عن منشورات <فوربي> صدرت مؤخراً الترجمة الفرنسية لكتاب دايان ميدلبروك <تيد هيوز وسيلفيا بلاث، قصة زواج>، وفيه تستعيد المؤلفة سيرة هذين الشاعرين من خلال عرض مأساتهما المزدوجة. هنا مقالة معدة عن الصحف التي تناولت الكتاب.
توفيت سيلفيا بلاث العام .1963 كانت قد استقرت لتوّها في مدينة لندن، في المنزل الذي حلمت أن تسكنه دائماً: منزل الشاعر ييتس الذي كان كاتبها المفضل. يومها كانت قد انفصلت عن زوجها، لتعيش وحدها مع طفليها كما مع رغبتها المحمومة في الكتابة. بالتأكيد كانت تشعر بأن جزءاً كبيراً قد انفصل عنها، بيد أنها كانت تشعر بالسعادة القصوى، لأنها تيقنت أخيراً، بأنها لن تعيش مجدداً في ظل الشاعر تيد هيوز، زوجها.
من هنا بدأت تكتب قصائدها كل صباح، عند الفجر، كي تطرد كآبتها، كي <تبرر خراب حياتها> الذي تعيش فيه. بيد أن الأمل في أن تنشر شعرها قريباً، زاد في إعطائها هذا الأمل بالتمسك في الحياة. لكن الشتاء في تلك السنة كان قارساً، جليدياً. لم تكن سيلفيا تملك أي درهم، وقد أصبحت هزيلة جداً، ومن دون أي حامٍ يشدّ من أزرها، شعرت بأنها <محشورة في قعر كيس، من دون أوكسجين> لتتنفس. وذات ليلة من ليالي شهر شباط، فتحت الغاز... كانت في الثلاثين من عمرها.
ربما ماتت سيلفيا بلاث قبل ذلك بفترة طويلة. ربما في الثامنة من عمرها، حيت التهم مرض السكر والدها، أوتو بلاث، ذلك الشخص الجميل الذي هاجر من دانتزيك إلى الولايات المتحدة، ذلك الشخص المحبّ الذي كان <يجعلها تقفز على ركبتيه وهو يقلد صوت الريح بصوت يشبه صوت الباريتون>. وحين رأتهم يضعون تابوته في حفرة من الأرض، داخل التراب الأحمر، أصابها الذعر بأن يتركوه <هنا، بهذا الشكل، وحده، من دون حماية>. لذلك لم تتوقف طيلة حياتها القصيرة، من أن تطلب نجدة هذا الأب المحبوب. طلبها هذا كان الأساس الذي بنى عليه أطباء النفس علاجهم لها، وهي غالباً ما كانت تغشى باكية، صارخة: <أبتاه، أبتاه، لتعزيني!>.
هذا البكاء كان سمة من سمات سيلفيا بلاث، إذ كانت دموعها تنهار عند أقل مناسبة، حتى لو أرادوا أن يلتقطوا لها الصور: <كنت أشعر بالدموع وهي تغرق عينيّ وتطفح من مآقي، كما لو أنها مياه تطفح من كأس ممتلئة حين نحركها>. ومع ذلك، فإن صورها التي بقيت لذاكرة التاريخ، تظهر لنا هذه الفتاة الجميلة، المليئة بالحياة. ثمة صور لها وهي على شاطئ البحر، ثمة صور أخرى تشبه فيها مارلين مونرو، ثالثة وكأنها عارضة أزياء ترتدي آخر صيحات الموضة. لكن ما ذلك كله، إلا محاولات حثيثة لكي تستطيع أن تتقبل ذاتها. فمثلما عرف عنها، كانت بلاث ثائرة ضد التربية التي كانت تفرض على الفتيات بأن <تكون إما زوجة وإما أمّاً>. مجرد هذه الفكرة، تجعلها تدخل في حلقة من اليأس الكامل، وهذا ما يجعلها تصاب بالضياع التام. فذات ليلة، وفي قلب ظلام مدينة قاحلة، أعطت سيلفيا <ثوبها للريح>، نزعت عنها ما ترتديه، ولتحمل فستانها <كأنه راية استسلام>.
لم تكن مجنونة، بل كانت ترغب في أن تكون حرة، أن تكون نفسها. هذه الرغبة كانت السبب في جعلها تفقد بوصلتها، في الحكم عليها ودفعها وهي في التاسعة عشرة إلى سلسلة من عمليات الانتحار المتكررة، ما أحالها <دمية مسكينة من الجلد والعظم>. ما كانت تعيش هذه الحالة من عدم التوصل إلى قرار حاسم، هذا التناقض الذي يتعبها: من جهة، كانت تجد صعوبة في أن تكون مساوية للآخرين، في أن تكون <نموذجاً للزوجة والأم>، ومن جهة أخرى شراهتها في أن تحيا اختلافها، وعدم قدرتها في أن تخضع للصور الاجتماعية المعهودة. هل كانت بلاث، في ذلك، تخشى في أن تقع فريسة <عدم هذا الانتماء الاجتماعي>؟ ربما، لأنها كانت تفضل على ذلك إما الموت وإما الكتابة.
سيلفيا بلاث: ولدت العام 1932 وتوفيت العام 1963 من جراء <نعاس الغرقى>. وبين هذين التاريخين كانت هناك حياة ما عرفت فيها الزواج لمدة ألفين وثلاثمئة يوم مع الشاعر تيد هيوز، شاعر <معقد>، يتأرجح بين <الابتعاد عن المجتمع والحياة الصاخبة>. شاعر مفتون بعلوم السحر والتنجيم، كما بعلوم الفلك. إلا أن هذا الرابط <القوي> الذي شكله هذان الزوجان استمر طويلاً حتى وفاة هذا الأخير في العام 1998: إذ لم يتوقف هذا <الأرمل>، طيلة حياته، عن نشر المخطوطات غير المنشورة العائدة لسليفيا، جاعلاً منها واحدة من أشهر شعراء الولايات المتحدة، كما أنه وضع نفسه فوق مسرح كتاباته حيث لم يتوقف عن استعادة <ثيمة> فشل الرجال في الحياة الزوجية. كل هذه الأفكار هي التي تصنع أحداث وأفكار السيرة الرائعة التي تكتبها دايان ميدلبروك، إذ إنها تشكل سرد هذا الاتحاد ما بين كائنين متكاملين ومختلفين في الوقت عينه. إنها قصة هذا الزواج الذي ينتمي إلى التاريخ الأدبي بحيث كونه يعكس هذا التعاون بين الكاتبين، بكونه يظهر <ما أعطياه وما أخذاه من بعضهما البعض> إذ قررا <أن يضحّيا بكل شيء من أجل الكتابة>.
رسائل عيد الميلاد
في بعض الأحيان يتّهم تيد هيوز في أن مارس رقابة على بعض نصوص زوجته. لا تبعد مؤلفة هذا الكتاب أي تعرّج يستطيع أن يقودها إلى مبتغاها. من هنا يشكل كتابها هذا دليلاً مزدوجاً عما تعرّض إليه تيد هيوز في حياته، (تعرج أيضاً على سرد الكثير من تفاصيل حياة آسيا ويفيل وهي المرأة التي ترك بلاث من أجلها، وقد انتحرت بدورها عبر الغاز، حاملة طفلتها بين يديها العام 1969). إنها حياة رجل وامرأة اعتقدا عميقاً بأنه يمكن للفن أن يكون علاجاً ذهنياً ونفسياً، خصوصاً الطرق التي كان يعتمدها هيوز لكي يخرج <من هذه الظلمات الغريبة جداً>.
في أي حال لم تتوقف حياة تيد هيوز عند هذا الحد، إذ عاد وعرف حياة صاخبة مع فتاة جميلة هي جيل باربر، دخل في علاقات نسائية مختلفة لدرجة أن إحدى عشيقاته أطلقت عليه لقب <اللحية الزرقاء>، ومع ذلك كله، لم يتوقف الشاعر عن مخاطبة سيلفيا <في العالم الآخر>، التي وقعت فريسة كل هذه المآزق، رهينة عصابها. وكأنه أراد من خلال ذلك أن يبعد عنه الاتهامات التي قالت بأنه كان السبب في انتحار بلاث، اتهامات لم تثنِه بتاتاً عن الإيمان الراسخ بأن بلاث كانت شاعرة كبيرة، عبقرية. لذلك لجأ إلى نشر مراسلاتهما، ليعرض نفسه مرة أخرى أمام حكم الجمهور والقراء.
من هنا حين أعاد ونشر أيضا أعمال سيلفيا بلاث الكاملة العام ,1981 أبدع تيد هيوز شخصية <ت ه>، الذي كان أكثر من مجرد ناشر، بل كان ذاك الشاهد الذي تحدث عن نفسه بصيغة هو.
حين تمّ اختياره شاعر البلاط الملكي البريطاني في العام ,1984 أكد هيوز في خطبته أن <حيوية بلاث التي لم تنضب يوماً، مارست عليه تأثيراً حاسماً>. وكأن الأسطورة تتطلب دوما هذا الأمر: فبعد أن افترقا يجب أن يتحدا مجددا. نشر هيوز <رسائل عيد الميلاد> وهي رسائل شعرية مكتوبة إلى سيلفيا كي يتكلم معها بشكل حميمي. رسائل ليست في النهاية إلا هذه المحاولة لسبر أغوار <مأساته الشخصية مع الأموات>.
كتاب ميدلبروك يبدو أكثر من مجرد سرد لهذه القصة الجميلة والمأساوية، في الوقت عينه، التي عاشها كل من الشاعر الانكليزي والشاعرة الأميركية. هو محاولة لسبر أغوار هذه المتاهة البشرية، التي لا تفرّق إلا لتجمع، وكأن أسطورة العشق لا تستقيم إلا بالموت.
السفير
2006/07/07