تبدو لي الشاعرة والروائية اللبنانية الفرنكوفونية ينوس خوري غاتا دوماً مثل ملكة النحل النشيطة التي لا تهدأ لحظة، لكنها دوماً الملكة الحزينة التي تكدّ وتشقى في محاولة لنسيان "الملك" الذي يعصي النسيان. رحيل الرجل المحبوب من حياتها جرح نازف أبداً لم تشأ له أن يلتئم. لا تزال إلى اليوم غير مصدّقة أن "رجلاً بكل هذا الذكاء وهذا الحب وهذه الإنسانية يمكن أن يضمّه تراب!"، على ما قالته لي في حديث لـ"النهار" عام 1999. ولا تنفك تعرب عن حزنها حتى اللحظة لأن جان غاتا غير موجود ليفرح بنجاحاتها الكبيرة اليوم. وأكاد أقول إنها تعنيه وحده في مجموعتها الشعرية الأخيرة "ما الليل بين الليالي"() إذ تقول: "الذي تنتظرينه دوماً/ شخصيتك الجوهرية/ يُمسك بالخيوط جميعها لأن كل شيء يتّجه نحوه/ ستعرفينه من الرائحة". ولو كان بعد حياً لما كانت لتخشى "أن تضيع صورتها/ وألا تعود تعرف ماذا تشبه/ وألا تعود ترى منزلها".
وأنا اقرأ ينوس هذه المرة يتناهى إلي صوت حزنٍ عالٍ جداً، بل صوت وجع كبير تحاول ترويضه بفعل الكتابة، الكتابة الشعرية تحديداً، خاصة أنها لطالما اعتبرت الشعر صرختها الأولى: "تسويد الصفحات حتى استنفاد الكلمات/ وظهور ذاك الشخص الذي أراه للمرة الأولى./ قرّرت أن أكون وحدي سيدة اللعبة/ معلّقة في وسط الصفحة". ويوحي المشهد الاستهلالي للمجموعة كأن اللغة هي البحر الذي تسبح فيه الشاعرة، مع ما يعني ذلك من صعوبة مواجهة الموج والسباحة عكس التيار ومستلزمات العودة أحياناً من عرض البحر أو الغوص إلى الأعماق لاستخراج الكلمات الأجمل من "الدوامة التي تحرّك السطر/ وحركة الأمواج التي تعبره من الطرف إلى الطرف/ ستظهر كلمة من الأعماق/ كلمة مختلفة عن الكلمات الأخرى/ أصرخ في اتجاهها لكنها لا تسمعني/ وتعود/ تحني رأسها كأن نداءاتي صيغت بلغة غريبة". على مألوفها تؤنسن الشاعرة الكلمات، تجعل لها سلوكاً ونبضاً.
بالكلمات تكتب عن الكلمات، بل تسميها بالاسم، وتسمي أدوات كتابية كثيرة: الكلمة، السطر، الصفحة، الحرف، النقاط... بالكتابة تحتفي بفعل الكتابة وتومئ إلى عوالمه المضنية غالباً: "ينبغي لي العودة إلى السطر/ أو المضيّ إلى صفحة أخرى/ والاعتراف بأن أي شيء مما وصفتُ غير صحيح". وكم ينضح تشبيهها الصفحات بالمحطات أو المرافئ، بأن الكاتب يكابد مشاعر الغربة، أو التشتت، أو الخوف من المجهول، كلما وجد نفسه في مواجهة الورقة البيضاء، والنص الذي لم يأتِ بعد. وتفلح ينوس في إحالة المجرّد محسوساً، أو على الأقل في تحويل الصامت الأخرس إلى صوت مسموع. من تجريدية اللغة تبتكر أصوات "ترتفع من بين السطور". وكمن يحب الكتابة ويلتصق بتا حتى الهذيان تتحدّث عن "منازل بعدد حروف الأبجدية". "تفترس الكتابة" فعلاً حياة هذه المرأة الشاعرة التي تُقحم أدق تفاصيل عيشها، بل أحاسيسها كلها في نسيج عملية الكتابة. ثمة تماهٍ قوي بين الإنسانة والشاعرة، بل ربما ثمة ذوبان تام أو شبه تام للإنسانة في كيان الشاعرة والكاتبة، أو لمصلحتها.
وينوس خوري غاتا الروائية والقاصّة لم تقف مرة أخرى على الحياد في المجموعة الشعرية الجديدة، فتداخل شعرها بعناصر السرد والقص وأقبلت قصائد كثيرة في قالب الشعري الحكائي، تارة بلسان المتكلمة "الراوية" وطوراً بلسان الغائبة. وتخيّم على المناخ العام نبرة يتقاطع فيها الحزن بالغرائبية والسخرية، ولاسيما السوداء منها. وتسطع في معظم المجموعة قدرة هائلة على الخيال توازيها مهارة أسلوبية ولغوية في صهر المتخيّل بالمحسوس، والمزج المرن بين عالم الداخل والعوالم الخارجية. ومن الخلفية تلك تطل بنية النص بصور شعرية جميلة غالباً ما تفاجئ منذ إقلاع الجملة الأولى، كأن تقول: "أن نموت يعطي انطباعاً بالركض"، "قناعتها بأن الموت سوف يخرج من مرآتها"، "كانت الشمس شائكة حين زرعت الأم الطفل في الأرض"، "الأم ترتّب الكُلَل وفق القياس ووفق الحزن".
ولعل رمزية الحزن في المجموعة تكمن في القول إن "غيمة إنما كانت من أجل البكاء" وأن ليس في وسعنا مواساة أي غيمة. وفي موازاة الحزن، بل في سياق تراكم الحزن، تطرق خوري غاتا موضوع الموت مراراً، ولطالما عالجته في مجموعات عديدة منها "مونولوغ الميت" كما في رواياتها مثل "ليس للأموات ظل" و"امتياز الأموات".
تنهل ينوس خوري غاتا على نحو مثابر من معين ذاكرتها المرتبكة ببلدتها بشري، وفي هذا السياق تأتي كثيراً على ذكر القُرّاص والأرض، وتتكلم عن البستنة وشجرة الكرز والحمار والنهر... تقول: "جالسة على العتبة عينها/ تصافحني كلمات لغتي الأم/ أنقلها في بطء مثلما كانت تفعل بأواني المطبخ".
"ما الليل بين الليالي" سوى "قصائد معلّقة" على ألق التجربة الشعرية وإصرارها على المضيّ نحو الذرى حيث يبرق قوسُ قُزح الشعر.
****
تخشى ضياع وجهها من أمام ناظريها
وألا تعود تعرف ماذا تشبه
والا تعود ترى منزلها
ألا تعود تعرف إن كان الباب
يفتح نحو الغرب
أن تعلم أن دربا دخلت بيتها
كدّست الكراسي على الطاولة
أن دُلب المستديرة يتكئ على درابزونها.
خوفها إلا تعود تعرف إن تطفئ الشمس
لإخراج النحيب من مكان ضيق في حلقها.
البحر الذي يسافر بلا توقّف
يشيخ أسرع من المنارات
التفاوتات الزمنية تبيّض شعر الأمواج.
يخط الأب رسالة بسرعة الهواء
يقول أن نينا مغرمة حتى عينيها
يُرى ذلك في أسلوبها في شك الفلفل كالقبل.
لم يغمض الجد عين الليل
كان ثمة استقبال في المقبرة والباب مفتوح للمستنقع
يبدو أن الأرواح الهائمة والذباب تكاثرت في الماء الهامد.
ينوس خوري غاتا
ترجمة ح. ع.
النهار
السبت 29 كانون الثاني 2005