل إمكانياته وأسئلته المحتملة، وفي انسجام مثير زاده رونقا التكامل في العمل بين الفنان التشكيلي العراقي سعد علي صاحب لوحة الغلاف
والفنان التشكيلي الفلسطيني خالد الحوراني مصممها ليعبر اللون البرتقالي للوحة بتموجاته الحمراء والخضراء، عن لهب يمتد من الغلاف مخترقا صفحات الكتاب من الحكي إلى البنية، فالحوارات، واللغة التي تسكر الروح من دون نبيذ.
* ترجمت هذه القصة إلى اللغة الفرنسية ضمن مختارات من القصص الفلسطينية عن منشورات معهد العالم العربي بباريس لسنة 2005
Nouvelles de Palestine traduites de l'arabe par mohamed Maouhoub، mustafa Oulmane et marianne Weiss 2005 institut du monde arabe