1
هذا كتاب بالغ الأهمية، وضعه المخرج الروسي الأشهر اندريه تاركو فسكي صاحب (طفولة ايفان 1962) الذي حاز جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا ثم الأولى بمهرجان سان فرانسيسكو فضلاً عن عشر جوائز أخرى من مهرجانات دولية مختلفة فضلاً عن عمله الملحمي الكبير (اندريه ربليوف 1966) الذي حاز مع بقية أعماله على مجموعة كبيرة من الجوائز الدولية. الكتاب في عنوان «النحت في الزمن» وقد ترجمه أمين صالح ونشرته دار «ميريت» بالقاهرة، وهو سيرة مهنية وضعها تاركو فسكي لعمله بعدما قرأ العديد من المؤلفات حول نظرية السينما من دون ان ترضيه او تشبع حاجته. والكتاب لا يكتفي بمناقشة جماليات السينما بمعزل عن قضايا الفن بشكل عام، بل يتعرض لعلاقة السينما بفن الشعر والأدب ويتطرق إلى قضايا الإيقاع والمونتاج والحرية، والخيال في عمق لا نبالغ عندما نقول بأنه يضعه في صدارة ما كُتب عن السينما وإمكاناتها التعبيرية وعلاقتها بمختلف الفنون. فالإبداع الفني كشكل من أشكال الاتصال متعدد الجوانب على نحو لا متناه. وهو ليس خاضعاً لقوانين مطلقة سارية المفعول من عصر إلى عصر باعتباره متصلاً بالهدف العام، أي فهم العالم فهماً كاملاً. وفي رسالة كتبتها له امرأة شابة تقول: «كم هي عدد الكلمات التي يعرفها الفرد ويستخدمها في معجمه اليومي؟ مائة، مائتان، ثلاثمائة. إننا نغلف مشاعرنا بالكلمات، نحاول ان نعبر بها عن الحزن والفرح وتلك العواطف التي لا يمكن التعبير عنها، روميو كان يخاطب جولييت بكلمات جميلة، زاهية، معبرة، ولكنها بالتأكيد لم تعبر حتى عن نصف ما كان يجول في قلبه كما لو كان يحبس أنفاسه. هناك نوع آخر من اللغة، شكل من أشكال الاتصال: بواسطة المشاعر والصور. ذلك هو الاتصال الذي يمنع الناس من الانفصال عن بعضهم البعض.. وهو الذي يزيل الحواجز بين الأفراد.. كادرات الشاشة تتحرك، والعالم الذي اعتاد ان يكون منقسماً يأتي إلينا ويصبح شيئاً حقيقياً». وأتوقف بك عند فصله الذي يحمل عنوان (الفن.. تألق على المثال) والذي يتساءل فيه «لماذا يوجد الفن؟ ومن يحتاجه؟ وهل يحتاجه احد بالفعل؟» وهو يجيب بان الوظيفة العملية للفن بالنسبة للإنسان «تاج الطبيعة» تكمن في فكرة المعرفة. فالفن مثل العلم وسيلة لمعرفة الإنسان.
2
الفن مثل العلم وسيلة لاستيعاب العالم وواسطة لمعرفته أثناء رحلتنا نحو مايسمى بالحقيقة المطلقة، مع ملاحظة الاختلاف بين هذين الشكلين من أشكال المعرفة: العلمية والجمالية. بواسطة الفن يسيطر الإنسان على الواقع من خلال التجربة الذاتية، أما في العلم فمعرفة الإنسان للعالم تتجه صاعدة سلماً لاينته، وهي تستبدل على نحو متوال بمعرفة جديدة حيث كل اكتشاف يدحضه آخر من أجل بلوغ حقيقة موضوعية خاصة. الاكتشاف الفني يحدث كل مرة باعتباره صورة جديدة وفريدة للعالم وتصوراً مبهماً للحقيقة المطلقة، إنه يظهر ككشف وكأمنية خاطفة ومتقدة للسيطرة حدسياً على قوانين هذا العالم: جماله وقبحه، وداعته وقسوته، لاتناهيه ومحدوديته.
من أجل أن يكون الفرد مشاركاً في أي نظام علمي يقتضي نوعاً خاصاً من التعليم، أما الفن فإنه يخاطب كل فرد على أمل أن يخلق انطباعاً، أن يكون محسوساً، أن يسبب صدمة عاطفية وأن يكون مقبولاً، أن يستهوي الناس ليس عن طريق الرهان العقلاني الذي لا جدال فيه، إنما من خلال الطاقة الروحية التي يشحن بها الفنان عمله.
الفن يولد ويرسخ حيثما يكون هناك نهم أزلي لما هو روحي، إلى المثال: ذلك هو التوق الذي يجذب الناس إلى الفن:
«والفن الحديث قد اتخذ اتجاهاً خاطئاً عندما تخلى عن البحث عن معنى الوجود في سبيل توكيد قيمة الفرد لمصلحته الخاصة، لكن الذاتية في الإبداع الفني لا تفرض نفسها بل تخدم فكرة أخرى أكثر سمواً، الفنان خادم من حيث يحاول أن يدفع ثمن الموهبة الممنوحة له بفعل معجزة ما».
والاتصال هو الوظيفة الرئيسية في الفن، نظراً لأن الفهم المشترك يمثل القوة القادرة على توحيد الناس، وروح المشاركة هي واحدة من أكثر المظاهر أهمية في الإبداع الفني. الفن لغة سامية تساعد الناس على تحقيق الاتصال في ما بينهم وتفصح عن معلومات بشأن ذواتهم كما تساعدهم على استيعاب وتمثل تجارب الآخرين. يقول:
«شخصياً، لا أستطيع أن أصدق أن الفنان يعمل بقصد التعبير عن الذات فقط، فمثل هذا التعبير يصبح بلا معنى ما لم يلق استجابة من الآخرين. إن خلق رباط روحي مع الآخرين عملية موجعة ولا تحقق ربحاً، لأنها فعل تضحية، لكنها لا يمكن أن تكون جديرة بالمحاولة إذا كان القصد فقط أن يستمع المرء إلى صداه الخاص".
السينما والأدب
في علاقة الأدب بالسينما يعبر (تاركو فسكي) في كتابه (النحت في الزمن) عن سعادته لرؤية علامات تشير إلى خط فاصل بين السينما والأدب رغم أنهما يمارسان تأثيراً نافعاً وقوياً على بعضهما البعض. وهو يعتقد أن السينما في ما هي تتطور سوف تتحرك بعيداً ليس عن الأدب فحسب ولكن أيضاً عن بقية الأشكال الأدبية الأخرى. فهذه الأشكال بما تحمله من مبادئ تعمل كعائق أمام تحقيق السينما لشخصيتها المميزة، وتجعلها تفقد قدرتها على تجسيد الواقع مباشرة بوسائلها الخاصة، بدلاً من تحويل الحياة بمساعدة الأدب أو الرسم أو المسرح. لأن محاولة تكييف الأشكال الفنية الأخرى مع الشاشة سوف تؤدي دائماً إلى تجريد الفيلم مما هو سينمائي على نحو مميز، وتضاعف من صعوبة معالجة المادة بطريقة تستفيد من الموارد الفعالة للسينما بوصفها فناً بذاته. وقبل هذا وذاك فإن إجراء كهذا يقيم حاجزاً بين مؤلف الفيلم والحياة.
على العكس من ذلك يرى (تاركوفسكي) أن الروابط الشعرية - منطق الشعر في السينما - تبدو مرضية على نحو رائع وملائمة لإمكانية السينما بوصفها أكثر الأشكال الفنية شعرية وصدقاً. وهو يشعر بالتوافق مع هذه الروابط الشعرية أكثر مما يشعر مع الكتابة التقليدية المتكلفة التي تربط الصور من خلال التنامي الطولي للحبكة.
وهو حين يتحدث عن الشعر فإنه لا ينظر إليه كنوع أدبي وإنما ينظر إليه كوعي بالعالم وطريقة خاصة للاتصال به. هكذا يصبح الشعر فلسفة ترشد الإنسان طوال حياته. وإذا كانت ولادة وتطور الفكر خاضعان لقوانين خاصة بهما، فإن الاستنباط الشعري هو أقرب هذه القوانين التي بواسطتها يتطور هذا الفكر، فمن خلال الصلات الشعرية يتم تصعيد وتعميق الشعور، وبواسطة هذا المنهج يستطيع الفنان أن يبني من الأجزاء المنفصلة وحدة كاملة، وأن يفكر أبعد مما هو مقدر له. هذا المنهج هو الوحيد الذي يضع الجمهور في مستوى متكافئ في إدراكه للفيلم.
وهو يطالبنا بأن نتأمل مصير (فان جوخ) ونتأمل (ماندلستام) و(باسترناك) و (شابلن) وغيرهم لنرى أي طاقة عاطفية وشعرية هائلة حملها هؤلاء الأشخاص البارزون، الذين يحلقون، والذين لايظهر فيهم الفنان كمستكشف للحياة فحسب وإنما أيضاً كمبدع للكنوز الروحية العظيمة والجمال الخاص الذي ينتسب للشعر فقط، فنان كهذا يستطيع أن يتبين التصميم الشعري للوجود، وهو قادر على تخطي قيود المنطق المتماسك وكشف التعقيد العميق وظواهر الحياة الخفية. إن التحف الفنية تستمر في العيش وفق قوانينها الخاصة، وتمارس تأثيراً عاطفياً وجمالياً هائلاً حتى عندما لانتفق مع معتقدات المؤلف الجوهرية، وهي تعتمد كلياً على أولئك الذين يتلقونها، أولئك القادرين على الإحساس بها، وما ذلك إلا لأن: «التفكير وجيز، بينما الصورة مطلقة».
IBASLAN@YAHOO.COM