زياد خداش في كتابه الجديد "خذيني الى موتي" الصادر عن دار الماجد في رام الله ،2005 أضاف الى رصيده الإبداعي ("نوم هادئ يا رام الله" ،1991 و"موعد بذيء مع العاصفة" ،1994 و"الشرفات ترحل ايضاً" 1998)، خمسة عشر نصاً امتدت على ثمانين صفحة من القطع المتوسط، ينتظمها أو "يخترمها" جميعها، الموت. ولكنه الموت غير العادي، وغير المطمئن للمعرفة المسبقة. هو تلك الحيرة ذاتها، في الشكل والمضمون. يهرع اليها المؤلف، ويطلبها لنفسه. الموت الحيرة. وثمة بالتحديد، كانت صرخته لها "خذيني الى موتي". من هي؟ ما هي؟ لعلها النصوص ذاتها، يبدعها بقدر ما تبدعه. يكتبها بقدر ما تكتبه. في نص "موعد شاحب على الدرج"، نقرأ خفايا هذا الإبداع المتبادل/ هذه الكتابة المتبادلة: "كتبت لي: ماذا تكتب الآن؟ كتبت لها: أكتبني صوت ارتطام نسر مع عماء عاصفة. مسافة متغطرسة بين نشيد سقوط وانتحاب أرض يابسة. أكتبني رجلا مبعثرا بين السراب والخراب، محظوراً من ذاكرة الضوء..". ومن الخفايا ايضاً: "كتبت لها: تعالي إذن، نموت معاً، انهضي الآن، جهزي حقائب التعب، وسأجهز أنا معطفاً للبكاء السري العنيف. قفي على الهاوية، حافية وراكضة، بلا جدران، بلا رجال، بلا ذاكرة، وبلا مسائك الأخير. لا تخافي، فالهاوية طيبة وثقيلة ومتفهمة..".
ليس من امرأة مخفية في هذا النص. إلا اذا كانت النصوص كلها متماهية بالأنثى. غير ان التأويل لا أنوثة ولا ذكورة فيه. المبدع "هو". والنصوص "هي". والدعوة من المبدع، الى نصوصه، للموت معاً. يموت صاحب النصوص. وتموت النصوص معه. وبهذا التأويل وحده، تكون الهاوية طيبة وثقيلة ومتفهمة.
لماذا يطلب صاحب النصوص، الموت لنفسه ولنصوصه معاً؟ نحتاج الى مخيلة سريالية كي نفهم واقعا مكشوفا لنا الى حد منفر، في هذا الطلب. كيف تتوافق المخيلة السريالية مع الواقع المباشر والمنفر؟ في باطن هذه الكيفية، تتوافر النصوص كلها.
في نص "الطيون والجنود وأنا"، نلمس شيئاً من هذا الباطن، بوضوح شديد. يروي لنا الراوي في هذا النص، انه كان عائداً وحده الى البيت في مخيم الجلزون مساء (نعرف ان زياد خداش نفسه، هو احد سكان هذا المخيم للاجئين قرب مدينة رام الله). وكان يتكلم بهاتفه الخلوي مع صاحب له. فجأة اذا بجنود "اسرائيليين" ينبطحون على بطونهم، ويصوبون بنادقهم تجاهي. يشيرون ان أتقدم إليهم. كانوا متوترين جداً. أحدهم أمسك رأسي وأحناه باتجاه الأرض. وآخر أغلق هاتفي الخلوي.." كان الراوي يبحث عن طيون الجبل (زهور برية). يشمها ويقطف بعضها لسيدة بانتظاره. كان ساذجاً مثل ذرة تراب، حين دفع به جنود "اسرائيل" الى الكمون معهم، داخل الكمين الذي ينصبونه في العتمة والخفاء، على مقربة من المخيم، لنشيطي الانتفاضة، لرجال المقاومة، للفدائيين. خنقوا عينيه بعصابة سوداء. وربطوا يديه بقيود بلاستيكية، ثم دفنوا وجهه في التراب. "كنت كلما سألتهم ما الذي يجري؟ همسوا لي همساً: اسكت، هناك بعض الأشخاص نريد الإمساك بهم. تمدد جندي بجانبي تماماً، كنت اسمع أنفاسه..". أي سريالية يمكن لها ان تتلبس الراوي، وهو جزء من هذا النص الواقعي المفزع؟ يصرخ الراوي، صاحب النص: "سأموت ميتة غير متوقعة أبدا. سأكون في مرمى نيران فدائيين من شعبي. سيقتلني رصاصنا.." بعد ساعتين من العذاب، تنتهي اللعبة. يرفع احد الجنود العصابة السوداء عن عيني الراوي، ويفك قيوده، أو يقطعها بالأحرى، بسكين. هل كان الكمين كله مجرد لعبة للتسلية؟ للسريالية ان "تلعب" دورها في هذا الشأن. مع ذلك، أحد الجنود يقول للراوي "ابنك يرشقنا بالحجارة كل يوم"، فيجيب: "لكنني غير متزوج". ينظر الجنود لبعضهم بعضاً ساخرين أو محرجين. أما عيونهم فإنها تقول للراوي ساخطة وآمرة: "عليك ان تذهب الى البيت الآن، وتتزوج فورا وتنجب أطفالا، وتحضرهم الى هنا، حتى نتهمهم برشقنا بالحجارة. هل فهمت؟" لم يعد الراوي الى البيت. يقول النص انه لا يزال يركض نحو طيون الجبل. هل ان تلك الطيون/ الزهور البرية هي البيت؟ أم انها جزء من الكوابيس المتناثرة في التأويل؟
في نص "لا بأس، فأنا هنا، أنا هنا"، لا يدري صاحب النص ما اذا كان سيهرب الى الجبل مجددا، ولا يعود أبدا. أم يعود الى فراشه ويدفن رأسه في وسادته ويبكي بصمت؟ أم يندس في أمعاء كهف ويتحول الى سحلية أو عنكبوت؟ "أحس بشيء يتسلق ساعده. ابتسم. هل هو العقرب؟.. وقف العقرب على رموشه. تجمد هناك.. كان بإمكانه ان يزيحه بيده ويسحقه بقدمه. لم يفعل. تخيل شعور العقرب وهو يقف على رموشه، رموشي قد تكون الجبل بالنسبة له، والكهف عيني..".
الكوابيس في هذا النص، لا تنفصل عن الواقع المعاش، رغم ان السريالية تحاول ان تقول عكس هذا. وفي الوقت نفسه، نجد ان صاحب النص يتقدم عميقاً داخل الكهف، لا يعرف الى أين سيصل، وما هو دوره. هل تحوّل الى عقرب؟ هل كان هو العقرب في الأساس؟ وكانت عينه هي الكهف في الأساس؟ هو العقرب والكهف معاً. وهو الحيرة المؤلمة جداً، والضياع، لا وصول، ولا دور.
وفي نص "غرف للانتظار"، يصبح تحت ثقل هذه الحيرة، مجرد حضور فنجان قهوة الصباح، حضوراً لقنبلة يدوية. "حين قدمت أمي لي فنجان القهوة الصباحي، ارتعبت. ركضت بعيداً عنها، صائحاً: قنبلة يدوية، هل جننت يا أمي؟..". يتحرك النص الى مشهد مغاير. لا أم، ولا فنجان قهوة، ولا قنبلة، ولا جنون. صاحب النص وحده في الليل، يرتدي منامته تمهيدا لنوم طويل. إلا أنه بدلا من إلقاء جسده على السرير، يلقي به من الشرفة "فقد رأيت الفراغ الذي يعقب الشرفة سريرا. هناك سكتت كلماتي. سكتت مخيلتي ودماغي. انطفأت ذاكرتي..". ومع إن صاحب النص يقول لنا قبل ان يغلق أبواب "غرف الانتظار" كلها، انه لا يعرف حتى الآن، ان كان ما صار معه، هو الموت أم لا، فإننا نعرف انه الموت فعلاً. ليس موته هو وحده، وإنما موت نصوصه معه ايضاً.
في نصوصه كلها، يؤكد لنا زياد خداش على هذا الموت، من دون مواربة. فهو كما يقول، نصا بعد آخر "يبحث عن سرها، ككاتب قصة مجنون، يبحث عن الغريب والوحشي والمدهش، والممتد خارج حدود الأرض..". (نص حكاية المرأة التي هربت ذات خريف(.
وكما يتساءل أمامنا، أو كما يحفر السؤال في عيوننا: "تبدو الحكاية تافهة؟ أأبدو مجنوناً جداً وفاقداً للذوق؟ ليكن. لا يهمني ما تعتقدون. هذه الحكاية وقعت، ويجب روايتها كما هي.." (نص بعينين باردتين)، وقد يقترح علينا مشاركته تلقائياً في كوابيسه "يا له من نص مفتوح لاقتراحات المخيلة" (نص جنون القمر(.
وفي المحصلة، هل ثمة مسافة بين الواقع والكوابيس؟ هل ثمة مسافة بين الاحتلال "الإسرائيلي" الكاسح، والنصوص المنعكسة عنه؟ لا شيء غير صاحب النصوص ذاتها. لولاه، كنا عمياناً، لا واقع ولا كوابيس ولا احتلال ولا نصوص. لولاه، كنا أمواتاً. فإذا طلب الموت لنفسه، فإنه حقيقة، يطلب الحياة لنا، وبهذا الطلب المتناقض تترسخ قمة التراجيديا.