أن تتحقق بين حين وآخر ترجمة لنصوص أدبية عربية إلى اللغة الأسبانية، وأن تصدر هذه الترجمة عن دار نشر إسبانية محترمة، هي لخطوة جديرة بالانتباه وتستحق الالتفات اليها والكتابة عنها، لقلة هذه الترجمات أولا، ولأن دور النشر الاسبانية، ثانيا، تفتقر الى تخطيط حقيقي وفاعل في موضوع نشر الآداب العربية، وهو نقص في التخطيط تعانيه الى حد ما، وإن بدرجة وخطورة متفاوتتين، غالبية الدول الأوروبية، لا بل الغربية عموماً. كيف لا والجزء الأساسي من نتاج الأدب العربي المعاصر يصل الى أيدي القارئ الغربي بجهد شخصي في أغلب الأحيان، ويتطلب تضحية ونكرانا للذات كبيرين من جانب المترجم، في غياب وسائل الدعم المعنوية والمادية؟ فكواليس النشر في اسبانيا لا تختلف عنها في الولايات المتحدة أو في بريطانيا على سبيل المثال، حيث يقتصر النشر خصوصا على معايير الرواج والتسويق والأسماء المعروفة عالمياً، بينما من النادر أن يشمل الأدب العربي معايير كهذه.
هذا الجهد الشخصي هو تحديدا ما بذلته، وبوفرة وسخاء، الشاعرة والمترجمة اللبنانية جمانة حداد عندما قرّرت، بمعزل عن اي رعاية خارجية وبمبادرة محض شخصية، إعداد أنطولوجيا للشعر اللبناني الحديث باللغة الاسبانية. وإن صدور هذه الأنطولوجيا اليوم، وعنوانها "هناك حيث يشتعل النهر"، عن دار "منشورات من هنا" الاسبانية في سلسلة "نورتيه اي سور"، بترجمة متمكنة متقنة تليق بمرتفعات الشعر، وباختيارات صائبة لشعراء من مختلف الأجيال، منذ بزوغ شمس الحداثة في بيروت وحتى يومنا هذا (38 شاعرا لبنانيا وأكثر من 150 قصيدة)، لا يعد حدثاً بسيطاً إذا ما عاينّا خريطة الترجمة في اسبانيا وعملية نشر الأدب العربي المحدودة عموما فيها، وخصوصا على مستوى الاهتمام بنشر الأدب اللبناني تحديدا، والشعر منه على وجه الخصوص. في واقع الحال، لم تصدر اي انطولوجيا شعرية قبل الآن للشعر اللبناني المعاصر في اللغة الاسبانية، سواء في اسبانيا أو في الدول الناطقة بالإسبانية في القارة اللاتينية، لا بل ان ترجمات النتاج الأدبي والشعري اللبناني شبه معدومة اذا ما استثنينا الترجمات المتكررة لأعمال جبران خليل جبران المعروف عالمياً، وترجمات أخرى متفرقة لأعمال أدونيس الشعرية، وترجمة بعض أعمال الياس خوري وحنان الشيخ وهدى بركات ورشيد الضعيف الروائية، فضلا عن روايات أمين معلوف المكتوبة بالفرنسية، وكتب متفرّقة لبعض الأدباء الآخرين. طبعا، تظهر بين فترة وأخرى، في مجلات أدبية أو أكاديمية، وعلى عاتق مستعربين أسبان غالباً، ترجمات محددة ودراسات تتناول مراحل مختلفة، قديمة غالباً، من الأدب العربي، بينما يقع التركيز على الأدب المعاصر والشعر منه بالذات خارج نطاق الاهتمام تماماً، ما عدا محاولات يتيمة لا ترقى لحجم التجارب الشعرية نفسها وأهميتها.
تضم الأنطولوجيا المنتخبة والمترجمة من جانب جمانة حداد مقدمة مقتضبة وافية عن حركات الشعر اللبناني الحديث ومراحل تجدده، بدءاً بمجموعة شعراء مجلة "شعر" الشهيرة، مروراً بموجة الشعر اللبناني أثناء الحرب الأهلية، وصولاً الى النماذج الشعرية الشابة الممثِّلة لنهايات القرن العشرين. ويمثل اختيار ما بين ثلاث وأربع قصائد لكل شاعر التفاته ذكية، إذ يعطي فرصة كافية لتكوين انطباع حقيقي عن كل شاعر. وقد يتوقف بعض قراء الانطولوجيا متسائلين حول أسباب اختيار المعدّة والمترجمة بعض الأسماء الشابة، التي لم تتوضح بعد جيدا معالم تجاربها الشعرية، وقد يرون ربما في ذلك مجالا للنقد والمراجعة. لكني شخصياً أرى أن دمج هؤلاء مع أسماء أخرى قطعت شوطاً كبيراً في مسيرتها الشعرية، لا يؤثر إطلاقا على مستوى المنتخبات الشعرية، بل على العكس من ذلك يمنح فرصة لتكوين رؤية بانورامية عن محطات الشعر اللبناني الحديث، كما يتيح للشاعر الاسباني الشاب فرصة التعرّف على مجايليه اللبنانيين والإطلاع على أوجه التلاقي والاختلاف مع الأصوات الشعرية الشابة في لبنان، ناهيك ببديهية أن النقد يجب ألا يفرق بين قامة شعرية وأخرى بحسب السن وطول التجربة، بل ينبغي له تقويمها فقط بناء على أهمية النتاج والخطاب الشعري نفسيهما.
إن أنطولوجيا الشعر اللبناني الحديث التي نتناولها هنا، هي العمل الثالث الذي يتمحور حول الشعر العربي المعاصر، بعد كتابين احدهما عن الشعر المغربي وآخر عن الشعر العراقي، والثلاثة صادرة عن دور نشر معروفة، تتجاوز من خلال شبكات توزيعها الواسعة دائرة الاستعراب والمراكز الأكاديمية الضيقة لتكون بمتناول القارئ العادي: هذا القارىء الذي يقرأ ويسمع الكثير عن العرب من خلال ما تقدمه له وسائل الأعلام الاسبانية والغربية، والذي حان الوقت لكي يكتشف، بأدوات وسبل أخرى، وجهاً مختلفا عن عالمنا، ولكي يدرك ان ثمة في هذا العالم حركات أدبية معاصرة راقية لا تختلف عن الحركات العالمية، لا بل تتفوق عليها أحيانا في الجودة والتنوع، كما هي الحال مع الشعر اللبناني الحديث و"أنهاره المشتعلة"، على أمل ان نشهد في المستقبل مبادرات مماثلة تتعلق بشعر البلدان العربية الأخرى، وهي مبادرات من شأنها أن تثري بإضافاتها اللغة الاسبانية وتراثها وآدابها وثقافتها، وخصوصاً نظرتها إلينا ومعرفتها بنا.
***
لقي صدور هذه الأنطولوجيا أصداء إيجابية، واسعة وعميقة، لدى بعض كبار الأدباء والنقاد الأسبان أو الناطقين بالاسبانية. التقينا بعض هؤلاء العارفين وسألناهم آراءهم في الأنطولوجيا وما تضمنته من شعر وشعراء، وعدنا بالأجوبة الآتية:
اغناثيو غوتيريث تيران: فرصة مهمة
ان المتخصص في الآداب العربية، والقارئ الاسباني في شكل عام، محظوظون حقا بصدور هذه الأنطولوجيا للشعر اللبناني الحديث. فأنا اعتقد أنها فرصة مناسبة وضرورية لكي يقف هذا القارئ إزاء بلد مهم في خريطة الأدب العربي، وان يكتشف ان شعره يقع في مكانة متألقة، وخصوصا أن أسماء العديد من شعرائه هي من أكثر المجددين في ساحة الشعر العربي. أعتقد أننا في حاجة ماسة الى طرد الأفكار الجامدة، والناتجة من الجهل، في الغرب عن العرب، وهي صور تخلط صورتهم بأحداث وتقاليد وأحكام مجحفة تتكرر يومياً في وسائل الأعلام. شخصياً كان إطلاعي السابق على الشعر اللبناني محصورا بشعراء المهجر وصولاً الى بعض أصوات مجلة "شعر" فحسب، لذا أجد في هذا الكتاب فرصة مهمة لقراءة أصوات شعرية جديدة وموجات مختلفة لم يتسن لي معرفتها ودراستها بترجمة متمكنة، وفرصة بالتالي لتوصيلها لدارس الآداب العربية في جامعاتنا على الأقل.
* كاتب ومستعرب اسباني، استاذ في جامعة مدريد في قسم الدراسات العربية، ومترجم للعديد من الدراسات والأعمال الأدبية العربية، المعاصرة منها والكلاسيكية، آخرها الكتاب الإيروتيكي "نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب" للتيفاشي.
***
بنيتو غومث ردوندو: يدهشني هذا الزخم التجديدي
لبنان سويسرا الشرق في الخيال الأوروبي، الحلم المحطم لخريطة صغيرة، الاستعارة الحقيقية للتعايش الديني في المنطقة، النهر المضطرم الذي ينطفئ تارة، ويستيقظ رماده حتى النار طورا، أليس هذا اللبنان اعادة لبناء أسطورة جديدة؟ أوَلم يحدث كل هذا في ميزوبوتاميا أكثر من مرة؟ اذا كنت اذكر ما سبق فلكي أقف إزاء كتاب شعري معاصر عن الشعراء اللبنانيين، يعد نوعاً من إثبات وجود الإله المتكون داخل هذا الكيان الصغير. لم يكن لي قبلا علم كبير بمشهد الشعر اللبناني، وكنت قرأت لأسماء معروفة في العالم العربي مثل أدونيس وسركون بولص بترجمات إسبانية، لكني بقراءتي لهذه الأنطولوجيا أندهش لهذا الزخم التجديدي في شعر لبنان، ومدى مواكبته للشعر العالمي في الرؤى الشعرية. لقد كانت قراءاتي مقتضبة وغير صائبة عن الشعرية العربية المعاصرة، واللبنانية منها على وجه الخصوص، وقد منحتني أسماء الشعر اللبناني اليوم، الراسخة منها والجديدة، انطباعا ايجابيا قويا عن الحركة الأدبية في ذلك البلد.
***
لويس رافايل: فكرة ناضجة ومشعة
إنها فكرة ناضجة ومشعة أتاحت لي قراءة الشعر اللبناني الذي كنت أحمل عنه معلومات بسيطة تعود لقراءاتي لأعمال جبران خليل جبران لا غير. لكنّ الأنطولوجيا جعلتني مهتماً بمعرفة المزيد عن الحركة الأدبية في لبنان، وأوضحت جهلنا على مستوى فهم حقيقة المشرق العربي. إن ترجمة هذه الأشعار بلغة متفردة، ومنحها هيكلاً موحداً من دون أن تتقصد المترجمة أن نقرأها كصوت واحد، نقطة لصالح الكتاب: فتعدد الاتجاهات والأساليب يتطلب التنوع الترجمي كذلك، كي لا تمحى خصوصيات كل شاعر. وما يجمع تلك الاتجاهات والأساليب هو تجديديتها التي توصلها إلينا كنصوص معاصرة تتلاقى بروح الشعر في العالم، وتتميز في الوقت نفسه بأنماطها وبحثها عن تعابيرها الخاصة. من جهة أخرى أنوّه بإقدام دار نشر اسبانية على منحنا فرصة قراءة هذا الكتاب الشعري، ما يعطي الانطباع بأن من السهل التوصل الى أواصر الالتقاء مع الشرق من خلال النصوص الإبداعية. إن هذا المشروع لقية، وان جاء مبادرة شبه منفردة وسط حركة النشر في اسبانيا والدول الناطقة بالإسبانية، إلا أنها فقرة ضرورية في بناء جسر يساعد في ظهور مبادرات أخرى.
* شاعر كوبي، نشر العديد من الدراسات الشعرية عن الشعر الكوبي والاسباني، كما أصدر أربع مجموعات شعرية منها "كولمبس" و"رسائل إلى الأب" المترجمتان الى العربية. أستاذ باحث في قسم الدراسات الأسبانية في جامعة هافانا.
***
اميليو بالستيروس: مرجع لفهم السحر والفتنة
كتاب ممتاز لتقريبنا من الشعر اللبناني المعاصر وحركة تحديثه. هذه الانطولوجيا الجوهرية تقدم لنا 38 شاعرا من أربعة أجيال مختلفة، ومن عوالم شخصية غنية ومتنوعة، على غرار شعرية الهتك والذهاب الى الحدود القصوى مع أنسي الحاج، وشعرية اليومي مع يحيى جابر، وشعرية الجسد المتشابك بالروح مع عباس بيضون وعيسى مخلوف وفوزي يمين، وشعرية الايروتيكية العنيفة بقدر ما هي انسيابية مع علي مطر وجمانة حداد، وشعرية الغموض القوي والمعبّر مع زكي بيضون. هذه الأنطولوجيا فرصة فريدة لمحاولة فهم السحر والفتنة اللذين يمارسهما الشعر العربي على الفكر الغربي غير الملوث بالأفكار المسبقة وضيق الأفق، ولاكتشاف أساليب في النظر والإحساس والقول، مهما تكن مختلفة عن أساليبنا، إلا أنها تتمتع بقواسم مشتركة معها على المستوى الانساني والزمني.
* شاعر وروائي وناقد اسباني، يدير مجلة "الحسيمة" الشعرية والأدبية المنفتحة على آداب العالم العربي، من أعماله "ثلاثية الصمت" و"الضوء في الأزهار".
(عن ملحق "النهار" الثقافي، عدد الأحد 5 آذار 2006)
ملاحظة: أنطولوجيا الشعر اللبناني الحديث بالاسبانية، التي أعدّتها وقدّمت لها وترجمت قصائدها من العربية الى الاسبانية الشاعرة اللبنانية جمانة حداد، صادرة عن سلسلة "شمال وجنوب" التي يديرها الشاعر الاسباني خوسيه لويس ريينا بالاثون في دار "منشورات من هنا" في ملقة. رسم الغلاف للفنان الاسباني الشهير روخيليو لوبيث كوينكا، وهو كولاج عنوانه "الزمن القاتل"، أراد فيه الفنان تجسيد الصراع الذي يعيشه الشعر في عصرنا الاستهلاكي. وينظم معهد "ثرفانتس" الثقافي الاسباني في بيروت لقاء حول الكتاب عند الساعة السابعة من مساء يوم الخميس الواقع في السادس عشر من شهر آذار الجاري، في حضور المترجمة وجمع من الشعراء والمهتمين. أما شعراء الانطولوجيا فهم بحسب التسلسل الكرونولوجي: يوسف الخال - فؤاد رفقة - هدى النعماني - شوقي ابي شقرا - انسي الحاج - محمد علي شمس الدين - بول شاوول - انطوان الدويهي - عباس بيضون - محمد العبد الله - وديع سعادة - جاد الحاج - حمزة عبود - احمد فرحات - عقل العويط - عيسى مخلوف - بسام حجار - عبده وازن - منذر حلاوي - عناية جابر - ندى الحاج - شارل شهوان - يحيى جابر - اسكندر حبش - بلال خبيز - امال نوار - جوزف عيساوي - علي مطر - يوسف بزي - فوزي يمين - حسان الزين - جمانة حداد - سامر ابو هواش - سوزان عليوان - ناظم السيد - غسان جواد - فادي العبد الله وزكي بيضون.
* شاعر اسباني، يدير مجلة "فومارولا" الأدبية، متخصص في الدراسات الإنسانية، من مجموعاته الشعرية "آستريون" و"مشاريع مختلفة".