قبل ثلاث سنوات فقط، وفي مهرجان جرش للثقافة والفنون، تسنى لي أن أستمع للمرة الأولى إلى قصائد الشاعر الأردني زياد العناني. وقف زياد يومها بقامته القصيرة وسمرته الداكنة ليقرأ بعضا من قصائده النثرية القصيرة التي تنضح بالطرافة المرّة والصور اللماحة والاختزال الشديد. لم تكن تلك القصائد لتأبه كثيرا بعمود الشعر أو لتحفل بالتطريب الإنشادي الذي يشكل العصب الأساسي لشعر المناسبات، أو لتتكئ على الانفعال الحماسي لخطاب التحريض الوطني والقومي بقدر ما كانت تنهل من معينها الخاص الأقرب إلى شاعرية (الصعلكة) والاعتراف الذاتي والمساررة الشخصية المباغتة. ومع ذلك فقد استطاع الشاعر بصدقه الأعزل وفطنته المجردة أن ينافس المنبريين في عقر دارهم وان ينتزع التصفيق غير مرة بما يكون وصفه بمنبرية المعنى وقوة المجاز الخاطف. ورغم انه يومها لم يكن قد أصدر أي عمل شعري مطبوع فقد حملت قصائده الملقاة الكثير من الارهاصات والآمال ووعود المستقبل. والمجموعات الأربع التي صدرت لزياد في ما بعد جاءت تأكيدا بيّنا لحضوره الشعري الراسخ كما لفرادة قصيدته وتألقها المطرد.
في (كمائن طويلة الأجل)، مجموعته الشعرية الأخيرة، يؤكد زياد العناني للمرة الرابعة إخلاصه لقضية الشعر ورغبته الملحة في اجتراح قصيدة توائم بين المجازي والمرئي وتبتعد عن الذهنية والتجريد بما تمتلكه من قوة الحياة وملموسية الصور. كأن قصيدة العناني بهذا المعنى تعيد الاعتبار إلى الركائز الأساسية التي بنيت فوقها قصيدة النثر العربية بعد أن غرقت هذه القصيدة، عدا استثناءات قليلة، في التكرار والتنميط والإنشاء الجاهز. فالشاعر في مجموعته الجديدة، كما في سائر مجموعاته، ينأى بنفسه عن السيلان البلاغي واللغة الاستعراضية والحذلقة المفتعلة ليقارب الأحاسيس الأولية البسيطة والرغبات الصادقة الخالية من أي ادعاء. يعيدنا العناني من هذه الزاوية إلى المناطق الطازجة والبكر التي نشأت في كنفها قصيدة محمد الماغوط والتي انجبلت معها الكتابة بلحم الحياة الحي ودمها الساخن دون أن يقع في فخ المحاكاة أو التكرار. ذلك أن صاحب (خزانة الأسف) و(مرضى بطول البال) يمتلك من صدق التجربة وقوة المعيش وتراثه ما يمكنه من النجاة بنفسه ومجانية الوقوع في شرك المماثلة السهلة لما سبقه من تجارب. لا بل أن العناني في مقطوعاته القصيرة التي يضع لها عنوان (قصائد) يعمد إلى الانقلاب على الآباء، الحقيقيين أو الرمزيين، عبر دعوته الصريحة للخروج من عباءة الآباء كما من أسمائهم نفسها: (نخطئ حين نسمي أنفسنا/ على أسماء من سبقوا/ بحجة أن مياههم دين/ يظل في أعناقنا/ أبي الذي تضوع في الهواء مثل مبخرة/ لم يزل يلوح بالرضى../ تزوج يا زياد لكي أرى/ هكذا نتكرر دون أن نرى/ لم تزل أسماؤهم كالوشم ماثلة/ ونحن نتملق البقاء دون أن نرى).
بلغة ملتبسة وعين شديدة التحديق وجمل قريبة من منابتها يحول الشاعر قصيدته إلى سينوغرافيا مقتضبة ومكثفة لواقع مثقل بمفارقاته. فهو يرى إلى نفسه بوصفه ملوثا بالسلالة ومدموغا بإرث الأسلاف ولعنة الخلية الأم التي تضعه في مهب قدرية طاغية لا فكاك منها، لكنه في الوقت ذاته يتخذ من الشعر سلما للخروج من ورطة الهوية الناجزة وتأليف نفسه كما يشتهي ويرغب. كأنه بذلك الوريث المتأخر لسلسلة الصعاليك الأوائل الذين وضعوا أنفسهم على سكة مغايرة وتوسلوا لتحقيق فرادتهم خطين اثنين: خط الحياة وخط اللغة. هكذا يتأرجح الشاعر كرقاص الساعة بين الهوية المفروضة والناجزة وبين الهوية التي يتم اختراعها في عهدة التمرد والحرية والهواء الطازج. على أن تحقيق ذلك يتطلب خسران الأمان ونسيان الراحة وإعلان الحرب على خرائط الجينات الجاهزة: (لا بد من حرب لخلخلة الخرائط/ لا بد من كأس كي تستوي فكرة الحدب/ التي تهدلت دوما نحو الشمال/ لا بد من أبطال نسمع جلبتهم/ بين التضاريس التي شهدت على أمواتنا الكثر/ وصل الجميع ولم نصل إلى مجرة الراحة).
الصعلوك
وبما أن الحياة، وفق العناني، ليست سوى (كمائن طويلة الأجل) فان علينا أن نتنقل بين الألغام بشجاعة عالية لا يقودها الارتياب إلى الجبن والاستكانة ولا يحملها التهور إلى التهلكة. وتبعا لذلك فهو يتحسس طريقه إلى النجاة عبر الاحتكام إلى سلامة الفطرة حينا والى ضراوة الشهوات حينا آخر. والشعر في عمقه الأخير لا يتغذى، بحسب العناني، من المعادلات العقلية الجافة ولا من الإجابات اليقينية المطمئنة بقدر ما يتغذى من الحواس الخمس التي تتقدم بثبات في غابة الحدوس والرؤى كما تتقدم الحيوانات الجائعة نحو فرائسها. هكذا ينتصر الشاعر في شعره لما هو غريزي في أعماق الكائن مفترعا في طريقه سائر اللذاذات ومتسلحا بمكر الكلمات وأفخاخ الصور ومحاولا ما أمكنه أن يعود مع طرائده إلى عرين الطفولة الوحشي قبل أن يتحول هو نفسه إلى طريدة هالكة من طرائد الموت: (في كل مساء/ أجلس مع جملة أركان/ تتحدث عن أصل النار/ عذاب النار/ سعير النار/ رماد النار/ غذاء النار/ وأعود إلى مائي).
تحفل قصائد زياد العناني النثرية بإيقاعية واضحة لا ينجح الشاعر في إخفائها عن الأعين، سواء في تقطيع العبارات وتماثلها أم في هندستها الخفية والظاهرة أم في إيقاعها البصري القائم على تناظر الصور وتعاقب المشاهد والأخيلة. هذا الحضور البصري للقصائد تضفره بشكل واضح ظلال خيطية السرد بحيث تتحول القصيدة على قصرها إلى ما يشبه الأقصوصة الشعرية التي توصلها ضربة الختام إلى مآلها الأخير. هكذا تتسع القصيدة على قصرها للأخبار والاستفهام والقص والحوار وتنوع الصياغات والأسئلة، وفق ما نلمحه في قصيدة (غياب) القصيرة: (قالت: هل أنت معي؟/ هل أنت هنا؟/ إن كنت هنا/ فلماذا غليونك فوق الرف بلا تبغ/ وعيون البيت مغمّضة/ وسريرك يشكو من فمه الفارغ؟). وفي القصيدة الأخيرة، كما في العديد من القصائد، يعود العناني إلى كنف القصيدة التفعيلية مستجيبا بشكل تلقائي على الأرجح إلى ما يعتمل في داخله من مخزون موسيقي لا يملك له دفعا باتجاه النثر. غير إن ما يلفت في هذا السياق هو تأرجح الشاعر بين الوزن واللاوزن في القصيدة نفسها بحيث تظهر بعض السطور خالية من الوزن التفعيلي وتظهر سطور أخرى في كامل حلتها التفعيلية. لا أعرف على وجه التحديد اذا ما كان ذلك الأمر يتم بشكل قصدي أم أن الشاعر القادم من الأوزان يعود للاستسلام إلى سطوتها بشكل عفوي. ومع ذلك ورغم الإشكالية التي يطرحها التباس الشكل الشعري فان زياد العناني على ما يبدو لا يقيم (وزنا) للأشكال المستخدمة بقدر ما يستجيب لإلحاح المعنى واندفاعاته النفسية التي تختار تمظهراتها دون تردد أو حرج. على أن الوزن أو انعدامه يغدو قضية ثانوية إزاء قوة المعنى وجريانه الجنوني الشبيه بالهذيان أو الحمى في أحيان كثيرة: (الناس جميعا قد جاءوا/ لم يبق أحد/ الكاهن يرفع منسأة من خيش الجبر ويرطمهم/ والشاعر يحمل أيام اللاجدوى/ ويشاكس مئذنة/ تجرح أثداء الغيمة كي تبكي/ لكن الغيمة تأخذها وسوسة الريح/ فتصعد قبعة عالية تهرب من بين مجانيني).
السفير
2003/02/21
أقرأ أيضا: