في المجموعة الشعريّة الجديدة للشاعر اللبنانيّ عبده وازن، الصّادرة حديثاً عن «دار النهضة العربيّة» تحت عنوان «حياة معطّلة»، تكثر الإشارات والتلميحات، بدءاً بالعنوان نفسه، إلى نوع من المنفى والحنين إلى الحياة الحقيقيّة، التي سبق أنْ عرّفها رامبو بأنّها «غائبة». نودّ أن نلفت الانتباه بادئ ذي بدء إلى ضخامة المجمــوعة بالقياس إلى ما بات شائعاً في أعراف النّشر. إنّها تغطّي مئتين وثمانين صفحة بالقطع المتوسّط، وتشــكل حصاداً غنيّاً للشاعر يمتدّ من ,2003 وهو تاريــخ صــدور مجموعته السّابقة «نار العودة» (دار المدى)، حتّى أيّامنا.
هذه المجموعة تفاجئ متتبّع العمل الإبداعيّ لعبده وازن بتغيّر جذريّ في إيقاع العبارة الشعريّة. المجموعة مكتوب أغلبها بتقنية الأبيات الحرّة غير التفعيليّة، مع بضع قصائد نثر. الأبيات الحرّة صارت هنا أكثر «اقتصاداً» وتسارعاً، وهو تحوّل لافت للنظر في إنتاج شاعر تزخر مجاميعه السابقة بالأبيات الطويلة المبرومة ببراعة لغويّة ورهافة موسيقيّة واضحتين. الوجازة تفرض نفسها هنا قانوناً يتطلّب نمطاً من البراعة الفنيّة آخر. وهي تأتي متواشجة وطبيعة المعالجات الشعريّة، التي يتحكّم بها قانون الصّمت ويمــارس عليها الغياب المفاجئ والانقطاع المتواتر لأجمل اللّحـظات والكائنات تهديدهما الدّائمين.
صحيح أنّ القصائد مكتوبة في ظلّ الرّعب اليوميّ واحتمال استئناف الحرب أعمالها البغيضة. إلاّ أنّ بواعث أُخرى تقف وراء سيادة نبرة الغياب هذه. أؤمن مع دريدا بأنّ عنصر السّيرة الذاتيّة يتمتّع بالقيمة بقدر ما يتكلّم داخل النصّ. من سيرة عبده وازن سأتمسّك بمعطيين أراهما ناطقين في أشعاره. هناك أوّلاً اهتمام، بل انهمام قديم بالرّوحانيّات، خصوصاً التصّوفَين المسيــحيّ والإســلاميّ، منهما ينهل ناشر «ديوان الحلاّج» حقائق أخــلاقيّة وروحيّة عالية، في فترة ينصرف فيها الكثــيرون عن مسائل الأخلاق وأسئلة الرّوح. ما ينقّي كتــابات عبده وازن من أوشاب الجفاف المعهود في مثل هذه المعالجات هو غياب نبرة اليقين والوعظ عنـده، وسيادة الاندهاش الشعريّ وحرقة السؤال عن بـواعث اضمحلال الوجود.
العنصر الثاني يتمثّل في الفعل الثقافيّ ومنافسته للقصيدة. كلّ ما في حياتنا المعاصرة يتضافر ليقيم هوّة واسعة بين الذّات الشاعرة وعمقها الخاصّ. العمل الثقافيّ نفسه (ونادرون هم من يمارسون عملهم الثقافيّ، صحافة ونقداً ودراسة وترجمة، بمثل تفاني وازن حتّى ليكاد يذوب فيه) يأتي أغلب الأحايين ليُحلّ نوعاً من الانزياح عن لحظة القصيدة يبذل الشاعر جهوداً استثــنائيّة ليمــنعه من الطغيان. لا شكّ أنّنا صرنا بعيدين عن زمــن الشــّعراء الرّعويّين، لا بل حتّى عن زمن ريلكه، حيث كان الانصراف للشعر يشكّل مشغلة يوميّة واختباراً مطرداً.
هذا التهديد باتّساع مساحة الغربة عن القصيدة ليس شرطاً يعيشه الشاعر المثقّف وحده. فالحروب اليوميّة والإعلاميّة والفعليّة تغزو مجال الشاعر وقارئه سواء بسواء، وكلاهما شاعر على شاكلته. كما أنّ كليهما، بدلالة الاختيار الشعريّ، كائن منذور للبساطة. بساطة عميقة ومشعّة هي ثمرة نضال مواظب، يائس أحياناً، للتخفّف من نوافل الحياة وبَهارج العصر. تضيّق الحروب المجال على الأعراس التي تظل الذّات الشاعرة بحاجة إلى استئنافها مع الشعر وموسيقاه البالغة الرّهافة التي تصنع لهذه الذّات حاسّة سادسة.
من هنا تكتسب مجموعة عبده وازن الشعريّة الجديدة، المنعقدة في مجال أزمة والمنتشَلة أوراقها أو لحظاتها من حصار المِهنة وحروب العالَم، أقول تكتسب أهميّة بالغة وتعرب عن وفاء عالٍ للّحظة الشعريّة وعن عناد شعريّ كبير. وهذا التهديد الذي يتلقّاه الكائن الحديث بالانفصال قسراً عن أغلى مكنونات روحه وعن كنوز دخيلائه إنّما يشكّل أحد أهمّ نوابض هذه القصائد وأكثرها تواتراً. عليه يمارس الشاعر تنويعات بالغة الثراء.
بحثاً عن «الشّبيه»
القصيدة الأولى في هذه المجموعة، وعنوانها «الشّبيه»، ترسم هذا الحنين إلى «القرين»، الذي يجسّد الوجه الأكثر صفاءً واكتمالاً لذاتٍ ترفض الامتثال لغفليّتها الاضطراريّة. يحسب الشاعر المسافة التي تفصل أناه اليوميّة عن هذه الأنا الحقّ التي بقيت أكثر ارتباطاً بأساسيّات الوجود، وفي أوّلها عناصر المشهد الطبيعيّ وشواهد الكون: «الرّجل الذي خرج للحين / ليس شبيهي / عندما نظر إلى البحر / التمعتْ في رأسه صوَر / عيناه الحمراوان خالجتْهما زرقة». هو الخوف من «انفصال»، يعرب عنه تسلّط نسيانٍ يعيشه الكائن بعامّة، كما أسلفنا في القول، وليس الشاعر الحديث وحده: «هناك مَن يترك كرسيّاً وراءه /.../ هناك من يترك / عينين زائغتين / هناك من يترك ظلاًّ مكسوراً / هناك من يترك صرخة / لا يسمعها أحد» («نسيان»).
هذا الشعور بانفصال خطير تشكّل اللحظة الشعريّة أهمّ وسائل تطويعه، يدفع الشاعر، لأنّه ليس حبيس ذاته، إلى استقراء علاماته واختبار صدقيّته ومضائه من ناحية الموتى كما في جوار الأحياء. قصيدة «أطياف مطعونة» تتألّف من ثلاث عبارات شعريّة طويلة يفصل بين عناصرها تقطيع موسيقيّ يراهن على الوجازة ويفيد منها. من قراءتها تعرف أنّ شموساً تبقى بعد ما يرتمي المنتحرون «في لجّة عيونهم» و«يغمضونها إلى الأبد»، أو بعدما «يقطعون شرايين روحهم / بنظرات مرتبكة / وينامون / مبتسمين». تعرف أيضاً أنّ شموساً مماثلة، سوداء أم ملوَّنة لا يهمّ، تظلّ مشرفة «على سفوح / تنحدر منها / كلّ ليلة / أطياف مطعونة / في القلب». شموس المنتحرين وشموس القلب المعافى والمتسائل هذه تعيش انسكاباً متبادلاً يهدم الفواصل بين العوالم ويضعنا جميعاً في حضور الأطياف. أطياف تشكّل، من الشعراء العذريّين الأوائل حتّى شكسبير، أحد مناهل الشعر والوجود الأساسيّة. أقول: الوجود، إذْ يا ترى ما يفعل الكائن وكيف يضمن لنفسه البقاء، بقاءً حيويّاً ومنتعشاً، لولا صداقة الأطياف هذه، تمدّه بزيادة روحيّة وتضمن له تواصلات دائمة وسكّانَ وطنه الحقيقيّ، وطن اللاّ مرئيّ العزيز والمحتجب الضروريّ؟
القصيدة الآتية
محوَر الغياب هذا والسّعي الدائم إلى تطويعه بالكتابة الشعريّة والمشاغل الرّوحانية والانهماك العشقيّ (في المجموعة غزليّات جميلة تنهض على خلفية الغياب هذه، من أجملها قصيدة «عندما كنتِ الحياة»، التي تصوّر شحوباً يعرو نهدَي الحبيبة بباعث من الزّمن، شحوباً يتأملّه الشاعر كمثْل هالة مضيئة: «لا تخفي ثدييك / إنّهما مرآة لوجهي»)، هذا المحور يجد ما يكمّله في محوَرين آخرين أساسيّين. أوّلهما التفكير بالقصيدة الآتية أو النصّ القادم. فالشاعر الغزير القراءات يجعل من امرئ القيس وأبي نؤاس ويوحنّا الصّليب ودانتي وبودلير ونرفال ورامبو وريلكه ورنيــه شار وسواهم علامات على مسيرة داخليّة، ارتقــائيّة ومتــشوّفة، هم الذين يشكّلون لدى آخرين لا أكثر من أسماء. اللحظة الشعريّة أبديّة مأهولة بتلاقيــات وجــسور وتماهيات وتحالفات منزَّهة من كلّ رهان زمنيّ. وسبقَ أن كتب شار أنّ «البرق، ما إن نسكنه، حتى يصير منزلاً للأبديّ». هكذا يخرج الشاعر في إجازة من الآنيّ الضيّق والظرفيّ المعيق ويتخيّل ببالغ الشغف ملامح القصيدة غير المكتوبة، هذه الغائبة عن جميع النصوص («الزّهرة الغائبة عن جميع الباقات» كما يقول مالارمه في سيــاق آخَر)، والتي تشكّل مهمازاً لاهباً لجميع النصوص، القصــيدة التي ينتظرها شعراء «سيأتون / بأشواقهم / بأوهامهم / وخرافاتهم الصغيرة»، القصيدة «التي هي الحياة / التي هي الموت / التي هي الضوء / المكسور بالضوء»، القصيدة «التي ستظلّ / حلماً بالقصيدة /.../ رغبة لا تكتمل / لذّة تتلاشى / في العيون» («لم يكتبها أحد»).
الحرب في امتساخها العريق
المحوَر الثاني يتمثّل في الحرب التي بسطتْ على لبنان في صيف 2006 تهديدها المريع بانبعاثها من رمادها الأليم. ترك زهير ابن أبي سُلمى في معلّقته صورة قد تكون من أبلغ ما تركه شاعر في جميع الثقافات والحقَب عن الحرب باعتبارها مسخاً يتوالد بلا انتهاء من ذاته ويلد مسوخاً مريعة ويعلك البشريّة كما تعلك الرّحى قطعة الجِلد الهيّنة التي تتوسّط بينها وبين الأرض. عبده وازن يهبنا في مجموعته هذه صوراً راعبة عن الحرب، صاغ أغلبها في قصائد نثر متينة البناء محكمة النّسج. القصيدة «جنازة 1» تصوّر قبراً جماعيّاً وتتحدّث عن تطامن الموتى في تلاحمهم القسريّ: «كانوا مطمئنّين، اللّيل سيضمّهم وعظامهم ستزهر في التراب. لقد وجدوا قبراً ولو ضيّقاً في هذه الأرض المنهوبة. /سقطة القبر لم تكن أليمة لأنّهم كانوا كثيرين. تعانقوا وسقطوا معاً. ثمّ فتحوا عيونهم، كما تقول الــكتب، ليبصروا ما لم يبصره أحد، ليسمعوا ما لم يسمعوه من قبل». القصيدة «جنازة 2» تصوّر مشيّعين فاجأتهم القذائف فتفرّقوا ووقعت التوابيت على الأرض وتدحرجت الجثث على التراب: «المشــيّعون تــواروا خلف الأشجار ولم يبقَ على الطريق ســوى التوابــيت المخلّعة وبقايا أناس قُتلوا مرّتين». كــلّ ما هو أساسيّ في حقيقة الحرب هو هنا: العدوان المتــكرّر والتشــويه المتواتر للموتى والأحياء وتعنيف الطّبيعة. وهــذا كلّه مكتوب باقتصاد في العبارة وتعفّف عن كلّ نواح ما كان سيفعل سوى أن يضيف غنائية متخطّاة أو بلاغة نافلة.
إجمالاً، تجمع قصائد عبده وازن الجديدة هذه وتوظّف أفضل مكتسبات القصيدة العربيّة الجديدة التي يظلّ هوَ أحد صانعيها الأوفياء. وفي أوّلها هذه المواءمة الفعّالة بين نسيج الصّوَر وشبكات الأفكار، بفضلها تصبح القصيدة بياناً روحانيّاً وفي الأوان ذاته مهرجانا حيويّاً من الصّوَر المبتكَرة والإيقاعات البارعة واللقايا اللغويّة.
السفير
25 يناير- 2008