من المرارات تأتي هالا محمد، حاملة بيدها مجموعتها الشعرية الجديدة (هذا الخوف). وهذه المرة لا تأتي ومعها مراراتها الشخصية، أم المرارات بالدم والخدمة على السواء، فحسب، كما كانت تفعل منذ باكورتها المتأخرة نسبياً (ليس للروح ذاكرة) /1994/ ثم بالتسلسل: (على ذلك البياض الخافت) /1997/ وبعدها: (قليل من الحياة) /2001/ ورابعا: (هذا الخوف)/ 2004/، بل إنها تأتي وهي تحمل مرارتنا جميعاً... نحن، إخوتها وأصدقاءها وشركاءها. من تقول في إهدائها للكتاب إنه بفضلنا، صار هذا الخوف أليفاً. أي إنه، تقول، ما زال حاضراً بيننا!! ولكننا اعتدناه وصار كواحد منّا. وليس أدل على تنكب هالا هذا الحمل الثقيل من أنها تفتتح كل شيء بواحدة من أكثر قصائد المجموعة قسوة، هذه القسوة التي تتبدى في فحواها، بقدر ما تتبدى في استخدامها للجمل المبتورة، ولأفعال الأمر، المتتابعة، الحادة، المتكررة:
(في الشارع
إلى الأمام سر
أو إلى الوراء
كما تشاء
لكن
لا تلتفت.
في الشارع
... لا تتجه.
اخفض رأسك إلى الإسفلت
اخفضه أيضا
اخفضه..
لا تخف!
عيناً بعين مع الإسفلت
... هذا أنت).
تعميم محصور
فما تفضي إليه القصيدة، بإلحاحها على أن:
اخفض رأسك،
اخفضه أيضا
اخفضه..
هو أنك.. أني.. أننا.. هذا الإسفلت.
فالضمير المخاطب هنا، رغم قبوله أن يكون معبراً عن الشاعرة نفسها، إلا أنه يعمل على تخطيها بكونه مذكراً، أي لو أن الشاعرة قد استخدمت الأنا المؤنثة المتكلمة على حد تعبير الناقد صبحي حديدي في تقديمه لمجموعتها الثانية، أو ضمير المؤنث المخاطب مثل: (اخفضي رأسَك/ اخفضيه أيضا/ اخفضيه..) لكانت القصيدة أكثر ميلاً لتكون عن الشاعرة بالذات أو عن بنات جنسها بتعميم محصور.. كما أن خلو القصيدة من أي تفصيل خاص وتموضعها في الشارع، يؤكد هذا الذهاب للعام الذي ذكرت.
بعدها تأتي مباشرة القصيدة (2) بعموميات القسوة ذاتها، بل أقسى، رغم حرصها على إثارة الشفقة، حيث:
(الجدران
التي تقسم الحياة إلى
ملاجئ
وسجون
...
مقابر
ومستشفيات)
ومعها ذلك الغائب عن أشعارنا منذ دهر:
(يحاذيها الفقير
كأنه السهم
به يرسم الشارع)
. حيث قمت، عن قصد، باستبعاد الأماكن الأخرى التي وردت في القصيدة (حدائق/ ملاعب/ ملاه/ مطاعم/ مقاه)، هي ما يعرف أنه (يحاذيها الفقير/ كأنه السهم/ به يرسم الشارع). أما الملاجئ والسجون والمقابر التي ذكرت، فهي الأماكن يعبرها الفقير مستغرقاً كل ما أعطي من وقت.. ليحل في النهاية في المكان الذي ينتهي له الجميع، ولو باختلاف ظاهري في الطقوس والمراسم. ثم بعد هذا تتالى عدة قصائد بها مفردات شبه غريبة عن قاموس هالا المعتاد، مثل حرب واعتقالات وقانون الطوارئ وفي (27) نراها تتطرق لحالة السجان الذي ينبض مفتاح الزنزانة في جيبه وفي (28) و(29) ينعدم الأمل في جزيرة شبه الحياة هذه.
إلا أن هالا محمد شاعرة شخصية محضة مهما ابتعدت عن نفسها. ففي أغلب قصائد المجموعة، تلتف حول حياتها وخصوصياتها كالشرنقة. تتأمل كل تغيير مهما كان دقيقاً يحدث في داخلها وفي ما يحيط هذا الداخل ويحاصره، تلتقط كل طارئ على أحاسيسها، تتصيد خواطرها خاطرة خاطرة. الخواطر، الأفكار والصور التي تعبر في رأسها، هي المادة الأساسية في شعرها. ما تجد نفسها تفكر به والدنيا تمطر، أو حين تصدف هرة سوداء صغيرة في الشارع، أو حين تنظر من النافذة، أو غالباً غالباً وهي تقف أمام المرآة.. ولكن على هذه الخواطر أن تحمل بدورها ما يكفي لتكون شعراً (هذا الخوف 56):
(أنا التي
حين تنظر إلى نفسها
في المرآة..
ترى المرآة..
أولا).
وربما تأتي الخاطرة جاهزة لأن تكتب مباشرة، أو أن هالا تحملها، لا أستطيع أن أحدد كيف، بخبرتها الحياتية والفنية في آن، الإحساس والمعنى اللذين يرفعانها لمستوى الخاطرة الشعرية. وهنا قد يلتبس للكثيرين الفرق بين الخاطرة العادية والخاطرة الشعرية، التي يجب أن تكون من مادة المعاني والعواطف الكثيفة التي تجعلها ذات إيحاء قوي، كمنبع شديد للضوء، أو ربما العكس، كمنبع شديد للعتمة. ويساعد على هذا الالتباس أنها قد لا تزيد عن ثلاث كلمات أحياناً، أو عن سطر أو سطرين. تكثر الأدلة التي يستدل بها على قدرة هالا على هذا التحويل، ونستطيع في القصيدة (25) من مجموعتها السابقة (قليل من الحياة) أن نجد ما نبحث عنه بدون كبير جهد:
(أحبك
كما أنا).
خالصة.. مؤثرة.. وتقريباً تامة. لكن هالا تعود، وكأن عدم تمامها الذي ذكرته لتوي قد قدم لها الفرصة مجدداً، لتستخدم الخاطرة ذاتها في القصيدة (43) من المجموعة الجديدة متلاعبة مرة أخرى بضميري أنا
وأنت:
(أحبك
كما أنت
أنا.
ومَن أكونُ سِواكَ!؟
سِواك.
ومن تكون سواكَ!؟
أنا).
ولكن ليس بذات التوفيق، أستطيع القول، لأنها، برأيي، حملت أداة دقيقة وهشة كهذه تقوم على إبدال ضمير أو حرف أو حركة تشكيل، أكثر مما تحتمل. حتى إننا هنا نكاد لا نستطيع التمييز بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب، مما قد يتيح لقارئ ما يبحث عن وجوه أخرى لكتابة نص كهذا، أن يقوم بعدة تراكيب ربما أقل وربما أكثر توفيقاً، كأن يقول:
(أحبك
كما أنا
أنتَ.
ومن تكون سواي!؟
سواك.
ومن أكون سواكَ!؟
أنت)
أو أي تبديل آخر مهما بلغت آليته، نجده يكاد يصل إلى ذات المعنى، معنى القصيدة كعمل إبداعي، كخلق، ومعنى الكلام كنتيجة وكغاية، في ذات الوقت. واستخدام هالا اللافت لهذه الأداة نعرفه في شعرها منذ (ليس للروح ذاكرة) مجموعتها الأولى، ونستطيع بدون جهد يذكر أن نجده ونحن نقلب صفحات أي من مجموعاتها الثلاث التي تلت. ففي قصيدة بعنوان (حين) من (ليس للروح ذاكرة)، يفاجئنا أن نرى هذا الاستخدام الباكر، وخاصة في المقطع الأخير من القصيدة، وهو في أفضل حالاته:
(حين تأملني حبيبي مسحورا
هو لم يتأملني أنا تأملت نفسي بعيونه.
...
حين همس لي هاتفاً باسمي
أنا همست لنفسي باسمه.
حين هجرني حبيبي ملوحاً لي بيدي
أنا هجرته ملوحةً له بيده..).
أمّا في قصيدة (فستان صديقتي) فأحسب أن هالا لا تتوانى عن الانتقال من حالة استخدام الأداة إلى حالة تملكها الكامل، حيث إن الفستان الذي استعارته من صديقتها لقضاء السهرة، غمرته رائحة وقبل وهمسات حبيبها، فصار بطفولية زائدة: (لن أعيد لها فستاني..).
ثم في المجموعة الثانية (على ذلك البياض الخافت) كما في القصيدة (37):
(كلّما انتظرتكَ لاح.
كلما حضر أوجعني غيابك.
كلما تأملته أبكيك.
كلما رماني بحبه قتلني حبك.
هو لي وأنا لذكراك..)
والقصيدة (47):
(عشت معه
لأرى
كيف يحيا
بدوني).
وكذلك في مجموعة:
(قليل من الحياة) وإن على نحو أقل تفشياً بكثير مثل قصيدة (62) ونهايتي (66) و(115):
(لا تحزني
لست تمضين وحيدة
اللحظة نفسها تمضي بك).
ولكن هالا تعود لاستخدام لعبة الضمائر هذه بكثافة في مجموعتها الجديدة (هذا الخوف) فإضافة للقصيدة/ 43/ التي ذكرت، هناك قصائد كثيرة، منها على سبيل المثال (4):
(على الرصيف
وأنا
في منتصف الطريق
أراني!..)
وكأن هالا هنا تصور حلماً يرى فيه المرء نفسه وكأنه شخص آخر، هو في مكان وذلك الآخر الذي يراه في مكان آخر، ودليلي على هذا التفسير البعيد أنها في النصف الثاني من القصيدة:
(فأركض.
وأنا على الرصيف
لا أستطيع الحراك.)
تقوم بوصف حالة كابوسية معروفة، وأيضاً القصيدة (57):
(أحببتهم كأنهم
كأني.. لهم)
وغيرها.
مرارات الآخر
يؤدي ذلك الوداع الطوعي أو ربما القسري، من يعلم! بيد الآخر، ذلك التلاعب القاسي بالضمائر، الذي يبدو أن لا حيلة لهالا محمد كشاعرة ولا كإنسان في كبحه، إلى اختلاط، اشتباك، الأسلوب مع النازع الشخصي، الحاجة مع الفقدان، الآخر مع الأنا، حتى يصل إلى أن يهدد الذات بشعور طاغٍ بالضياع والخسارة، رغم عمل هالا الدؤوب والعنيد لنجدة نفسها كلَّ مرة. ولكن حتى في نجاحها عند اللحظة الأخيرة غالباً، لا تخرج بدون خسائر! بدون مرارات. المرارت التي يسببها الآخر، التي لا يسببها سوى الآخر. وهذه المرارات إن كانت لا أكثر من إشارات، أعراض، في (ليس للروح ذاكرة) حيث:
(أرجوك ناولني
بعض الأشياء المبعثرة بقربك
فقط
لأبعثرها بقربي).
و
(حين كذبت
صدقتك
لأنك
كنت تكذب علي بصدق).
فهي تتواتر وتتصاعد على طول الطريق، الذي يبدو كأنه طريق جلجلة حقيقي، جلجلة امرأة تصر على أن تحيا بروح شقية لا تتعلم ولا تتذكر، امرأة تنسى وتغفر وغالباً ما تكذب على نفسها لتصدق مرة أخرى فتعود من جديد وتجرب وتفرح وتتألم وتحب وتهجر. وها أنذا أجد نفسي أقوم بتقليب صفحات مجموعات هالا الأربع، للمرة.. لا أدري كم! وألتقط قصائد أكثر من أن أقدمها جميعها كشواهد على ادعائي هذا، مثل القصيدة (21) من مجموعتها الثانية (على ذلك البياض الخافت) التي تبدأ ب:
(ذلك الفراش
عاشر جسدينا)
وتنتهي ب
(يلامسها عارية بيننا
... الهزيمة).
و(38) و(46):
(... من خانني
أغصُّ بأنفاسه
جيئةً.. وذهاباً.).
وأحسب أن هذا يصل إلى أبعد نقطة، أو لأقل يتصاعد كما عبرت سابقاً إلى أعلى مستوى، أو لأقل يغوص إلى أعمق ما يمكن أن تصل إليه طعنة.. لا تقتل! في المجموعة الثالثة (قليل من الحياة) حيث يبدو كأن لا شيء يصلح ليسلو عنها، سوى ربما كونها أماً، حيث دائماً هناك قصائد تخاطب طفلاً يشبُّ من مجموعة إلى أخرى، ولكن يبقى أنه على غلاف الثاني لتلك المجموعة نقرأ:
(الرجال
الذين عاشرتهم
كالأوطان التي أحمل جنسياتها
للجميع).
وفي (17):
(... باقتضاب خلعني من جنته
صارت يدي لا تطعم أحدا
جسدي بلا خير...)
و(22):
(... لشبه حب
لا يدوم... لا يهم
أيةُ نعمةٍ!!).
وفي (65):
(حنانك
كان تقنيةً في تصويب
العين
واليد
والفم).
و في (67):
(... تغيرت
أنتَ لا ترى جسدك
نسخةً عن أداءٍ..)
فنرى كأنه بعد أن كشفت زيف الآخر تقوم آليات دفاعها الذاتية بمساعدتها على القيام بهجوم مضاد عليه، ففي (68):
(رجلٌ بكلام جاهز
وجبة كلام سريعة
لذيذة
طازجة.
رجلٌ بأحلام جاهزة
جرعة أحلام سريعة
لذيذة
رطبة.
رجل بقميص مفتوح
أزراره طازجة
جهة القلب.
قلب جاهز للخفقان السريع
اللذيذ.
جسد جاهز... بلا قلب..)
أما في المجموعة الأخيرة (هذا الخوف) فإن هالا تبدو كأنها تأتي بهذه المرارات الشخصية لترمي بها أمامها، واحدةً تلو الأخرى، ثم تدوسها عابرة فوقها، ففي قصيدة (8) تتابع هالا هجومها على الآخر دون أي استدراك أو تردد يوحي بعدالة الفكرة، قبل إصدار حكم أو إطلاق رصاصة، الآخر الغائب بدون عذر، التارك دائماً بسبب كونه زائفاً!:
(تحت شاربيه يلصق فماً.. للبيت
فماً للخروج.
فماً لحالة الطوارئ
...للحب
للأسرار
للحذر.
فماً لليسار
للحياد
للنصح
للصدق
لدروس الأخلاق
فماً... كورقة اليانصيب
مفتوحاً على الاحتمالات).
فم ملصق للكذب، نفهم! أما فم ملصق للحب.. للصدق.. كيف ذلك!؟ قلت تدوسها عابرة فوقها.. إلى أين؟ ليس إلى ضفة، بل إلى نهر جديد، إلى حب جديد لم تظهر مراراته بعد، إلا أن هالا تبدي هذه المرة الكثير من الحذر والتوجس، وكذلك الأمل. ففي القصيدة (36):
(كريشة
مثقلةً... لا تزال
بالدم.. بالألم
هوت بي الرياح على صدرك
... لن أنسى أنك رأيتني
طيرا
لن أنسى).
وفي (42):
(تدربت من جديد
على الحياة
بفضلك...)
أما في (44) :
ف(لكل حب
صوته
جسده
روحه/ عيونه
... لكل حبٍّ...
حبه الأول و... الأخير
لعلَّ!).
وتزيد في (46) فتقول:
(رغم صدرك
.. رغم أكتافك أعادت إلى أكتافي اعتبارها.
رغم يدك
كأنها يد الغريزة الأولى
... رغم هذا الحب
لا زلت... أخاف).
السفير- اكتوبر 2005