يتيح لنا ديوان – كبش قرنفل – إطلالة موجزة ووافية على عالم الشاعر طاهر رياض لان هذا الديوان اضمامة او باقة مختارة من تجربة الشاعر عبر مجاميعه الصادرة قبل هذا الديوان .. والتي يجمع بينهما اكثر من قاسم مشترك سواء على صعيد الأداء الفني او المنحى الدلالي مما يكون وحدة موضوعية او وتيرة فنية متنامية تشكل سلمه الشعري ..
وكما ان تجربته الشعرية بعمومها تطرح اكثر من ثيمة للوقوف عندها تحليلا وفحصا بمجسات النقد او متفاعلات القراءة والتلقي والتأويل ، فهناك اكثر من موضوعة او مدخل لقصر الشاعر الشعري الفاره منها موضوعة .. الموازنة بين البنية الإيقاعية والبنية الدلالية ، او موضوعة الصورة الشعرية المتنامية ، او موضوعة الفكرة الشعرية وتأثيرها خلال السياق الشعري ، او اللغة الشعرية العالية .. وغيرها من الثيمات التي تستهوي النقد وتثير كوامنه ليصبح نصا على نص وإبداعا على إبداع .. ولكننا سنقف هنا على ثيمة نراها مهمة لرصد تجربة الشاعر الرؤيوية والنفسية والأدائية تتوزع على اغلب قصائد الديوان – ان لم نقل كلها – انها ثيمة الغياب المتكررة والمتشظية في قصائد الديوان والتي تجيء صريحة ظاهرة أحيانا ، ومتسترة او مفهومة ضمنا أحيانا أخرى ، ولكنها في الحالتين تأخذ أشكالا عدة تتوحد بها مع جسد القصيدة وتكون جزءا أساسا منها .. وقبل ان نشير إلى أشكال الغياب وتمظهراته في شعر طاهر رياض لنسال سؤالا:
ما هي ثيمة الغياب في الشعر ؟
ونتأمل قصائد الديوان فنحس بان الغياب هو الشعور بالاستلاب تجاه حركة الزمن وابتعاد الأشياء الحميمة وتساقطها من شجرة الوجود ..
انه الإحساس بالرحيل الدائم عن الأشياء او رحيلها الدائم عنا ..
او الإحساس بهذا الرحيل وهذا التلاشي فيكون الغياب عندئذ هو شعور بالاغتراب عن الأشياء اكثر منه انفصالا عنها ، أي يكون الغياب ضياعا وليس انزواء ،
ولكنه في الحالتين يشكل تداعيا نفسيا للشاعر سواء على مستوى حنينه للأشياء الزائلة عنه ، او الإحساس بفراغ المكان رغم امتلائه بكل شيء ..
انها محنة وجود الشاعر وإحساسه المكثف بحركة الزمن وانفلات ذاته المستمر عن المكان والانتماء إلى برج رؤياه ليرى العالم بشمولية وبصيرة قاسية شاهدا على عصره وراكبا في أرجوحة العدم والوجود ..
انها جدلية الإثبات والنفي ، والاحتواء والانكفاء ، او نظم عقد الزمن وانفراطه .. لرصد العالم المتداخل في جدلية الحضور والغياب .
ان الشاعر هو الغائب عن الأشياء والحاضر فيها او الحاضر في جدواها ومصيرها .. انه خارج دائرة التشيء وخروجه هذا هو من اجل احتواء العالم شعريا لذلك تتخذ ثيمة الغياب في شعر طاهر رياض مظاهر وتمحورات عدة يمكن إيجازها بما يأتي :
1 – الغياب الصريح او الظاهر
والمعبر عنه بمفردة - الغياب – التي ترد في اغلب قصائد الديوان ، وغالبا ما يأتي هذا الغياب منزاحا عن معناه المألوف و موضوعا ضمن سياقه الدلالي والفني كحلقة من السلسلة الشعرية او الجملة الشعرية التي اتخذت من الغياب مرتكزها الدلالي...... ففي قصيدة ( جهات عمياء ) :
هيأت ما أبقيت لي :
جسدا يهب
وشهوة تهوي !
وتنتهي هذه القصيدة ..:
جري غيابك كله نحوي
وفي قصيدة – هي سكرة أخرى – :
بكى الحبيب
ولم يكن بيني وبين غيابه سر
فقلت : اهدا حبيب
انا غيابك كله
وبكيت
وهذا الغياب جدلي استبدالي يمثل غياب الأنا في الآخر والآخر في الأنا
وفي قصيدة – شئت بيتي – يصبح الغياب بديلا للشاعر او حاضرا عنه :
شئت بيتي على شهقتين
وأسكنت فيه غيابي !
وفي قصيدة – نسيت اسمها – :
نسيت اسمها كله
غبت عني جميعا
تشير المفارقة الشعرية إلى انفصال الذات عن فضائها وملحقاتها الانسانية فيصبح نسيان الآخر – الحبيب – او نسيان اسمه – كله – هو الغياب كله عن الذات او فضائها ..
2 – الغياب الضمني الذي يشي به سياق الجملة الشعرية
فقصيدة – كدت لولاي – :
تتكئين على هذري في الرجوع
انا لا اريد الرجوع
تنحي قليلا ..
وهذا إصرار الجزئي . في الغياب رغم الحضور الحواري مع الآخر..
3 – الغياب الجزئي .. ويدي.اس الشاعر بغياب بعض أجزائه او ممتلكاته
ففي قصيدة – كدت لولاي – :
ويدي ... اينها ؟
لا تقولي بجيبي
فلا جيب لي
لي يد كنت اخنق جرو النعاس بها
اينها ؟
ان غياب اليد او السؤال عنها يمثل بداية انفلات العالم من الشاعر وتجرده من الأشياء التي حوله – فلا جيب لي – ان هذا التداعي او تلاشي الشاعر يرسم خارطة الغياب من خلال تفاصيل الخسران وغياب الشاعر في جسده وانفصال الأشياء عنه ..
4 – الغياب الصوفي .
وهذا يمثل ذروة الاغتراب عن الذات ومحاولة التوحد او السمو إلى الذات الإلهية .. انها محاولة لمحو الذات الدني–:الصعود بسلم الجسد إلى ملكوت الروح ، انه الاحتراق في الحب الإلهي حد ان يبقى الجسد رمادا شاهدا على سمو الروح ولكن هذا الجسد - رماد حي - او هباء يحكي قصة الصعود والتماهي مع الأعلى لذا تبدأ قصيدة – حلاج الوقت – بلازمة تتكرر – ما في الجبة احد – دلالة الغياب او التلاشي من اجل التوحد بالذات العليا والتنازل عن وعاء الوجود - الجبة من اجل الوجه الأعلى او الذات الإلهية للحلول بها :
ويبقى ترابا في الجبة
وجه الغيب الصمد !
5 – الغياب عنوانا ..
أي يكون الغياب ثريا للنص يشع على مكامن القصيدة و مفاصلها وقد يكون هذا العنوان صريحا كما في قصيدة – غياب – :
إلى أين ؟
هذا الذي يملا الحجرات
فراغي انا ..
...........
على كل شيء
بقايا لهاثي انا
فالغياب هنا فضاء القصيدة الذي تتحرك فيه وعمقها الفني والدلالي اذا ما توخينا العلاقة التناصية بين العنوان والمتن . وقد يكون العنوان مشيرا إلى الغياب مثل قصيدة ( النهار انتهى ) او قصيدة ( تراه على أي نهر ) حيث انتهاء النهار هو غياب زمن وخسران تفاصيل الضوء والعشب والصبا والرؤى :
هل أقول انتهى
النهار الذي منذ صب الندى
فوق عشب رؤاه
ومنذ افتتحنا صباه
وخمشنا وجهه المشتهى
هل أقول انتهى ؟
وقصيدة – على أي نهر – التي تبدأ بسؤال في الغياب:
تراه على أي نهر مسجى
وفي حلم اية صحراء تراه ؟
فهنا العنوان والمطلع يشيان بثيمة الغياب وتمركزها الدلالي والفني في القصيدة ..
6 – الغياب حضورا
أرى ان هذه الصفة هي الأقرب إلى روح الشعر وفلسفته حيث لايمكن التعبير عن هذه المفارقة الوجودية الا بفن الشعر وعمقه لكي يوسع من فضاء جدلية الغياب والحضور ولكي يسوغ هذا التضاد في المعنى والتداخل في التأثير ، أي ان هذا المعنى المتضاد لا يمكن الاقتراب إليه الا بقطع مسافة الشعر والرؤية المكثفة والشمولية التي قد تسخر او تستفيد منة بعض الفنون الأخرى لتنمية الفعل الشعري ، كفن السرد او التشكيل الرؤيوي ، او التصوير .. الخ فالكلام عن البطل الغائب – الحاضر يستدعي تنشيط الخطاب الشعري حد إقناع المتلقي بحتمية التضاد في الحضور الشفاف لبطل غائب ففي قصيدة – تراه علي أي نهر – نقرا:
هو الغائب المر
كيف التفت تراه
هذا التداخل الشعري الوجودي بين الغياب والحضور يستدعي درجة من الانسجام والاتفاق بين الشاعر والمتلقي لا تتاح الا في المنطقة الشعرية الحرجة او لنقل في الأرض الحرام بين جبهة الشعر وجبهة التلقي .. لأنه محاولة صعبة لرسم خارطة الوجود بالشعر :
فمن لمّه من مجون المسافة
من أوقف الوقت تحت خطاه
و هيأ غارا له
واصطفاه ؟
وكذلك قصيدة – على الأرض – :
وفوق السرير الثياب التي احترقت
في غيابك
حيث تبنى هذه القصيدة دلاليا وفنيا على ثيمة البطل الغائب – الحاضر
وكذلك قصيدة – غياب – التي تشي بحضور الغائب:
إلى أين ؟
هذا الذي يملا الحجرات فراغي انا
والثياب التي تتثاءب فوق السرير
مسامات جلدي انا ..
7 – الغياب قناعا
يمكن عد القصائد في الديوان مثل قصيدة ( أبو نؤاس ) و وقصيدة ( ابن الريب ) وقصيدة ( حلاج الوقت )صورا للغياب المتستر باتخاذ شخصيات تاريخية تتمظهر بها الذات الشاعرة فيحقق الشاعر حضوره من خلال الاستحضار الشعري للشخصية – القناع – وإسقاط جانب من تجربة الشاعر عليها في مساحة القاسم المشترك بين الشاعر والقناع – الشخصية التاريخية ، واستكشاف الشاعر أغوارها بمجسات الشعر فتتجلى في مرآتها أعماق نفسه حيث يجد الشاعر نفسه متشظيا في التاريخ عبر شخصيات تعكس تجاربها الانسانية او الإبداعية جانبا مضيئا من حياة الشاعر فيغيب الشاعر عن حاضره وعن ذاته – تسميته – ليدخل فضاء تلك الشخصية وبعثها شعريا . ان التقمص الشعري للشخصية يستدعي الموازنة بين معطيات الماضي وآفاق الحاضر أي بين فضاء الشخصية القناع وبين حركة المقنع الشاعر ضمن هذا الفضاء لكي تخرج القصيدة من نمط الرثاء او الوصف للشخصية لتدخل فضاء القناع الشعري او لتحقق غياب الشاعر في الآخر وحضوره فيه لتحقيق جدلية القصيدة بين زمنين وشخصيتين على مستوى الدلالة .. فتصبح - جبة الحلاج - زمن الشاعر او بيته او ثيابه وتصبح غربة مالك بن الريب وموته ورثاؤه لنفسه هي غربة الشاعر الحاضر وإحساسه بالاغتراب والرثاء .. وتصبح خمر أبي نؤاس محاولة لنسيان الواقع – الراهن - المر ودوران الأرض هو دوران كأسه المعتقة .. الخ
8 – الغياب سؤالا
الشعر أسئلة... وان لم تكن هذه الأسئلة موضحة بعلامات استفهام او أدوات استفهام ، ولكن من أهم قضايا الشعر هو صنع السؤال او التحريض عليه لتكريس حالة الإدهاش عند الإنسان إزاء مجهوليات الكون وأسراره .. لذا قد تترك قصيدة ما او تجربة شعرية ما انطباعا عند المتلقي بما يشبه السؤال .. سؤال في الوجود ، سؤال في العدم ، او في الحضور والغياب ما دام الشاعر يواصل سعيه في البحث عن الحقيقة او مزاحمة الأشياء في سؤالها عن مكامنها ومصائرها . ان الشاعر كله هو علامة استفهام تثير الآخر وتحرضه على البحث عن جواب او البحث عن سؤال أيضا .. وفي شعر طاهر رياض يبدو السؤال .. وأين ؟ واحدا من تمظهرات الغياب ومدخلا إلى تجلياته في التجربة الشعرية .
يقول في قصيدة ( الجدار ) :
ولا عمر يكفي
فماذا يقول الجدار اذا ما اقتربت
وكان مصابا بذاكرتي وبفقدي
وفي قصيدة ( رباعية ميم ):
تلك أنفاسها في الستارة
ام حكة الصدأ المترسبة بين التروس
او
ويدي اينها ؟
او السؤال الصريح في قصيدة ( لم انتبه ) :
أين أنت ؟
اما السؤال في قصيدة ( حلاج الوقت ) :
كيف رأيت الموت ؟
وفي قصيدة ( غياب ) يفتتح سؤاله :
إلى أين في أول الخمر ؟.
ثم تكرار السؤال: أين أين.. ؟
ثم : إلى أين يحجل نيسانك الطفل ؟
وفي قصيدة ( تراه على أي نهر ؟ ) التي يشي عنوانها بثيمة الغياب تتفتح القصيدة بالسؤال :
تراه على أي نهر مسجى ؟
وفي حلم اية صحراء تراه ؟
فهذا السؤال يشير إلى بنية الغياب وتمظهره
وفي قصيدة ( شجر اللوز ) سؤال يشي بالغياب :
كيف لا تذكراني
جئت منفيا .. وأهلي ؟
9 – الغياب خاتمة
الخاتمة في القصيدة تعني الذروة او النتيجة السياقية دلالة وبناء ، او تعني الأفق المفتوح الذي تتركه في مخيلة المتلقي .. وحين تنتهي القصيدة إلى ثيمة الغياب فهي تكرس هذه المهيمنة وتجعل من تمظهرات الغياب فعلا دراميا متناميا او ضربة فنية ودلالية تشير بوضوح إلى أهمية هذه الثيمة في القصيدة وعمقها الدلالي والسياقي فيها فحين يختم الشاعر قصيدة – جهات عمياء – بجملة :
جري غيابك كله نحوي
إنما يكرس هذه البنية التي كانت في مفتتح القصيدة
وفي قصيدة – هي سكرة أخرى – تنتهي القصيدة
هي سكرة أخرى لنا :
ميت روى عن ميت
وفي قصيدة – حلاج الوقت – تنتهي بتكريس الغياب الصوفي حين يقول الشاعر :
أصغي لا احد
لا احد .. لا احد
اعدم بهتاني ان كنت أرى او أجد ..
قصيدة – هواء ضرير – تنتهي بـ:
يلفظ آخر أنفاسه
فوق وجهي
ويومي بغرته ..
ويميل
وقصيدة – من سقى يا حبيب – تنتهي بالبيت :
واحتملني
انا احتملت تجافيك
واحتملت غيابك ..
وفي قصيدة – كان المدى مقفل – :
وكم من اله .. نحاول
لكننا لا نراه !
وقصيدة – ابن الريب - :
وسيب للرعي خيباته
ثم ضم إليه الفضا
ومضى ... !
anawar63@yahoo.com