تألق اللغة الناضجة الضاجة بالحياة، وبمفردات الأمس الذي عاشته الكاتبة الروائية ميسون صقر القاسمي، وهي تطل من عيون طفلة عاشت في حصن جدها بالشارقة الأرض التي حكمها "القواسم" بعد ان حاربوا وهزموا البرتغاليين، وانهزموا في المعركة البحرية التي وقعت بينهم وبين البريطانيين وانتهت بالانتداب الانجليزي على محميات الإمارات الذي كان يتحكم بتصرفات الحكام الذين لا يدينون بالولاء له، ولسيطرتها التي تفرضها كقوة عظمى آنذاك على المنطقة.
ولأنها عاشت التجربة في الحصن الكبير في "الشارقة" كانت ترى المدفعين الكبيرين اللذين يجثمان في أعلى البرج، والذي كان يجلد عليهما المساجين الذين يشاغبون داخل السجن ويربطون بالسلاسل الثقيلة التي تصدر اصوات عالية كلما تحرك احدهم للذهاب الى الحمام. انها تجربة جديدة بعيدا عن كتابات المؤرخين، تصورها بلغة ممتعة راقية الروائية ميسون القاسمي التي كانت ابنة لواحد من الأمراء القواسم الذي كانوا يحكمون الشارقة، والذي يميل بفكره الى أطروحات عبدالناصر الى حركة القوميين العرب الداعية الى الحرية والاستقلال والمتطلعة الى يوم الخلاص من براثن الاستعمار البريطاني البغيض.
ترسم لوحات عاشتها بكل تفاصيلها عن عالم الحصن الكبير وعن جدها الأمير ووالدها المفعم بالأمل وبالأفكار التحررية والذي انتهى به المطاف أخيرا لاجئا سياسيا في القاهرة بعد ان حاك ابن عمه مؤامرة ساعده فيها الانجليز وسيطر على الإمارة الصغيرة.
وتصف يوم الخروج من الحصن وهي خائفة تبكي وتلتف بعباءة والدتها السوداء الكبيرة.
هذا كان جزءا من المناخ الروحي الذي كتبت من خلاله رواية "ريحانة"، وريحانة عبدة من العبيد الذين كانت تملكهم زوجة الحاكم، وكان زوجها ليس عبدا ويعمل سائقا عند الأمير حاكم الحصن.
وبحكم عبوديتها ذهبت ريحانة مع أسيادها الى القاهرة، وكانت عالما واسعا ومختلفا عن الإمارة الصغيرة، التي نشأت بها وكان معها ابنها الصغير والثاني كان ما يزال في بطنها يوم رحلت مع أسرة مخدومها الى مصر.
وظل زوجها الذي تزوج عليها من فتاة جميلة صغيرة في العمر لان زوجته ريحانة تركته واختارت الرحيل مع أسيادها، وهذا الأمر زرع الحزن في قلبها وجعلها تفكر ليل نهار وتتغلب على الأحزان والحسرة والآهات.
وهذا ما دفعها الى الإدمان على الخمر والمخدرات حتى قررت الأسرة الحاكمة ان تعود ريحانة الى وطنهم، رأفة بحالتها النفسية والمعنوية التي ساءت كثيرا.
ان الكاتبة ميسون صقر تبوح بلواعج قلبها وذكريات طفولتها وحزن عائلتها التي فقدت الأوراق والوثائق التي تثبت حقها في الملك والحكم لو قررت فجأة ان تعود للوطن اذا سمحت لها الظروف بذلك.
ولقد ارتقت رواية "ريحانة" الى ذروة عالية من الصدق والتعبير الفني الجميل الذي أوصل ما أرادت ان تفصح عنه جليا واضحا الى القارئ العربي الذي أراد ان يعرف من خلال الإبداع والنسيج الروائي عما عجز عنه المؤرخون ان يتناولوه لهذا الشكل اللائق بحكاية أسرتها التي فقدت ملكها وانتهى لها المطاف الى اللجوء السياسي لتفاجأ بالحزن الأكبر وهو هزيمة حزيران وسقوط الحلم القومي الذي كان يجسده عبدالناصر، الذي لم يتسرب اليأس الى نفسه وبدأ يحضر لحرب الاستنزاف، ويعد البلد للحرب القادمة، الا ان المنية عاجلته وتظافرت فيما بعد جهوده بالعبور العظيم، وبالنصر المؤزر في حرب تشرين المجيدة عام 1973 .
الرأي
الأثنين 6 آذار 2006م