محمد عفيف الحسيني شاعر وروائي سوري كردي يعيش في السويد منذ العام 1989 ، ويشرف هناك على مجلة " حجلنامة " تُعنى بالشأن الكردي، وبالإبداع غير المحدّد بعِرق لكنه باللسان العربي. قبل سنوات صدر له من دار أزمنة الأردنية كتاب شعري بعنوان "بحيرة من يديك" ولأن رحلة الكتاب العربي عسيرة ومضنية لم يقع الكتاب بين أيدينا إلا مؤخرا، سوى أن هذا التأخير لا يفوّت ما في هذا الكتاب من ثروة جمالية وثراء إبداعي.
شمعة انتظار
يتزمّل الشاعر بالغياب ويتقمّط بالغربة. يهزّ شجرة المنفى فتساقط عليه لسعات الروح المتوزّعة بين المكان الغريب وبين ذاكرة مكانه الشخصي؛ الجذور المقتلعة تهبّ عليه بالروائح المغادرة والمأهولة بما لا قبل باستعادته إلا كأطياف وحكايات مبتورة عن الأم، الأب، الحبيبة، الأسرة، الأصدقاء، البيت، النهر،… تفتح الجرح على سعته، تنغّله بيقين عدم العودة؛ لتظلّ الخيوط مبعثرة لا ينظمها الألم، حين ينظمها، إلا ليزيد من المرارة ويثقل في العطب. هذه الخلاصة يجمعها بكثافة عالية في بوصلة، يستمدها الشاعر من كفافي، وينصبها فاتحةً للكتاب، لتدلّ على المزاج المهيمن على النصوص. في بوصلة كفافي نبصر بالأم التي تشعل شمعة انتظار ابنها البحّار الذي أخذه البحر إلى أعماقه. بجوار شمعة متقدة على الدوام تنتظر الأمُّ لكن : " ابنها لن يعود ثانية " . من هذه الرؤية الكفافية يتدفّق موتٌ وانتظارٌ عبثي دون جدوى؛ فالجندي الذي غيبته الجبهة في الرماد وفي الخوذة المـثقوبة، ما زال الصديق يعتقد بحياته ويرسل له الرسائل ظانا : ( أنك ما زلتَ في نوبة الصباح/ لا يعرف أنك في دمك ترقد ). وشيوخ قريته يتداولون حضوره الحي بينهم: ( وثمّت/ مسنّون يدخّنون تبغا قاسيا/ وينزفون اسمك ـ ص 9 ). وفي " بحيرة قديمة من الأزاهير " يكتب عن " ناسٍ في الإعدام" مسافرين ( في الحكايات والقطارات التي تُغلق إلى الأبد ) فيما الأمهات ينتظرن استعادة (الأجساد الحنونة والميتة ـ ص 15 ).
الرجل الوحيد يتأمّل الصدأ
في مغتربه القسري يعيش الشاعر الوَحدة ويعبّ من الغياب حتى الثمالة، تحفّه الوجوه المنقضية والروائح الغابرة المنهلّة من وطنٍ ما زال يحلّق فيه الحمام ويهمي عليه المطر وتنبض جنباته بخطوات " الحبيبة الصغيرة ". تمضغه الوحشة ويرف القلب بالشجن، يستحضر أشباهه في الغربة وفي المنفى كالشاعر توفيق الصايغ الذي عاش في زمانٍ آخر وفي مكانٍ آخر وقضى أيضا نحبه في الغربة في لندن.. سوى أن حبل المنفى والوجيعة يمتدّ ليجمعهما في وَهَقه: ( يلفّنا الحبُّ والألم/ تنقر الوحدة لحيتينا/ ويضرب الموجُ أغصانَ المنفى ـ ص 12 ). يتأمل المغنين والعازفين وآلاتهم، فلا تقع منه العين إلا على حزنه وعلى غربته. يقولون جميعا وبفم واحد صدأَه ووحدتَه. ينعكس فيها موته. والأحجار التي يطؤها العازفون في الشوارع تفيض بكآبته وبأغانيه المرتعشة بالورد الذابل في يديه. لا بهجة في الموسيقى ( أنا الكمنجات الحزينة ـ ص 18 )، ( أنا الأوتار الحزينة ـ ص 21 ). ولن يكون غريبا وفقّ هذا الانصباب من الحزن أن تختضّ الطاولات وتتهدم بفعل الغياب:
1 ـ رعاةٌ يراقبون مغيب الشمس/ تتلوّث أصابعهم بالريح/ والموسيقيين وآلاتهم الميتة مثلي ـ ص 18
2 ـ ضوء غامض في حجر النهايات/ كم يستغرقه الوقت ليتدفق على الموسيقيين/ وهم يرحلون عن نوافذ الغرباء ـ ص 19
3 ـ والرجل الوحيد ما زال واقف/ يتأمل الصدأ المتبقي على المعازف والأحجار ـ ص 23
قنديل الذاكرة
حين يعيش الشاعر ( الاغتراب في كل لحظة ويعايشه في كل سطرٍ يكتب متحققا يوما بعد يوم من استحالة التجذّر في المكان الذي لا يشكّل بالنسبة إليه مكانا أبدا، إنْ نحن فهمنا المكان بمعناه الفلسفي كإقامة للروح وسكنى ـ كاظم جهاد، مجلة نزوى، العدد الثامن، أكتوبر 1996م ) حين يعيش الشاعر ذلك كلّه فإنه يحاول عبور هذا البرزخ عبر استجلاب المناطق الأولى، الاتصال بها، استحضارها. لعله يعيد الحياة إلى الذين " من برونز وبأيدٍ منطفئة " ، يعيدها إلى فرسان البرونز بخوذات الوحشة . يشعل قنديل الذاكرة في ليالي الغربة المعتمة، يتلمّس المكان الأول هنا وهناك. في مشغل فنان يوناني تحرّكه لوحة الفنان، ترسله إلى فضائه الحميم من أمكنةٍ وأشنات ومراكب وأرضٍ يعشبها الربيع؛ فيبقى متسمرا قبالة اللوحة ( يذرف الغياب ـ 32 ).. يستعيد كتاب الطفولة والوحل العالق بأيامه.. يستحضر الأم، وهي مبثوثة في خريطة نصوصٍ كثيرة يصدر عنها رنين الحنين دائما، يطلب غفرانها ويتلقى رسائلها بماء العين يمحوها فيما المناخ يعبق بدخان هزيمته في الغربة؛ فيتصاعد إليها منه،من فمه الممزّق، نشيدُه الحار الممض اللاسع ساقطا في لُجّة الغياب/ العذاب:
( ماذا تفعلين
ماذا أفعل بحزني الغائب عنك
ماذا أفعل بكل هذا الرخام على نشيدي
نشيدي النائم في حضنك كعطشان
يا أمي ـ ص 39 ).
تلحّ عليه الأمكنة، تسعفه الذاكرة بمزيدٍ من جروحٍ لا تلتئم، يعوزها " النسيان الشجاع " ـ كما يعبّر الشاعر الألماني هولدرلين ـ فتطوف الذاكرة بالمنزل بأشيائه الصغيرة، فيطفو الجدار الخالي من صور الغائبين، الجدار الباقي حيث كل شيءٍ يحترق أو برسم الاحتراق:
( ولا يبقى إلا جدار في العزلة وكلام الشاعر
جدار وحيد
وحيد ومتهدّم كحصان ـ ص 65 )..
جدار يكتب بالأنين اندثارَ الغائبين وخفوت ذكرياتهم وامّحائها:
( فيموت كما متنا ـ ص 66 )..
رقعة الغياب تتسع كهاوية لا سبيل إلى ضمّ فجواتها وسدّ قعرها بنداء أسلافٍ لا يجيبون ولا يعودون:
( الأولاد
كم مرة نادَوا على الأسلاف
حتى يندمل غيابهم
فيعودون بالسعال والقصص
راح الأولاد والساحات والمراثي
وبقي الحنين ـ ص55 )..
وعندما تأخذ الذاكرة هذا المنحى الذي لا يفيض إلا بالموت وبشوكة الحنين الناغزة؛ يصبح المصير محكوما بهذا الإنشداد حيث رقعة الغياب تنبسط على الجهتين، جهة المنفى وجهة الجذور الأولى. فالغياب، كما يوضّح باث ( ليس حرمانا فحسب بل هاجس حضورٍ لا يظهر مكتملا البتة ـ فرناندو بيسوا: مختارات، ترجمة المهدي أخريف، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ـ 1998م ) الأمر الذي يحتّم عجز الشاعر من الخروج من برزخه. يظلّ الاقتلاع على مستوى الروح والجسد؛ فتسود صورة الموت من هنا وهناك:
( فجأةً دخلنا الإطارات السوداء للموتى
تبادلنا معهم الأمكنة وبرودة الزجاج
ماتت الحكايات
واصفرّتْ أسماؤنا الزرقاء ـ ص 52 ).