(أنا المذبوح في الحروب الكثيرة/
والأغاني المثيرة/
وبحور أحمر الشفاه/
أنا الجالس بين مدار الجدي ومدار السرطان/
أسمع أغنيات فيروز/
وأكحّل أجفان رامبو بجوعي)
سحابات بيض-
نعيم عبد مهلهل
وأنت ترى عن قرب وعن بعد، إصرار أولئك المنفيون في مشاغلهم الإبداعية عن قصد.
تداهمك مشاعر شتى وتنبجس أمامك ظنون وأسئلة، ربما تجد إجابات شافية لبعضها، وربما لا تجد لبعضها ما يرضيك. وفي كلتا الحالتين، حريّ بك أن تحث الخطى معهم لتلمّسِ جسامة وهول ما يعانون. وكما عليك أن لا تبدي رأيا سريعا على ما يفعلون. لأنه في النهاية سيكون قاصراً، يفضح عجزك عن فهم ما يرون. أولئك المجانين، المأخوذون بطقوس المشغل ونشوة الفرح بإنجاز إبداع جديد، لم ولن تربكهم أهوال ما يجري من وقائع، عن مواصلة مساعيهم المعرفية إلى ما لا نهاية. أناس تميّزوا بانصرافهم التام لمنجزهم الإبداعي وتفويت الفرصة على ما هو حياتي ويومي، وكل ما من شأنه تعطيل اهتمامهم المركزي بمتطلبات إنتاج وتسويق المنجز للمتلقي.
واحد من هؤلاء، حيّر بعض الأصدقاء والغرباء بغزارة إنتاجه وتعدد اهتماماته. كتب الأوبريت والمسرحية والقصة والرواية والمقالة والشعر والسيناريو والنقد. وأصدر في معظمها كتبا وبسرعة مثيرة للاهتمام، وستحدث ردود أفعال متباينة. وانطلاقا من مهمتنا النقدية المؤسسة على اعتبارات معرفية خالصة. نرى فيه مبدعا حفر اسمه بأنامله على حجرٍ ساخن. قلب الموانع وانطلق من رماد بلاده إلى آفاقٍ أرحب، طائراً جريحا يغني برهافة، عن محنة بلاده المبتلاة بالأسى منذ عقود.
ورأينا هذا متأتٍ من معايشة بيئية وثقافية له. عرفناه منذ صباه يمتلك قدرة متفرّدة على كتابة نصٍ جميل وبأي موضوع مقترح وبزمن قياسي. على هذه الملكة المبكرة، شب صاحبنا ونمت لديه جبلّة غزارة الإنتاج، وتوزّع الاهتمام بشتى الأجناس الأدبية.
في كتابه الشعري الجديد (النساء وعاطفة النبي يوسف) الصادر عن دار نينوى للنشر والتوزيع/ دمشق/ 2007.
يقدم لنا الكاتب (نعيم عبد مهلهل) نصاً نثريا. أولها(قصائد كتبتها نيابة عن اندريه بريتون) وآخرها( كمال سبتي.. موت نقار الخشب السومري).
النص المختار أعلاه هو نموذج لنصه الذي يقدمه لنا على طبق من(النص المفتوح) الذي لا يقف عند حد ولا يتعثر بمصدات أو مفازات المألوف. وهذا ما يدفع التلقي إلى عدم الركون لمنطقة واحدة في التأويل بل إلى مناطق شتى تتناسب وحراك النص الماثل. لأنه منفتح على تنويعات نصية ذوات مسارب حراك دلالي متنوعة أيضا. إن هكذا نص رغم بساطته يفتح أمامك فسحا عديدة للتلقي والتأويل. وفي هذا الصدد يقول(اومبرتو ايكو) في كتابه(التأويل والمبالغة في التأويل):"ليس للتأويل حدود، هو عملية لا نهائية. إن محاولة الوصول إلى معنى نهائي، بعيد عن المتناول القريب، تؤدي إلى القبول بانزلاق أو بانجراف للمعنى لا ينتهي أبدا.." اختار نعيم لنصه الأول مفتتحا سرديا، يتضمن وصفا لمشهدٍ ملتقطٍ لصباح عراقي من على سطح منزل جنوبي. كل شيء فيه هادئ، لولا صافرة القطار ومراوحة النخل كالعسكر وآهات المرأة المهجورة. مشهد عن البلاد التي أتعبتها الحروب الدائمة والرحيل المتواصل للأبناء والإهمال الذي شوه الجمال والبراءة. ولفداحة الكارثة ينهي المشهد بالجملة الأخيرة التي عمد إلى إجراء تجاور لامعقول في تركيبتها اللغوية لإحداث التشفير المطلوب.
إذْ يمكن إعادتها إلى تركيبتها المعقولة على النحو التالي(وردة تتأوّه مثل امرأة طالق) والمشهد رغم هيمنة السرد فيه لم يفقد مناخاته الشعرية التي أدت دورها بجدارة أمام آليات منظومة التلقي" القميص على حبل الغسيل يكركر ببياض النظافة/ وعلى سور المنزل ديك بنفسجي/ يلعق حلاوة الصباح بملعقة الشمس/ في البعيد صافرة قطار/ ونخل يراوح في مكانه كما العسكر/ امرأة تتأوّه مثل وردةٍ طالق...."
هو يواجه التلقي بالبساطة وحدها، فيجيء المقطع الشعري سلساً منسابا. يحاول فيه عدم التفريط بالذائقة الخام، فيما لو عمد إلى تراكيب لغوية بلاغية معمولة بعناية فائقة. الجملة لديه لم تكن قد جرت عليها عمليات شطب وتعديل بل يدونها كما خرجت من المخيلة. هكذا هو في مجمل كتاباته، يدحرج الجملة على الورق بكل عريها وبراءتها. غير أنه ما أن تتوالى جمله في المقطع حتى ترسم للتلقي صورة دالة كثيرا ما تكون واخزة بضربة أخيرة. هذه الضربة تطيح بأبراج وترجم بهالات وتسخر من وقائع وأحداث. وهذه الأحداث لشراستها وربما لمثولها الجنوني ولا معقوليتها تستدعي منه مكرا في تناولها. وطبيعة هذه المكر هو سخريته من كل شيء بدءاً بالواقع وانتهاءً بالتلقي. والنص عنده يخفي آلام جراح ، غير أنه يجد بلسماً لها في التهكّم والسخرية من كل شيء. ولا غرابة إذا قلنا أنه يسفّه كل شيء، لفرط تبرّمه وقرفه من الزيف الذي يطال العلاقات الإنسانية وكذلك من عبث الوجود الإنساني
" لأكمل قصيدةً عن الوفاء/ الوفاء الذي لم يعد ممكنا/ في هذا العصر بسبب الأعاصير التي تضرب فلوريدا"
ولانصرافه التام للاهتمام بما هو إنساني، ولتماديه في التفكير نيابة عن كل البشر، ولشدة اندهاشه برعونة عالم المصالح، صانع الإبادات الجماعية وراسم الآفاق السود والحنق الأبدي بين البشر. ينبري لتقمص شخصية إنسان عصر المعلومات والتقنيات الحديثة، وكذلك عصر الظلمات والميتات المقيتة. شخصية ولدت نتيجة تلاقح بين أبطال المشهد العالمي المعاصر.
شخصية مفترضة، بيد أنها القاسم المشترك لإنسان اليوم، المهدد بالتناحرات اللاإنسانية والمنتجة للكوارث. الشخصية المكبوتة الوارثة لنتائج مغامرات اللاعبين الكبار في منظومة العولمة والقرية الكونية. وما يكشفه المقطع التالي هو الريبة والتوجس من الآتي نتيجة ضراوة تداعيات الحاضر، وهو رؤية الإنسان والشاعر بخطورة الأحداث المفضية إلى ولادة التشوهات الروحية والبيولوجية للإنسان القادم"أبي هو الروبوت/ وأمي هي مادلين أولبرايت/ وأخي هو دالاي لاما التبت/ فيما أختي هي ثمرة البطيخ التي تخشى أن تثقب قشرتها/ فيطلّ الأوزون بعواصف الخراب/ فنعود كما المرّيخيون لنا ألف فم"
ولأنه من أولئك المهووسون بعشقهم للانتماء السومري يعمل على إدانة الحرب بطريقة تنم عن رهافة حس تلك السلالات التي صدرت للعالم الأشواق والقيم النبيلة والمعارف العطرة بالنقاء الإنساني. وليس الصواريخ والتواريخ القابضة للأرواح. هو وريث عمالقة الأهوار الذين أذابوا في جرار الفخار مشاعرهم المفعمة بالأماني لعالم متآلف يغفو على جنح فراشة
"أنا لست من دون جوانات أناشيد التوربادو/ أنا من بقايا جرار الفخار/ التي لا تكسرها شظايا الصواريخ/ ولكن رمشة جفن مرتجف تحطّمها تماما"
في رسالته الأخيرة لمارلين مورنو، يعود إلى أيام الصبا ليصور اللهفة الحارقة والتشوق الجنوني والانغماس العجيب بالعلاقات المتخيلة بين الشباب وصور الممثلات. تلك العلاقات التبادلية أحادية الجانب التي تحدث في معبد متخيل لإحدى شهيرات الفن الغربي. في هذه الرسالة يعرض كبت الجسد الشرقي أمام حرية الجسد الغربي، تلك المعادلة الأزلية التي لعب على آليات موازنتها المستحيلة رأس المال العالمي. الذي راح يحرض غرائز عالم المراهقة لتتعرى عن حشمتها في محراب جمال الصورة. وتتحول إلى شخصية مازوكية تتلذّذ بعذابات وتأوهات (الأنا) التي لا تنتهي"لو تبيعيني صمت قبرك/ لصنعت من الجمال كلاماً/ وأغويت به كلَّ حواري الفردوس/ حتى لو كنت أنا في نار جهنم"
ولإصابته بلعنة التنقيب في الأساطير لا يخلو نصه من مناخات المتن الأسطوري، وذلك بحكم الانتماء البيئي. فهو من المحاورين اليوميين لأبطال الأساطير السومرية، وما أن يمد أنامل مخيلته إلى ذاكرة الأساطير، حتى تنفتح أمامه حيواتها الراقصة في أماكن تفرض سحرها عليه. لنراه يبتكر بيسر مشهدا يمزج بين الأمكنة والأزمنة وعلى هواه ومن دون رقيب. وإذ يخاطب ملهمته المعاصرة، يروز متنا يحدث مقاربات جميلة بين الواقع والخيال، بين الحاضر والفائت، من خلال استدعاء متخيل لبطل أسطوري شغل العصور بمشروعه الداعي للخلاص البشري من براثن الشر التي تلاحق البحث الأبدي للإنسان وتطلعاته للخير والسعادة والأمان
"وأتذكّر كيف أن نوح جاء بمركب الحلم ضيفاً على بيتنا الفقير/ أبي صنع من دموعه رغيفاً لعشاء النبي/ فيما أمي صنعت من طيبتكِ حساءً/ وطبخته لكل سكان السفينة".
ولبث رؤاه في الاغتراب الوجودي، لا يخشى حشد أسماء شخوص وأماكن وحوادث في نص واحد. نص تجتمع فيه النقائض التي تخالف وربما تشاكس بعضها، مشكلة متنا ذا جسدٍ مرقطٍ من مركبات علامية غاية في تنوع تناصها المرجعي. جسد يستبطن أرواح هائمة في أغواره، تقيم وشائج تلاقح في مخيلة التلقي، الذي قد يتفق ولا يتفق مع سياقات منظومة البث. إن محاولات منتج النص في الاستعانة بأيقوناته المرجعية- البيئية والثقافية- ربما لا تلقى استحساناً لدى البعض، باعتبارها تفضي إلى ترهل النص أحيانا. غير أنها عكس ذلك لدى البعض الآخر، بوصفها نتيجة طبيعية لكاتب توفرت له أسباب شتى لتمثلها في متنه الكتابي
"أيتها الفارعة الطول/ دعينا نؤرشف تاريخ أوربا/ على صدر الفستق ورمان بعقوبة/ وعنق اسكتلندة وطبيخ عيد الأزهار المندائي"
ورغم هذا الاختلاف المتوقع في تلقي نصوصه، لا يمكن لنا إلاّ أن نتوقف لتأمّل أيَّ مقطع مجتزأ من نصوصه. التي يختفي وراءها منتج مغامر يضع في أذنيه قطنا يتفادى فيه سماع أمواج بحر التلقي المتلاطمة والتي تربك مروق المصغين لها. وكيف بمقدور متلقٍ جاد، لا يتلمس على جلد نصوصه دمامل الوجع العراقي المتواصل منذ مراثي دنجي أدامو السومري وحتى نواح آخر برعم شعري. كل ما نحتاج إليه هو رفع غشاوة الحنق، التي تضعها دهشة غزارة إنتاجه للنصوص. وما علينا سوى الإصغاء بلا نوايا تحرفنا عن متعة تلقي طقوس تجلّيات حيوات النص"هكذا.... عطشي قصيدة/ وعندما أشبع من جرح الحرب وعينيك/ شهوتي تصير برتقالةً في فمكِ/ وليكن بودلير في عوننا/ لقد أخذ بيدنا إلى كتب المندائيين/ وأرانا كيف النجم يصير أسورةً/ تلف على عنق أمي أيام الخبز وتذكر عمر بلادٍ/ أخطأتْ حين أسلمتْ نعوشَ أبنائها لأصابع الضباط وهذيانهم"
ولزاما علينا ونحن نتفحّص نصوص هذا الكاتب، أن نقرّ بقدرته على الانفتاح على عدة أجناس أدبية في نصٍ واحد دون أن يعطل هذا الانفتاح فطنته على إدارة آليات منظومة البث.
لا يمْثُل نصه للتلقي دون أن يشي عن اختفاء منتج عركته التجارب الكتابية بعد عمر انشغل فيه وبانصراف تام للمشغل الكتابي المسوّر بمناخات طقوس أسلافه أبطال الأساطير، والمعزّز بالمصادر التي شحذت مخيلته بدواعي خصبها. وحريّ بنا ونحن نجري هذه القراءة أن نحتفي به وهو ينصّ لمشروعه الكتابي المميز، وبهذا الاشتغال المتعدد المسارب، أن نعترف بامتلاكه قلب فراشة ورؤية حالم وصبر مكافح. والأجدر بنا أن نذهب في إجرائنا القرائي هذا، إلى القول: إننا توفرنا على نصٍّ مفتوح على كل الأمكنة والأزمنة والأحداث، ليجيء متنا نثريا مركبا من فسيفساء فاقعة في ألوانها وكتلها ودلالاتها. وربما هو مدونة حاضنة غنّاء لمدونات شتى رازتها كفٌّ مدربة راحت تقطف ما يحلو لها من عناقيد المعرفة دون واعز من وجل من عين التلقي. وعسانا أصبنا برؤيتنا في وقفة الوجد خلال تفحصنا لمتون النساء وعاطفة النبي يوسف.