ثلاث قصائد يجمع بينها فضاء واحد هو فضاء الموت، هذا الذي يعيد بسام حجار اكتشافه شعرياً ولغوياً، حتى لتمسي الكتابة وكأنها تمرين على معانقة هذا الموت وليس على تخطّيه أو قتله. إنه الموت الذي يضحي أليفاً من شدة توغل الشاعر في عالمه، العالم المسكون بالصمت والرهبة والسهو والعزلة. الموت ليس في معناه الميتافيزيقي والصوفي – الدنيوي فحسب، وإنما أيضاً في بعده الشخصي أو الشيئي والمحسوس. إنه الموت الذي يشبه الحياة ولكن الحياة الأخرى، المتوهمة والقائمة على تخوم الوجود والغياب.
لا يهجو الشاعر الموت ولا يمتدحه ولا يكتب قصيدة «القبر» على غرار القصائد التي كتبها الشاعر الفرنسي مالارمي (قبر من أجل بودلير، قبر من أجل ادغار ألان بو...)، وهذه القصيدة معروفة كثيراً في الشعر الغربي. ولا يكتب أيضا مراثي أو مرثيات ولا أناشيد جنائزية... يكتب الشاعر الموت ويكتب عنه في آن واحد، ويحضر الموت في قصائده الثلاث، حقيقة وذكرى، فكرة وتجربة، واقعاً وأسطورة. والأشخاص – الأموات يغرقون في متاهة لعبة الضمائر التي يجيدها بسام حجار وفي لعبة الأنا – الآخر والشخص – الظل، حتى ليستحيل التمييز في أحيان بين الميت والميت، بين الميت والحي.
تجربة «التراب»
في القصيدة الأولى «لم يقل لي أحد ما معنى الأسى» يفسح الشاعر المجال أمام الميت (رجلاً أو امرأة) ليتحدث عن تجربة «التراب» أو «الحجر» من خلال ضمير المتكلم (أنا) ذي الصوت المبهم. كأن الميت هنا يعيش حالاً من «العودة» عبر تداعياته، سارداً شذرات من التجربة الأليمة التي خاضها بعد أن ألمّ به «شغف الحجر»: «يوسدني حجر/ ويغطيني حجر» يقول هذا الصوت. ولا يتوانى عن الاعتراض على «الحكمة» التي يوحي بها «اختصار عمري برقمين وفاصلة». ويورد الشاعر هذين الرقمين بغية التأكيد على أن هذا الصوت أو هذا الميت هو ميت حقيقي. وهذا الميت (هذه الميتة) يعرب عن دهشته لعدم وجود أي خبر في القصص الدينية عما رأى «هناك»، «هناك» الذي أضحى «هنا» تبعاً لمهمة «الإخبار» الذي يتولاه هذا الميت. ويدرك أن أحداً لم يفسر له من قبل «معنى التراب». أما الموت بحسب ما عاشه، فهو العبور في غفلة «من ضفة إلى ضفة وبينهما مياه النسيان». هذه المياه قد تكون هي نفسها مياه نهر «ليتيه» في الميثولوجيا الإغريقية وقد ورد في قصيدة شهيرة للشاعر بودلير. والغفلة هذه هي التي تجعل المكان الذي «هنا» ليس هو المكان، كما يقول الشاعر متلبساً «الصوت»، فالمكان هو «خاطرة تبددها اليقظة». و «هنا» ايضاً لا سبات/ بل يقظات تنبه اليقظات». هذه اليقظة لا تخلو من معنى «الانتباه» الذي هو رديف الموت، فيما النوم رديف الحياة (حديث). إلا أن المفاجئ هو التحول في طبيعة «الصوت» (أو ضمير المتكلم) الذي يصبح أكثر من صوت حين يتحدث عن «الأخت المستلقية على السرير...». أو عن «الأب الفارع الألم والقامة...». أنها الحالة الطيفية التي طالما شغلت شعر بسام حجار تعبر القصائد الثلاث مضيئة عالم الموت، العالم الداخلي للموت.
جدلية المتكلم والمخاطَب
في القصيدة الثانية «مزار بجنب الطريق» يختلف «الصوت» (ضمير المتكلم) عن قرينه في القصيدة الأولى من حيث الطبيعة لا من حيث الفعل. يستهل حجار هذه القصيدة بما يشبه الاعتراف الفوري: «إني لا شيء/ وحديثي عابر/ مثلي/ بين عابرين/ لذلك أتحدث عنك». إلا أن هذا الاعتراف المباشر سينقلب لعبة مرآة في ختام القصيدة حين يقول الشاعر – الصوت: «أنت لا شيء/ وحديثك عابر/ مثلك/ بين عابرين/ لذلك/ أتحدث عني/ أنا العابر قليلاً/ في ظنك».
تبرز هنا جدلية الضميرين: المتكلم – المخاطَب أي الأنا – الأنت. هل يكون ضمير المتكلم هو نفسه ضمير المخاطَب وكأن الصوت يحدّث نفسه وكأنها «آخر»؟ أم أن ضمير المخاطَب هو «آخر» حقاً يتوجه الشاعر إليه بصفة مستقلة؟ لعل أحد ملامح جمالية هذه القصيدة يكمن في هذا الغموض الحيّ المفتوح على التأويل. وهو الغموض نفسه الذي يريــــن على القصائــــد الثلاث مانحــــاً إياها طابعاً «هرمسياً» يدفع قارئها إلى المزيد من الإغراق فيها بحثـــاً عن معانيها الخبيئة التي تتجلى اللغة بها أكثر مما تخفيها.
إلا أن المخاطَب هنا يملك ظلاً أو خيالاً كما يعبّر الشاعر: «إني أتحدث عنك/ لا عن ظلك الجالس/ وحيداً/ تحت سكون الشجرة». ويضيف: «لا عن خيالك الماثل أمام عيني». والانقسام بين الكائن والظل يقود إلى الاعتراف بأن الكائن الميت هو وحده الحقيقي فيما الكلام عنه ضرب من «فصاحة التوهم». الكائن هو الحقيقي ولو كان «صامتاً وبارداً ومزهواً بصمته وبرده». وتدخل القصيدة هنا متاهة تشبه المتاهة البورخسية (خورخي لويس بورخيس) خصوصاً في النص النثري البديع الذي يتحدث عن «كتاب» هو كتاب المخاطَب: «كتابك الذي لا يحصى، المحفوظ أجزاء لا تحصى على أرفق متداعية في مكتبة متداعية مؤلفة من حجرات لا تحصى...». إنه أيضاً عالم الماوراء أو الما بعد الذي تخيله بورخيس في شكل مكتبة لا بداية لها ولا نهاية. ويُسقط الشاعر عن «القبور» الصفة «القبرية» ولو كانت «مأهولة بالموتى»، فهي «علامات المسافرين» و «مزارات» والمواكب المتجهة نحوها ليست «جنازات» بل «أسفار». ترى هل يكون الموت سفراً، سفراً فقط، إلى أمكنة هي لا أمكنة؟
القصيدة الثالثة «تفسير الرخام» الذي حمل الديوان عنوانها (المركز الثقافي العربي 2006) تنتحل ما يشبه الطابع الشخصي – مثل الكثير من قصائد حجار – لتقول اللاشخصي أو الشخصي ممزوجاً بالميتافيزيقي والفلسفي والحلميّ وسواهما. تحضر السنة «الخمسون» وكأنها حافة أو شرفة يطل الشاعر عبرها «ساهياً» كما يقول ولا مبالياً بجلبة «الحياة» التي يصنعها الناس والشارع والحوانيت والتلاميذ ورجال الشرطة... إنها الإطلالة على الحياة من فوق، حيث ينفصل الشاعر الخمسيني عن العالم الذي في الأسفل انفصالاً دنيوياً لا صوفياً أو ربما صوفياً ولكن بلا دين. لا يبالي الشاعر حتى بما كان ينبغي له أن يحيا من أيام أو أن يحياها «الظل» الذي كأنه – كما يعبّر – أو ذاك الذي كان يصحبه طوال أعوام. كأن «الظل» بحسب بسام حجار هو ماضي الكائن ومستقبله، فهو لن يلبث أن يتحدث عن «ذكريات الشخص الذي وددت أن أكونه».
«طيف منزلي»
مواجهة الموت هنا تبدو بدورها شخصية وشخصية جداً، وإن حضر طيف الأخت (كتب الشاعر سابقاً عنها قصيدة جميلة) أو طيف الأب (كتب عنه سابقاً أيضاً). فالطيف هو «طيف منزلي» وقد يكون توأم النوم (نوم الشاعر الذي يخاطب نفسه). والشاعر لن يبالي بالموت إذا حدث «أمس أم اليوم أو اليوم الذي يلي». بل هو لا يبالي بنفسه إن بقي حياً لأيام أو لأعوام أخرى. من يعش الموت ويسبقه لا يعد يخشاه: إنها حال الشاعر الذي بات ينظر إلى الموت وكأنه وراءه. وهو يدرك أن «الحجر» سيشفى منه، الحجر الذي يصفه بـ «موطنه» و «دارته البعيدة». هو سيشفى من الشاعر عوض أن يشفى الشاعر منه. الحجر الأملس «جماد الطمأنينة» - ما أجمل هذه الصفة – هو الذي يفسر روح الشاعر. ولن يبالي الشاعر بهذا «الحجر» أيضاً الذي هو القبر أو الرخام. و «هناك» يكون الصمت حجراً أو «من معاني الحجر الأخرى». قال مالارمي في قصيدته عن الشاعر فيرلين: «المقبرة تؤثر الصمت للتو».
هذا الصمت، صمت المقبرة، هو نفسه صمت الحجر الأملس، الشاهد على الموت مقدار ما هو شاهد على الروح حين يعمد إلى تفسيرها بصمت.
لا يبالي الشاعر بمثل هذه الأمور ما دام سيكون في حال من «السهو الذي يسري تحت الجلد/كالقشعريرة/ كغيبوبة البياض/ كنعاس المنهوكين...». والسهو يبلغ أوجه عندما يقول: «سأكون ساهياً عني». هكذا يتجلى السهو وكأنه حال بين حالين، بين الغياب والحضور، أو حال في حالين، غياباً وحضوراً. وهذه الحال المزدوجة هي التي تجعل «المزهرية» جسداً وكذلك البيت: «هذه المزهرية التي حفظت روحي» يقول الشاعر الذي كان وصف ضمير الجماعة (نحن) بـ «أرواح البيوت المطمئنة». هذه الظاهرة، ظاهرة إحياء الجماد بصفته أثاثاً منزلياً أو أشياء حميمة وصوراً عرفها كثيراً ويعرفها شعر بسام حجار، حتى ليمكن وصف بعض مراحله بالمرحلة المنزلية حين يكون المنزل أشبه بالعالم الحي الذي يضم كائنات حية أخرى.
ثلاث قصائد طويلة لم يجمع بينها فقط فضاء الموت بل خيط الموت الذي يشبه خيط «أريان» الذي لا بد منه لدخول عالم هذا الديوان، عالم الداخلي، عالمه الحلميّ، عالمه الذي لا حدود له. لا يتأمل الشاعر الموت ولا يستوحيه، لا يرثي ولا يتحسّر، بل يعيش الموت مثل أورفيوس الذي زار عالم الأموات وخرج من هناك يعزف الألحان الجنائزية. هكذا يكتب بسام حجار الموت، مستبقاً إياه، نحو الحياة التي هي القصيدة أو التي هي الشعر في أجمل تجلياته.
الحياة
19/06/06