"شيء واحد مؤكد هو أن التحفة الفنية لا تولد إلا حين يكون الفنان صادقا تماما في معالجته لمادته. الأحجار الكريمة لا توجد في التربة السوداء، بل ينبغي البحث عنها قرب البراكين. والفنان لا يمكن أن يكون صادقا جزئيا كذلك الفن لا يمكن أن يكون تقديرا تقريبيا للجمال": هكذا يحلق اندره تاركوفسكي إلى شاهق ليعرّف مفهومه للتحفة الفنية في السينما التي عرفته مخرجا من ألمع أسماء صنّاعها، كما يمتد مفهومه هذا إلى الأدب والفنون إجمالا، كما يمتد إلى كتابه هذا "النحت في الزمن" الذي كتبه عام وفاته 1986 متأثرا بسرطان الرئة ونشرته بالعربية "دار ميريت"، ترجمة أمين صالح، الذي ضنّ على القراء بتعريف شامل لتاركوفسكي، وأهم أعماله، والأسباب التي أدت إلى اختياره العيش خارج موطنه السوفياتي في إيطاليا وألمانيا ثم فرنسا. ربما تأثر المترجم بمعرفته العميقة بالمخرج العبقري الذي رحل قبل نحو من عشرين عاما، مخلّفا بسبعة أفلام فقط أثرا عميقا في محبيه، وفي مسيرة الفن السابع بشكل عام.
قبل التعريف الواجب بتاركوفسكي ربما يكون مناسبا توضيح سبب اختياره عنوان الكتاب اللافت "النحت في الزمن"، وهو مفهوم مختزل وعميق للإخراج السينمائي كما يراه: "نستطيع أن نحدد هذا العمل باعتباره نحتا في الزمن. مثلما يأخذ النحات كتلة من الرخام ويزيل كل ما هو ليس جزءا منه، واعيا لأشكال عمله المنجز، كذلك يفعل صانع الفيلم ب"كتلة الزمن" المتشكلة من مجموعة صلبة، متينة، وضخمة، من الوقائع الحية، وهو يقطع ويرمي كل ما لا يحتاج إليه، محتفظا فقط بما ينبغي أن يكون عنصرا للفيلم المنجز، وبما سوف يثبت أنه متمم للصورة السينمائية".
اندره تاركوفسكي هو ابن الشاعر الروسي آرسيني تاركوفسكي، ولد عام 1932، ودرس الإخراج السينمائي في المعهد العالي للسينما في موسكو عام 1961 حيث تتلمذ على المخرج والبروفسور ميخائيل روم، وفي 1962 حصل على الجائزة الذهبية من مهرجان البندقية، ثم أنجز مجموعة أفلامه المميزة: "اندره روبولوف" 1971، "سولاريس" 1972، وحصل على جائزة التحكيم الخاصة من "مهرجان كان"، "المرآة" 1975، "الدليل" 1980، "زمن الرحلة" 1982 (وثائقي)، "نوستالجيا" 1983، "القربان" 1986، كما أخرج مسرحية "هاملت" عام 1977 على خشبة مسرح لينكوم في موسكو. حصل على لقب "فنان الشعب" عام 1982، رغم ما أثارته أفلامه من جدال واسع بين جمهور انقسم بين منتقد للذاتية والتشظي لبعض هذه الأفلام وخصوصاً فيلم "المرآة"، وفريق آخر يرى في أعماله تعبيرا عن ذواته وتناولا شعريا للسينما، على ما أشار الكثير من النقاد والسينمائيين الكبار من معاصريه مثل برغمان الذي وصفه بالمعجزة. ولعل أصل الاصطلاح النقدي عن "شعريته السينمائية" يعود إلى إنجازه مشاهد عديدة في فيلم "المرآة" حوّل فيها بعض قصائد والده إلى صور سينمائية، وهو مصطلح سعى هو نفسه إلى تحقيقه كما أشار في مواضع عديدة في هذا الكتاب. أما سوء الفهم بينه وبين المسؤولين في بلاده فظل مستمرا، اعتراضا منهم على تفسيره الحوادث السياسية في أفلامه، ولعل هذا ما دفع به للعيش خارج موطنه الذي ظل يعبر عنه وعن حنينه إليه حتى وفاته.
قد يبدو الكتاب سيرة ذاتية لأعماله السينمائية، ومفهومه هو عن صناعة السينما من واقع خبرته العميقة، وطريقته في تفسير مسعاه للاقتراب من براكين الفن السابع بحثا عن الجواهر النفيسة. لكنه، أيضا، كتاب عن جوهر الفن وفلسفته، ودلالاته العميقة، وارتباطه الوثيق بالبحث الإنساني النبيل عن المعرفة، وألغاز الوجود والحياة. كتاب يقول إن الفن متصل بالحقيقة الروحية المطلقة، المتوارية عنا في أنشطتنا الوضعية والذرائعية. وهو أيضا كتاب في فلسفة الصورة ومعناها، تتوالى فيه خبرة الفنان المقطرة الصافية، المدهشة التي تصوغ الفلسفة العميقة للصورة وكيفية تطويع التقنية لكي تحقق الصورة المبتغاة، حيث يبيّن كيف أن الصورة الحقيقية هي تلك التي تكشف للمتلقي العمى الكابوسي الذي يغرق فيه.
يفتتح تاركوفسكي كتابه بمدخل عن قصة الكتاب الذي كان مجرد مجموعة من الملاحظات التي اعتاد أن يدوّنها عن خبراته اليومية، فكّر لاحقا أن يحولها إلى كتاب يعالج فيه أفكاره عن الإخراج والمعضلات الفنية التي واجهها، وكيفية التصدي لها بحدسه، حدس الفنان الحقيقي. الكتاب هو محاولة لفك شفرات ذاك الحدس، حيث يورد مع فيلمه الأول "طفولة إيفان"، أسباب انجذابه إلى القصة، وكيف طورها بصريا على مستوى الخيال، ثم كيف واجه مناطق التنافر بين المنطوق والمكتوب والتحايل عليه. لكن هذا التحايل ليس تقنيا إنما يتحرك من يقين خاص تمكّن منه، مؤداه أن منطق الشعر في السينما يبدو ملائما على نحو مثالي لإمكانات السينما، "بوصفها أكثر الأشكال الفنية صدقا وشعرية".
ويروي كيف أن خبراته الأولى حققت مشروعه بتفاديها كل الكليشيهات والأفكار المستهلكة التي غذّتها قرون من العمل المسرحي "ووجدت لسوء الحظ في السينما مكانا تأوي إليه وتستريح".
يدخل تاركوفسكي السينما من الصورة، لكنه يوضح أن خلق الصورة هو جزء من الفن بشكل عام، الذي يرى أنه بحث عن المعرفة كجزء من نضال بشري بدأته البشرية منذ أكلت حواء من التفاحة المحرمة. ويقارب بين العلم والفن معتبرا أن المعرفة العلمية، الباردة، للعالم، أشبه بصعود سلّم لانهائي، في حين أن المعرفة الفنية تقترح منظومة لانهائية من العوالم التي قد يتمم أحدها الآخر، أو يتناقض معه، لكن لا يمكن أن يلغي بعضه بعضا. ويشرح الفروق بين الفنون، من دون أن يغفل مرة أخرى أن الشاعر هو الأقرب إلى فن الصورة لأنه يفكر فيها.
لكن الصورة أيضا هي وسيلة الإنسان الذي استطاع بها الإمساك بالزمن بوصفه "اللهب الذي يعيش فيه مطلق النفس البشرية"، وفي اعتبار أن وظيفة السينما هي "بناء صرح ضخم للزمن"، على ما يقول مارسيل بروست. هذا الصرح بدأ مع اللقطات الأولى لفيلم "وصول القطار إلى المحطة" الذي صوره أوغست لوميير وحقق فيه سبق إمساك الإنسان بالزمن ونسخه على الشاشة.
لكن سرعان ما انحرفت السينما عن الفن لتشق طريقها في مسار بدا أكثر أمنا من وجهة نظر الربح المادي، واستغلت السينما لتدوين الأداء المسرحي، وهذه خطيئة أخرى كررتها بلا وعي، أدت إلى اختزالها في مجموعة من الصور الإيضاحية والإخفاق في استثمار إمكانها الثمين في طبع فعلية الزمن على الشريط السينمائي. هذا الإمكان هو مكمن قوتها، على ما يرى تاركوفسكي، بصفتها المحرض لاستقطاب أي شخص للذهاب إلى السينما، بحثا عن الزمن الضائع أو المبدد، ولهذا يكون عمل المخرج هو النحت في الزمن.
يتناول الكتاب مفهوم العمل السينمائي الذي يخدم هذه الأفكار، سواء في كتابة السيناريو، أو الموسيقى، أو في عملية المونتاج، وهو في الأساس يرى أن لا عنصر يمكنه وحده أن يتضمن أي معنى في عزلته عن المكونات الأخرى. ويرفض أفكار السينمائيين الذين أعطوا المونتاج قيمة كلية بوصفه عملية تحقيق الفيلم، مؤكدا أن الزمن المطبوع في الكادر هو الذي يملي مبدأ المونتاج الخاص. فالزمن يجعل نفسه محسوسا في اللقطة السينمائية عندما يشعر المخرج، والمتلقي في الضرورة، بشيء مهم، صادق، ذي معنى، ويستمر إلى ما بعد الحوادث على الشاشة. "أن تشعر بأن ما تراه في الكادر ليس محددا بتصويره البصري، بل يشير إلى شيء يتمدد وراء الكادر نحو اللاتناهي... يشير إلى الحياة". ولا يرى تاركوفسكي أن المونتاج في هذا المعنى خصوصي من خصائص السينما فقط إنما يمتد إلى الفنون الأخرى كلها أيضا. كما يرى أن وعي المخرج الفطري بالحياة للمخرج هو الذي يصنع إيقاع العمل الفني.
وفي كل العناصر السينمائية التي يتناولها الكتاب، يتجلى فهم تاركوفسكي العميق لما ينبغي للسينما أن تكون عليه، وتطويعه لهذا الفهم بشكل نظري، كما يوضح ذلك عمليا بخبرته الذاتية في أفلامه. لذلك فإن نزعته الروحية التي يخلطها كثيرا بأفكاره حول الفن، لا تبدو منفّرة بسبب وعيه العميق بالجوانب التقنية وبالمنهج العلمي، وهي التي تبرر انحيازه إلى روحانية الشرق، لكنه الانحياز الواعي بما هو إيجابي هنا وهناك، من دون دعائية مجانية. فتاركوفسكي يحترم جمهوره ويقدّر إحساسه بكرامته، عندما يصون الحس الاحترافي والمهارة، وهو ما أتقنه تاركوفسكي نثرا، وصورا سينمائية شعرية على السواء.
النهار
27 تشرين الثاني 2006