تجبرك التجربة الشعرية عند الشاعر محمد حسين هيثم على قراءة نصوصه وفقاً لشروط قرائية متبدلة، تتوازى مع التنوع والتجدد المستمر في تجربة الشاعر من كتاب لآخر، ومن نص لآخر داخل المجموعة الواحدة .في مجموعته (استدراكات الحفلة) يجعل النص الحامل لعنوانها في نهاية الكتاب، ورغم ذلك تظل نصوص المجموعة في أغلبها راصدة لحفلات أخرى، أو مواقف أو أماكن أو شخصيات يحتفل بها هيثم بوعي شعري، لا يعبأ كثيراً بالوضوح قدر اهتمامه ببناء نصٍ مخاتل للمناسبة، مجافٍ للموقف الذي كان سبباً في كتابته
ويبدو الشاعر وحيداً داخل قصيدته، يكافح أو يتأمل سلوكاً جماعياً لقطيع ما، هم الجنود ربما، كما في نص (توم هانكس)، لكن القارئ لا يكاد يعرف من هم الذين يؤرقون أصابع الشاعر في نص (نوستاليجا):
يتركون أحذيتهم النتنة قرب كبريائي
ثم
يجوسون حفاةً بين أحلامي .
هل هم ضيوفٌ عبروا بضجيجهم على سكينة الشاعر، أم هم الأهل، أم العشيرة، أم الآخرون كجحيم كما تقول ذات عبارة .
تنكتب القصيدة عمألوفة،برؤية قلقة وباحثة عن خلود ما يضمن استمرارية بقاء النص خارج لحظة الكتابة، وخارج لحظة القراءة المباشرة، التي تبحث عن معنىً جاهز، ولذلك لا يجد القارئ في بعض النصوص ما كان يُطلق عليه (بيت القصيد)، كما يصعب عليه اجتزاء الصورة الشعرية وعزلها عن السياق الكلي للنص .
هناك جمل نقدية مألوفة، كالقول بأن الشاعر أو الكاتب يضع القارئ أمام تحدٍ لتفكيك النص، هذه الجملة تنطبق على هيثم بامتياز، إلا في نصوص قليلة سهلة المنال كنص (تمويه):
إنها الأربعون / منذ البارحة
ومنذ / البارحة
سأمحوقليل.ردم / الأربعين :
بطيش قليل ...
في محور داخل هذه المجموعة بعنوان (ملاذات كنعانية) يبدو الشاعر في حالة استدراك شعري لهوامش حفلة يتشظى احتشادها إلى قصائد نجدها ترصد بطرافة مواقف إنسانية لا علاقة لها بمتن الحفلة أو بالحدث الذي جمع شخوصها .
انكتبت مجموعة (استدراكات الحفلة) داخل شكل قصيدة النثر، بعد تجارب شعرية إيقاعية سابقة أنجزها هيثم، كانت تعرج على قصيدة النثر باقتدار يؤكد خصوصية الشاعر الذي يحتفل بالصوت كثيراً أثناء الكتابة، وأثناء الإلقاء .
(هذه الرأس) من النصوص الشهيرة لهيثم، ودائما ما يحقق نجاحاً ملفتاً كلما كانت المنصة سانحة لقراءته، وهو نص نثري يحمل صوت الشاعر ومخاوفه على رأسه، عبر سرد احتمالات ضياعها، مقابل الآمال المرجوة من بقائها، ويحتشد النص بصور ومفارقات تتقاطع مع نماذج قصيدة النثر التي تكتب اليوم، وفي الوقت ذاته لا تلغي شخصية الشاعر، ولا تُوقِعه في التشابه مع غيره، بحيث ظلّ صوته حاضراً في النص :
وأرفع ياقتي
حتى
لا تسقط
مني
في
الزحام
بسبب صفعة خاطئة
من شرطي
تأخر راتبه الشهري
في نص (دوزنة) كما في نصوص أخرى عدالتوقع،تاج القارئ إلى إعادة قراءة النص أكثر من مرة، لتجاوز الانطباع الأولي الذي يوحي لك بأنك أمام اشتغال لغوي مجرد .
من العسير على الجمهور الذي اعتاد التوقع، بل واستباق الشاالتقليدي. بالكلمة الأخيرة في عجز البيت الشعري .. من العسير عليه تلقي مثل هذه النصوص المفارقة لوعي التلقي التقليدي .
هنا نجد الشاوقراءته.باللغة داخل النص ليجعله مشرعاً على أكوقراءته.ذة لتأويله وقراءته .
في نص (أحد الأيام) نجد ما يشبه سيناريوهاً شخصياً لانتظار المجهول في المستقبل الذي يتحول إلى مجرد يوم من الأيام:
أبتكر المحطات
لأنتظر
أحد الأيام .
ثمة لهاث قلق في النص، وهناك أيضاً البعد الإيقاعي المدروس عبر توزيع الكلمات على البياض وفق مساحات مقصودة، بغرض إيصال الحالة الانفعالية التي أنكتب النص في أجوائها:
هكذا
أغرف بالإبرة الوقت من أوله
أخطط للتهيؤ
أناور الروزنامات
أبذر الماء للذي فجأة يجيء
وفجأة يرتالأيام.لملاذات
وفجأة يترك حيرتي على الرف
وفجأة يغادر دون أصابعي
وفجأة يهوي في البئر
حيث سائر الأيام .
من انتظار المجهول إلى التعايش مع الحياة بشراستها التي يواجهها الشاعر بأناقة في نص ( فواتير ):
وأُخرج قيافتي من المرآة
أدعها تتمشى قليلاً
وتتبجح
بأنني
أنيقاً ومتأهباً
أنزل
كل صباح
لأسدد
كل فواتيري
وكل ديوني
للحياة .
عند قراءة مجموعة (استدراكات الحفلة) لمحمد حسين هيثم، لا يمكن القفز على نص (عراء المكاربة) الذي احتفلت به الصحافة الثقافية قبل أن ينشر في هذه المجموعة، وفي هذا النص يحشد الشاعر كل آليات الكتابة الشعرية التي تراكمت في تجربته .. تلك التجربة التي ترتكز على مواربة الموضوع لصالح النص كجسد قائم بذاته، يلتهم مناسبة الكتابة، بزمنها وموضوعها، لإنتاج دلالة مخاتلة، تغيم في هذا المقطع لتشع وضوحاً في مقطع آخر من النص، وينهض الوضوح مثلما ينهض الغموض على استخدام الشاعر للرموز اللغوية والتاريخية، التي تتعدد دلالاتها فتزداد إيغالاً في الغموض، في حين يصل كفاح القارئ إلى مجرد احتمالات لفك شفرة النص، عبر تخيل صور عديدة للمرموز إليه، ومحاولة إيجاد علاقة ما بين الرمز وبين الصور المقترحة للمرموز .
وبإزاء نص (عراء المكاربة) وما يماثله من النصوص الأخرى التي تواجه القارئ صعوبة أولية في تلقيها بسبب ما يبدو وكأنه انغلاق في دلالة النص .. بإزاء ذلك نرى أن التعامل النقدي مع مثل هذه النصوص لابد أن يعود إلى خصوصية هامة يتميز بها هيثم وجيله الشعري، من حيث ارتباط فضاء التجربة الشعرية منذ بدايتها بظروف وأحداث سياسية، كان لها انعكاس ملحوظ على تجربة هيثم وغيره من الشعراء، الذين استضافوا الرمز في قصائدهم كميزة أسلوبية تارةً، وكميزة اضطرارية تارةً أخرى .
غير أن هيثم يحول استخدام الرمز والاشتغال على اللغة إلى أسلوب يستوطن قصيدة النثر التي يكتبها، رغم العراك الخفي بين ثلاثة أجيال شعرية عربية، آخرها يختلف عن هيثم بالحديث عن فك الارتباط بين قصيدة النثر وبين الترميز واستخدام المجاز، وكل ما له علاقة بالجماليات اللغوية الشكلانية .
يمكننا أن نستثني من نصوص هيثم نصوصاً عديدة من بينها نص ( هذه الرأس ) الذي يتفق سياقاً وأسلوباً مع هذه الرؤية، مما يجعل هيثم أكثر قرباً من اللحظة الشعرية العربية الراهنة، عبر مقدرته على اجتراح التجريب الشعري خارج مسلمات تجربته الوفية لأسلوبها وظروف تشكلها .
slamy7a@yahoo.com
عن موقع الآن