لاقت أشعار حافظ الشيرازي رواجا قل مثيله في العالم الفارسي. أحبها الناس واستحسنوها، وحفظوها وأخذوا في ترديدها وترتيلها مدى قرون من الزمن. وقد ترك الشاعر الذي لقِّب ب"لسان الغيب وترجمان الأشواق" ديوانا كبيرا يشتمل على ستمئة وثلاث وتسعين منظومة معظمها من النوع الذي يُعرف ب"الغزل". نجد في المكتبات العالمية عددا كبيرا من نسخ هذا الديوان، من أجملها مخطوط محفوظ في متحف فوغ التابع لجامعة هارفرد، يحتوي على أربع منمنمات تستلهم قصائد أبرع الشعراء الفرس في نظم الغزل. تحتل المنمنمة الأولى ظهر الورقة السابعة والستين من هذا المخطوط وتصوّر عاشقين يتسامران وسط حديقة مزهرة أمام جمع يعزفون ويرقصون ويحتسون الخمر.
يحتل العاشقان وسط الصورة ويشكلان مركز الثقل ونقطة التقاء الخطوط التي يقوم عليها التأليف. يصورهما الرسام متربعين فوق سجادة صغيرة في ظل ستارة مربعة الحجم تنفتح كخيمة فوق قضيبين طويلين. يظهر الرجل في حلة شخص ثري يرتدي مشلحا أرجوانيا فيما تحضر المرأة في ثوب بنفسجي طويل يعلوه معطف أصفر. ترنو العاشقة إلى أميرها بحنوّ وتمد ذراعها من فوق ظهرها لتلقي بيدها على كتفه. في المقابل، يمسك العاشق أنامل حبيبته بقبضته اليسرى، مادّاً ذراعه اليمنى في اتجاه فتى أمرد يحمل له كأسا مذهبة. تربط حركة اليدين هذه بين الأشخاص الثلاثة وتشكل عقدا سريا يجمع بين الساقي والعاشق والمعشوق. أمام هذا الثالوث، يحتشد فريق مؤلف من سبعة أفراد يحتلون النصف الأسفل من المنمنمة. وسط خمسة رجال يجلسون فوق العشب الأخضر، تقف امرأتان تتمايلان بثوبيهما المتساقطين حتى القدمين. على الجهة اليمنى، ثمة عازف يقرع الدف وآخر يعزف على الناي. على الجهة المقابلة، ثلاثة رجال يتذوقون الفاكهة ويحتسون الخمر.
الفضاء الحسي غائب، والأبعاد المادية لا وجود لها. تختفي جاذبية الأرض، ويغيب النور الطبيعي بانعكاساته وظلاله. على المساحة المسطحة للمنمنمة، تتوازن عناصر الصورة وتتناسب أجزاؤها وفق تطابق هندسي خفي. تقوم صياغة التأليف عمودياً، تبعا لمنظور معاكس يُسقط الرؤية بحسب العمق. لا يخضع الأشخاص للتقليص أو التكبير وفقاً للمكان الذي يحتلونه في الأبعاد الثلاثة، فهم متساوون حجما في هذا الأفق العمودي المسطح. تستقر القامات وسط مساحة خضراء اللون تحدها في الأعلى سماء زرقاء تزينها شبكة من الغيوم التجريدية الطابع. ترتفع الأشجار المزهرة وتجعل المشهد الطبيعي روضة فردوسية. تتحرر الأشياء من ثقلها وتتجرد من قوى الجاذبية. يثبت في الأفق طبقان من الفاكهة وطاولة خفيضة تعلوها زجاجتان ذهبيتان وإبريق أبيض.
شفة الحبيب وكأس الخمر
ترافق المنمنمة كتابة بالفارسية تستعيد مطلع واحدة من القصائد التي نظمها حافظ غزلاً. هي القصيدة 162 في ديوانه، نقرأها في ترجمتها العربية التي وضعها إبراهيم أمين الشواربي في النصف الأول من القرن الماضي:
لا يكون الورد جميلا بغير طلعة الحبيب/ ولا يصفو الربيع بغير الخمر ولا يطيب
وأطراف الخميلة والطواف بالبساتين/ بغير الحبيب ذي الخد الأحمر لا تحلو ولا تطيب
وأشجار السرو في رقصها والورود في مرحها/ بغير صوت العندليب لا تطيب
وبقاؤك مع الحبيب الذي شفته كالسكر، وهندامه كالورد/ بغير العناق والتقبيل لا يطيب
وكل صورة تنقشها يد العقل/ غير نقش الحبيب، لا تحلو ولا تطيب
فيا "حافظ" إن الروح نقد حقير/ تقديمه للحبيب لا يصلح ولا يطيب.
تستلهم المنمنمة غزل حافظ وتعكس صدى كلماته التي تعود وتتردد في القصائد التي نظمها غزلا. البستان روضة فيحاء تملأها أشجار السرو الفرعاء. تفتّح الورد والياسمين فيها يصير "بشيرا بالخير والبركة واليمن". نسائم الربيع تشعل تنورها في شقائق النعمان والوردة تأخذ في الاتقاد والغليان (غزل 156). يتردد قول الشاعر: "أنا ملول من هذا الزهد الجاف، فأين الشراب المروق الصافي" (غزل 140). "ها هي نسائم الجنة تهب من البستان، فغب الكأس؛ لحظة بعد لحظة، من الشراب المذاب" (غزل 13). "أيها الساقي قم فأدر الكأس وناولني المدام وانثر التراب على أحداث الزمان وأحزان الأيام" (غزل 9).
العازفون يعزفون والراقصون يرقصون والساقي اللعوب يحمل الخمر إلى العاشق المتيّم. "لقد اجتمع لدينا الساقي والمطرب والخمر" (غزل 15)، إلا أن الحلقة لا تكتمل إلا بحضور المعشوق. يحل الحبيب بوجهه الساطع كالقمر وشفته الحمراء التي تنثر السكر. يتأمل العاشق في ورد وجنتي المعشوق ويقول: "الشراب والخلاعة جميلان في عين حبيبي الناعسة المخمورة" (غزل 5). "وإذا لم أترك شفة الحبيب الحمراء ولا كأس الخمر، فمعذرة أيها الزهاد، فهذا مذهبي" (غزل 19). "ولو خربتني خمر العشق وحطمتني، فأساس وجودي عامر بذلك الخراب" (غزل 38).
المدرسة الصفوية
على صعيد اللغة التشكيلية، تختصر هذه المنمنمة بأسلوبها المرهف تطور فن التصوير الفارسي في العهد الصفوي، وهو العهد الذي بدأ مع تولّي الصفويين الحكم عام 1502. السلالة الصفوية، على ما هو معروف، سلالة شيعية لقّبت بهذا الإسم نسبة إلى الشيخ صفي الدين، وهو قائد ديني عاش في القرنين الثالث عشر والرابع عشر.
مؤسس السلالة الصفوية هو الشاه إسماعيل الأول، وقد سيطر على إيران وعلى أجزاء من العراق وجعل المذهب الشيعي الدين الرسمي للمملكة. حكم بين 1588 و 1629، وجعل من أصفهان عاصمة للمملكة ومركزا للثقافة والفنون. لقِّب بالشاه الكبير وعُرف برعايته الفنانين والعلماء وارتبط اسمه بمجموعة عظيمة من روائع العمارة الإسلامية. وقد لمع فن الكتاب الفارسي في عهده وبلغ القمة مع عدد من الرسامين، أشهرهم محمدي الذي تميز برسمه المنظر الطبيعي الفردوسي الطابع، ورضا عباسي الذي اضطلع بدور رئيسي في تطوير فن التصوير الفارسي في النصف الأول من القرن السابع عشر. وقد ترك هذا الأخير أثرا بالغا في الفنانين الذين عاصروه أو جاؤوا بعده، ومنهم محمد قاسم الذي زاول الرسم في زمن الشاه عباس الثاني الذي حكم بين 1642 و 1666، ومحمد يوسفي الذي أولى عناصر الطبيعة أهمية كبيرة بحيث لا تأتي في الدرجة الثانية بعد الشخوص.
تحضر صور الرجل العاشق والحبيبة المعشوقة والساقي النديم، وتتكرر إلى ما لا نهاية في فن الكتاب الصفوي، وفي هذا الحضور القوي شهادة لهذه الروح الجامعة التي تربط فن الشعر والأدب بفن الرسم والتلوين. الأمثلة في هذا المجال لا تُحصى. الصور الشعرية التي خلّدها حافظ ومن سار على دربه من الشعراء تتحول نماذج إيقونوغرافية يستعيدها المصورون في تنويعات تخرجها من ثباتها. في المشاهد الجماعية يحضر العازفون والراقصون إلى جانب الساقي في مجلس العشاق فتكتمل حلقة السمر في الجنائن المزهرة. في الأعمال "المختزلة" التي راجت في القرن السابع عشر، يحضر أبطال الحلقة في صور منفردة قائمة في ذاتها. في المنمنمات التي تتأصل في التقليد الذي اكتمل في القرن السادس عشر، يبرز المشهد الإحتفالي بعناصره البشرية والحيوانية والنباتية مما يعطي الصورة طابعا كونيا فردوسيا يجمع بين مناخات وأجواء متعددة. في المقابل، تتحول الصورة مساحة لتألق الإنسان في الأعمال التي تنتسب إلى مدرسة رضا عباسي، حيث يمسي الفرد محور المنمنمة وموضوعها الرئيسي.
هنا وهناك، تطالعنا صور لرجال ونساء في وضعية التأمل والاسترخاء، بعيدا عن كل ما يوحي الفجور. القامات تنضح بالفتوة والوجوه قمرية تتوهج بنورها ولطفها ورقتها. يتقدم الساقي حاملا الخمر الياقوتية المصفاة، تلك التي قال عنها حافظ إنها "أشهى وأحلى من قبلة العذارى والأبكار" (غزل 10). الوردة في حضن العاشق، والكأس في كفه، والمعشوق على مرامه "بخاله الجميل وهدبه الطويل وخده الأثير وطرته الملتفة وقامته المعتدلة" (غزل 57). "طريق العشق طويل لا نهاية له، ولا سبيل إليه إلا بإسلام الروح فيه" (غزل 81).
لم تبق هذه القامات والوجوه حكرا على فن الكتاب. في "قاعات الموسيقى" في قصر "علي كابو" كما في "الجناح الملكي" في القصر المعروف باسم "شيهيل سوتون"، نجد رسوما جدارية من القرن السابع عشر تستعيد الصور الأليفة التي صاغها رسامو المنمنمات. من بطون الكتب، تخرج صور العاشق والحبيب والساقي والعازف والنديم لتحتل جدران القصور والديار الملكية. نتأمل فيها ونتذكر ما قاله الشاعر لنفسه:
"يا حافظ لا تجلس لحظة واحدة بغير المعشوق والخمر والمدام" (غزل 44).
النهار الثقافي
الأحد 7 آب 2005
إقرأ أيضاً:-