في كتابه الشعري الثاني "ما أمكن خيانته ويُسمّى الألم" الصادر في نشر مشترك بين بيت الشعر (المركز الثقافي الفلسطيني) والمؤسسة العربية للدراسات والنشر؛ يسخّر الشاعر جهاد هديب إهداءهُ الديوانَ على نحوٍ غريب... إلى الألم، كما لو أنه السيرة التي تنطوي خلف الكتاب والمزاج الفاعل لعناصره قصائده: "أيها الألم الذي شِيْءَ أن نقترنَ مع أن أمنا لم تكن واحدة وما بيننا ميثاقٌ من الدم لكنك أخذت من جوعي كفافا لعمرٍ وافرٍ والبردُ تناصفناه كتفّاحة"... إذن ينتصب "الألم" عنوانا وإزاءه "الخيانة" لنقض أمومة لم تكن وميثاقا لم يتعمّد بالدم.
الألم في الكتاب مكتوب منذ الأزل وألوانه تخدّد المصير وترسم طريق الهاوية وبيد الشاعر مفتاحها: "في البدء كان المغيب هناك ولدت وصورتي معلّقة على أسواره" تلك الصورة المرآة التي وحدها ومن خلالها يعرف الرعاة عندما ينظرونها بالخطوب القادمة"، الأشبه بلعنةٍ لا فكاكَ منها "حيث تراءت خطاه القادمة: قد أوثقت إلى عمود من ملحٍ وتُركت عليها آثارٌ من سياط"... لعنة الألم هي التي أبقت الشاعر وإخوته الخارجين معه "من فكرة الألم" في دائرة النبذ من وحدات الواقع إلى مزق الذكريات فالشجرة "تدوّر ظلّها إلى جهةٍ أخرى" حين تراهم والزقاق يلفظهم والذكريات تتغّرب عن أصحابها فلا تكاد تعرفهم وهم إلى الريبة أقرب "لحقتنا الذكرياتُ كأنها الكلابُ الضريرة طافت بنا وهي تتشمم أقدامنا ثم ابتعدت على حذرٍ كما لو أن ريبةً تغشاها" هذه القبضة الثقيلة من الألم تلاشي الأبعاد الإنسانية في الشخصية تسربلها بتكوينٍ قاسٍ لا مسافة فيه للحلم بمعناه الذي يوسّع الأفق ويهذّب الواقع "نومك جف ماؤه مثل قصبٍ أودع النار". "صار القلب يتأرجح صار حجرا ثقيلا رُبط بخيطٍ ثم وُهب للهاوية". ولنتأمل في تعبير "وهب" لكأنما القلب منذور للهاوية ومعدٌّ لها على الرغم من محاولة فتح الثغرة في "الحرب مع اليأس" الذي هو تبدٍّ من تبديات الألم إن لم يكن عينه. ومن هنا فإن المنافذ التي توشك أن تُفتح سُرعان ما تنطبق على رقبة صاحبها وعلى رقبة حاضره، وعودة للمرآة التي تكشف المستقبل والمآل إلا أنها لا علاقة لها بالحاضر شأنَ عرافةٍ تنطق بما سوف يكون لا بما يكون الآن وهنا الذي هو مجرد عتمة لا تبين "أحيانا يذهب المرء في المرآة كأنما يمضي إلى عرّافة فلا يرى سوى السطح فارغا والفضة التي أعتَمَتْهَا فضّة"... والعتمة التي بدلت أهلا بأهل "واسما بآخر" ربما هي الفراغ الذي يكشف في هشاشته وطواعيته إن في التأمل والتشكيل عن مصيرين متلازمين للشاعر ومدينته: "وبينما عيناك إثر عنكبوت يتسلّق الزاوية؛ رأيت مدينةً تتقلّب من ملحٍ إلى سراب"... "بحثت عن شبهٍ لك وأنت تُمحى بأصابع خمسٍ، حتّى عثرتَ على شبهٍ أكيدٍ لمّكَ إلى الخفّاش إذ قدماك في سقفٍ ورأسك قيدَ أن تتلاشى...".
طوق الألم وبحره، كيف يتأتّى للشاعر خيانته (إمكان الخيانة) عبر الأنثى التي هي من لحمٍ ودم وعبر الأنثى المدينة التي هي جغرافيا وتاريخ... غالب نصوص الكتاب تدور حول هذه الخيانة "وإمكانها" لكن كل علاقة تُقام بين الشاعر والمرأة الأنثى والرجل؛ يقام معها في الوقت ذاته عامل هدمها، جسر الصعود إلى الهاوية "غير أني أسير نحوك، مربوطا بخيط ما أجهل" لذا نرى الانشقاقات في جسد الرجل واندفاقاته تذهب على حدة بعيدا عن المرأة وجوهرها اللاذع: "حفّز طرائد تأبى الخروج من مكامنها ثم أطلقها على أرضٍ بياضٍ كي يقتلها اللهاث"... "رجلٌ اختبأ قريبا إلى نفسه يبذل ماءً فيئن من كثرة ما استجدى امرأةً أن تحضر من رائحةٍ يتذكرها حامضةً ومتروكةً على مقعدٍ في الحافلة" إذ الرغبة مطمورة ورمل المتاهة يؤجج الخوف". وتمثّل قصيدة "الحب في الثلاثين" تجسيدا لتلك العلاقة التي لن تكتمل وثمّة من يوقفها. تنبني القصيدة في مقطعين؛ الأول عن الأنثى... صوتها "كنبع بعيدة" وعسل عينيها يختلط "بشهوات ليست هنا" وتشبه صنوبرة" عالية أكثر مما ينبغي"...الأنثى في المقطع الثاني تُشخّص في "شجرة الياسمين" برائحتها الفضّاحة المنتظرة في ارتباك استعدادها تتأهّب، لكن المساء العتمة يجلببها لتبقى مزق الذكريات والحنين "أكملت الشجرة عريها لمّا أقبل المساء بلا مهلٍ، وكساها بقطعةٍ منه ثم مسح الخطى والدرج ظلّت الشجرة على السفح والإياب إليها يجيء من حنينٍ تسهل خيانته". والأمر ذاته يكاد ينطبق على الأنثى المدينة في غلالة الأسطورة في نصوص: سميناك الملكة علينا ولم نعترف، غرباء، يترصّدونكِ في الحلم... حيث يختلط الحاضر بالغابر وتتعدّد المواقع لكنّ الدرس في كل الأحوال هو هو: "مدينة أطفأها ليلٌ بقبلته السوداء لا تنتهي من سببٍ كي تجاور الأخرى"..." لن تفلتي لقد نصبوا شراكا في النعاس"... وإن كان من اختلاف تحمله الأنثى المدينة فهو وجود "الآخر" الذي يحوّل صوت المتكلم إلى مجموع هو (ضمير معمّم) سواء في حال الغياب أو الحضور... ليصبح "الألم" شأنا عاما. وفيما الشاعر يسبر ألمه ؛فإن أصابعه تمتد تتقرّى ألم الجسد الكبير: "أنبأونا بخطانا تُباح للهجرة لا تكفي من حنينٍ إلى نسيانٍ من نسيانٍ إلى حنين".
وإذن يصمد الألم وحده بلا خيانة على الرغم من الإمكانات والمحاولات:
لا ينقذ الشعرُ من حبٍّ
لا ألمه
ولا غبطةٌ تنتشل من ألم
****
وقعت مني يداي..
صوتي تهشم
الى امرأة واحدة: بغداد وأنت
كان
وجهك قبل أن تفرغ الكأس
والخمر تتمرأى بك،
أذكر
وقعت مني يداي
وصوتي تشهم.
كنت المدنية
الأسود سريري
من ريشة طائر،
أمشي إليك
كأن أطأ ماء
فلا أثر لي،
كأن الى زوالي
أمشي
***
النساج
الجبلي
في كهفه العالي
تلضم أصابعه خيطا في لون
يستعيره من نار كلما ازرقت
استعادته الذكرى إليها فسقطت
قطرة من دمه على الحرير الذي
ابيض منذ تراءى وجهك على
صفحته
ثم
خبا
رعاة
جبليون
عبدوا الحرير أبيض
هاجرت سلالتهم الى الليل
لأن وجها قديما
سوف تقوله سماؤهم ذاتها
***
تبقين
في الشفاه
وفي الأسماء.
شيء
من صوتك في الريح
حيث قلبي
يرتعش
حافلة.. يقودها موت
.. الى نهلة
«أ»
أنزلوا حملا عن أكتافهم
لما نفخ في الصور،
ثم هرعوا الى النهر
صار لهم أن يخلعوا قلادات في
صدورهم ويجولوا أماكن عهدوا
إليها بالصور مثلما ظنوها تحفظ
الأسماء، من النمل، في خوابي
الأمهات.
«ب»
يد
النحاس
تبقت فوق منصة
ظلت تتجهم
بينما
تشير الى جهة لمعت تحت الشمس
قد عادوا منها في مرة أخيرة
على حافلة
يقودها موت
تذكروا
الآن
ملامحه
«جـ»
استداروا الى بعضهم
وحلكة تسيل من محاجرهم
الفم يصطك على أصابع أربع
وكف أخرى تقلب الهواء على عجل
كأنما تتمتم تجديفة
أو
تبحث عن وجه مقابل
لعملة المصير
قيظ
سف
بعدما علا النفير ثانية
فاشتبه عليهم أن قيامة آنت
ما من ظل لنخلة
والنهر
يتفسخ
كثوب تركته الحية.